حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الوظيفة المحورية للدولة

بقلم: خالص جلبي

 

دعتني كلية الحقوق بمدينة سطات لإلقاء محاضرة حول الدولة ودورها في تحقيق السلم المجتمعي، ومن قبل أيضا دعتني جمعية «مدى» في الدار البيضاء لتناول موضوع الدولة المدنية، وأعترف أنا من خلال رحلة أخذت مني ستين عاما في مجالات المعرفة وحقول العلم، بأن العديد من المصطلحات والكلمات أخذت مني وقتا قبل أن تتبلور، ومنها: المجتمع ما هو؟ والدولة ما هي وظيفتها وما معناها؟ ما هي الثقافة؟ ما هي الحضارة؟ وكيف نفهم الوجود والنظام الكوني؟ وما معنى الغيب وعالم الشهادة؟ وما هي ميكانيكية الدعاء؟ وبين أيدينا الآن بحث في غاية الحساسية، ومن الضروري الإمساك بمفاصل البحث ومعرفة بنيته تماما.

ولفهم هذا السر المغيب ينقل الدكتور «إمام عبد الفتاح إمام»، في كتابه «الطاغية»، هذه الواقعة عن الفيلسوف «توماس هوبز»: «جرت العادة عندما يموت الملك في فارس، في العصور القديمة، أن يترك الناس خمسة أيام بغير ملك وبغير قانون، بحيث تعم الفوضى والاضطراب جميع أنحاء البلاد، وكان الهدف من وراء ذلك هو: أنه بنهاية الأيام الخمسة وبعد أن يصل السلب والنهب والاغتصاب إلى أقصى مدى، فإن من يبقى منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد؛ إذ تكون التجربة قد علمتهم مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع إذا غابت السلطة السياسية».

ويبدو أن الخليفة الأموي «يزيد» قام بتجربة اجتماعية ناجحة من هذا النوع، عندما استباح مدينة النبي (ص) كما يذكر المفسر والمؤرخ «ابن كثير» عن وقعة «الحرة» فضربت بالمنجنيق واستبيحت ثلاثة أيام كاملة، وسرقت ونهبت واغتصبت فيها ألف عذراء من بنات الصحابة، أو كما يقول ابن كثير «ومفاسد عظيمة ليس لها حد ولا وصف». وتمكن أيضا مراجعة كتاب «الخلافة والملك» لأبي الأعلى المودودي في هذا الصدد، وهو من كتبه النادرة وصعب الحصول عليه، وهو في مكتبتي بطبعة رديئة قام بنشرها صديقي «عبد الحليم أبو شقة رحمه ربي»، مع ذلك قرأتها بتمهل وتمعن.

وأمام هذه المتحارجة التي لم يجد الفقهاء لها مخرجا، قالوا إنه لا يجوز الخروج على الإمام الفاسق لما في ذلك «من إثارة الفتنة ووقع الهرج، وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء».

ولم يخطر في بالهم سوى حلين لا يتقدمان في طريق الحل إلا بإلغاء كل حل؛ بين «العبودية» و«الانقلاب الدموي». وغاب عن بال الجميع كيفية صناعة المجتمع، وفق المنهج النبوي بالمقاومة السلمية. وما زلنا حتى اليوم محتجزين في قبضة السيف الأموي.

وإذا كان الأمويون أنجبوا عمر بن عبد العزيز العادل، ثم اغتالوه؛ فإن العباسيين ذبحوا الأطفال وأكلوا على سجادة يحشرج تحتها بنو أمية، ونبشوا قبورهم، ثم صلبوا بقايا جثة أحدهم. وفي الصراع على السلطة اجتز المأمون رأس أخيه الأمين. وأما سلاطين بني عثمان فكانوا يستفتحون العهد السلطاني الجديد بقتل جميع إخوتهم، بفتوى من شيخ الإسلام وبآية من القرآن، وأن «الفتنة أشد من القتل»، وهو تشريع وضعه السلطان محمد الفاتح، ففتح باب الدم بين الإخوة. وهو يؤكد جدلية الجبت والطاغوت بتعبير القرآن، أو ازدواجية وتحالف مافيا الأديان مع مافيا السياسة، كما في كتاب عبد الله الحر وهو السيد هشام علي حافظ رحمه الله رحمة واسعة.

وفي كتاب «القوة» لـ«روبرت غرين» عن «القواعد الثماني وأربعين للإمساك بمفاتيح السلطة» يذكر قصة عجيبة عن «إيفان الرهيب»، أن سكان العاصمة فوجئوا في 3 دجنبر من عام 1564م بمغادرة الملك موسكو إلى قرية صغيرة، وتركها لمصيرها بدون حاكم. وخلال شهر ذاق الناس الأمرين من الفوضى والقتل، وفي 3 يناير 1565م أرسل إيفان إلى أهل موسكو رسالة يقول فيها إنه تنازل عن العرش. هرع رجال الكنيسة وأعيان البلد إلى قرية الملك إيفان، يستعطفونه الليالي ذوات العدد أن يعدل عن رأيه ويعود إلى العرش، وينقذ البلد من الفوضى. قال لهم في النهاية إذا كانت هذه رغبتكم فسوف أعود، ولكن بشرط واحد هو: «السلطة المطلقة» وليس غيرها أو دونها. وعندما عاد إيفان الرهيب إلى موسكو، هتف الناس طويلا بحياة العاهل العظيم، واعتبروا ذلك اليوم عيدا للحرية والشكر، وهم يضعون أغلال العبودية في أعناقهم فهي إلى الأذقان فهم مقمحون.

ويذهب الفيلسوف البريطاني «برتراند راسل» في كتابه «السلطانPower » إلى أن أعظم مشكلة اجتماعية تواجه البشر، هي التوفيق بين الرغبات الفردية والذوبان الاجتماعي، «إنه من المجدي للمخلوقات البشرية أن تعيش في جماعات، ولكن رغباتها تظل فردية إلى حد كبير، خلافا لرغبات النحل التي تعيش في خلاياها، ومن هنا تنشأ المتاعب الاجتماعية والحاجة الماسة إلى قيام حكومة». ولكن المشكلة هي أنه بقدر الحاجة إلى ولادة الدولة، بقدر مخاطر نشوئها من احتكار السلطة بيد طاغية، أو رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون. ويقرر «راسل» أن الحل صعب بين «فوضى الغابة» و«طغيان الدولة»، وأن «الفوضى والطغيان يتشابهان في نتائجهما المدمرة، ومن الضروري التوصل إلى حل وسط، إذا أريد للمخلوقات البشرية أن تنعم بالسعادة».

ويذهب «ابن خلدون» في مقدمته إلى أن «الاجتماع الإنساني ضروري وأن الإنسان مدني بالطبع»، وينطلق في نظريته هذه من ضرورة الاجتماع الإنساني بأمرين: «الحماية» و«الغذاء»، فلا يمكن للفرد الواحد أن يطعم نفسه كسرة خبز بدون اجتماع الأيادي والعديد من الصناعات.

جاء في المقدمة أنه حتى: «قوت يوم من الحنطة لا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة»، ولكن هذا الاجتماع لا يعني بالضرورة ولادة «الدولة». ولذا اعتبر الفيلسوف «هوبز» أن الإنسان ليس حيوانا سياسيا، ولا هو مدنيا بالطبع، ولكن تطور الدولة كان عملا ثقافيا أكثر من كونه أمرا غريزيا، وهو بهذا ينقض نظرية «أرسطو» عن الإنسان.

 في علم النفس يرسم «أبراهام ماسلو» الحاجات الإنسانية في هرم من مكون من خمس طبقات، يأتي في القاعدة منه طبقة مكونة بدورها من خمس حاجات فيزيولوجية هي «الطعام، الشراب، اللباس، السكن، والجنس»، ويأتي فوقها مباشرة طابق «الأمن الاجتماعي». وجمعت الآية بين الأمرين «فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»، وفي قمة الهرم يأتي «تحقيق الذات»، وهو حصر على 5 في المائة من الناس، وما بينهما يأتي «روح الانتماء» و«تقدير الذات»، حسب ماسلو.

ولكن ما معنى هذا كله؟ يبدو أن الأمر يحتاج إلى مزيد من عناء الشرح وفيض التفصيل.

وحسب الفيلسوف راسل، فهو يقسم القوة إلى ألوان، كما في تحول الكهرباء إلى حركة وحرارة وبرودة، بين رفع السكان في مصعد، وعصارة جزر، ومكيف للسخونة والبرودة، وكلها تتم بالكهرباء، وما زلت أتذكر تلك الجملة من معهد غوته في مدينة أولم الألمانية (في ضاحيتها في قرية الفلاح الصغير الأزرق بلاوبويرن Blaubeuren) وأنا ألثغ بالكلمات الأولى من تعلم اللغة الألمانية فقرة: «الكهرباء تعمل كل شيء Strom macht alles». وهكذا الأمر في علم الاجتماع في تعريف الدولة، أن مركزيتها القوة واحتكارها، وبأصناف شتى، منها القوة العارية، ويستخدم الفيلسوف «برتراند راسل» لذلك مثل شد الكبش من قرونه بالقوة كي يلحقه بقية القطيع، كذلك فإن المسدس المتدلي من الخصر عند رجل الأمن، يخبرك أن الدولة هنا جاهزة بالقوة المسلحة التي يمكن أن تخطف الأرواح، ولكن الناس اعتادت المنظر، فإذا طغت الدولة واقتحمت بعناصر الأمن والجيش بيوت العباد كما حصل في الربيع العربي، لأدرك تماما سطوة الدولة وتحول المجتمع إلى بيئة مظللة بالخوف والجوع والموت، كما حصل في مناطق شتى في العالم العربي؟

يبدو بشكل واضح أن الدولة نظام سياسي ولد على القوة واحتكار العنف، وسحب العنف من كل أفراد المجتمع وتنظيماته ومؤسساته مثل «شفاطة» قوية سحبت كل العنف من الجميع واستأثرت بكل العنف في يدها، مقابل «توفير الأمن» للأفراد الذين يعيشون في كنفها، وهو ثمن باهظ للتخلي عن الفردية، مقابل الاندماج في الحياة الاجتماعية، ولكن في الوقت نفسه لم تنشأ الحضارة، لولا هذه الغلالة الواقية من الأمن التي تحسم النزاعات بين الأفراد.

إن منظرا بسيطا من حادث ارتطام سيارتين وحضور البوليس يعطينا معنى حضور الدولة من خلال ممثليها «الشرطة»، حاملين مسدساتهم جاهزين لردع أي متمرد على النظام، وهي ما يسميها (راسل) القوة العارية. نحن تعودنا منذ الطفولة على رؤية الشرطة بأسلحتهم، أو القوات المسلحة في استعراضاتها العسكرية للصواريخ والمدافع، تحمل التهديد المبطن لمن تسول له نفسه تعكير الأمن. وهي من جانب خفي عار كبير على الجنس البشري باستعراض أدوات القتل، فما وظيفة الدبابات في أوكرانيا شتاء عام 2022 مع اجتياح روسيا الجار بالمجنزرات والدبابات والطيران إلا القتل.

ولكن الجنس البشري ليس إلا في أول رحلته الأنثروبولوجية، والحضارة ليس لها من العمر إلا ستة آلاف سنة، مقابل وجود الإنسان على الأرض منذ ستة ملايين سنة، ومرحلة العنف هذه تشبه وضع الطفل في أول رحلة الحياة وهو لا يعرف كيف ينظف نفسه، وهي مرحلة لا نخجل منها في طفولتنا، لأنها ضريبة التطور. و«احتكار العنف» بيد الدولة كان من جهة جيدا، لأنه في ظل الدولة نشأت الحضارة، كما كان بناء الدولة بالمقابل لعنة على البشر كما رأينا في كمية قتل الناس وتهجيرهم في سوريا، فمع وضع اليد على القوة والجند والمال أصيبت الدولة «بمرضين»، كل واحد منهما يمثل فظاعة لا تطاق:

(أولا) برمجة الحروب مع دول الجوار 

طالما كان الأمن مضمونا في النطاق الداخلي للدول وليس بين الدول، أي لم يوجد من يحسم النزاعات بين الدول، مثل الذي حصل داخل الدولة الواحدة في هيمنتها على حسم النزاعات بين الأفراد. فهذا هو مصدر نشأة الحروب بين الناس، فالحرب ظاهرة مترافقة في الصراع بين الدول، أو أثناء تحلل الدول. ويعلق «نيتشه» على هذا بأن وزارات الحرب كلها تطلق على نفسها «وزارة الدفاع»، وليس ثمة وزارة في العالم تسمي نفسها وزارة الهجوم، ويتابع نيتشه أنها النية السيئة المبيتة أن تنتظر عدوانا من جارك، فأنت جاهز للضرب والحرب.

وكما يقول «علي الوردي» في كتابه «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث»، في تفسيره «سبب التنازع البشري»: أن «الحكومة استطاعت أن تحسم النزاعات بين رعاياها بواسطة أجهزة القضاء والشرطة وما أشبه، وهذه الأجهزة قد تكون متفسخة أو جائرة، ولكن وجودها خير من عدمه، فلولاها لتحول النزاع بين الأفراد إلى قتال عنيف وأكل بعضهم بعضا. ويصح أن نقول مثل هذا عن الحروب التي تنشب بين الدول، فهذه الحروب ستظل مستمرة إلى أن تظهر قوة عالمية قاهرة تحكم في منازعات الدول. إن الدول الآن تعيش في المرحلة نفسها التي عاش فيها الأفراد، قبل ظهور الحكومات المحلية، فكل دولة تريد أخذ حقها بحد السيف».

 (ثانيا) الطغيان الداخلي على الأفراد

فمع تملك القوة يبدأ البشر بادعاء الألوهية، رأينا هذا واضحا في ملوك آشور وأور والفراعنة، أو ممارسة ذلك بدون ادعائه حتى اليوم في جو الديكتاتوريات. وفي سوريا سجد الناس لصورة بشار البراميلي، أو زعقوا بحناجر إجرامية: «الأسد أو نحرق البلد»، فكذبوا في كل شيء، ولم يصدقوا إلا بهذه الجملة الفظيعة. ينقل عن رجل المخابرات الجوية في سوريا «جميل الحسن» سوف أقتل مليونا وليرسلوني بعدها إلى محكمة لاهاي. وهذا الذي كان. وعند هذه النقطة يقف أيضا «جواهر لال نهرو»، رئيس الهند الأسبق، في كتابه «لمحات من تاريخ العالم»، عن فظاعة الدولة الحالية وقوة تسلحها ومدى بطشها. رأينا ذلك في مجرزة حي التضامن في دمشق، التي نشرتها «الغارديان» البريطانية وجندي يسوق 40 شخصا مكتوفي الأيدي، معصوبي العيون إلى حفرة، فيرسلهم إلى الموت بقهقهة الشيطان وسيجارة يدخنها.

  

يرى جون لوك في «الحكم المدني» أن: «الطغيان يبدأ عندما تنتهي سلطة القانون»، وأن «الشرطي الذي يتجاوز حدود سلطاته يتحول إلى لص أو قاطع طريق». بل إن «جرمه يكون أعظم، إذا صدر عمن عظمت الأمانة التي عهد بها إليه». أما «جون ستيوارت ميل» فيرى أن هذه الأحادية كارثة «أولئك الذين يريدون إخماد الرأي الآخر هم أنفسهم غير معصومين من الخطأ، ومن ثم فهم عندما يرفضون الإصغاء لأي رأي مخالف، فإنما يزعمون لأنفسهم العصمة من الخطأ».

إن جذر «الطغيان»، حسب القرآن، مرتبط «بامتلاك القوة والمال والنفوذ»، أي المرض الفرعوني «ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه»، «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى»، «قارون وفرعون وهامان = ثلاثي الطاغية والكاهن ورجل الاقتصاد». وكما يقول اللورد «أكتون»: «كل سلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة». وموقف الطاغية كما يرى «مونتسكيو» هو «موقف ذلك الذي يقطع الشجرة من أجل قطف ثمرة». وينقل «راسل» عن «كونفوشيوس» هذه القصة، فعندما «مر على مقربة من جبل «تاي» أبصر امرأة تقف إلى جانب أحد القبور، وتبكي بمرارة وحرقة. فسارع المعلم إليها، وبعث بتلميذه «تسي ـ لو» يسألها: إنك لتبكين يا امرأة وكأنك احتملت من الأحزان فوق الأحزان. فردت المرأة تقول: وكذاك الأمر فقد قتل نمر من قبل والد زوجي في هذا الموقع، وقد قتل زوجي أيضا. وها هو ولدي قد مات الميتة نفسها أيضا. فقال المعلم: ولماذا .. لماذا لم تتركوا هذا المكان؟ فردت المرأة: ليست هنا حكومة ظالمة. فقال المعلم آنذاك: تذكروا قولها يا أولادي: إن الحكومة الظالمة أشد فظاعة من النمر.

والخلاصة أن أخطر أمراض الجنس البشري اثنان: «الحرب بين الدول» و«الطغيان ضمن الدولة الواحدة»، ورسالة الأنبياء جاءت في هذا المفصل الخطير؛ فدعوا إلى تحديد جرعة عنف الدولة بما يخدم غرض «الأمن» لا يزيد، وأن الدولة تقوم عن «تراض منهم وتشاور»، فهذا هو التوحيد سياسيا، أي خضوع جميع البشر لكلمة «السواء» وأن لا يتخذ بعضهم بعضا «أربابا» من دون الله.

ويكفي كل دولة بضعة آلاف من العساكر، ولا حاجة إلى شراء طيارات بمليار دولار ونيف. ويأتي الجهاد ـ بشقه المسلح ـ ضمن هذه المنظومة فهو ليس «أداة» بيد «تنظيم مسلح» يقوم بقلب أنظمة الحكم بالقوة، بل أداة بيد «دولة راشدية» وصلت إلى الحكم برضى الناس، كما أنه ليس أداة «لنشر الإسلام»، بل دعوة لإقامة «حلف عالمي» لرفع الظلم «الفتنة» عن الإنسان أينما كان ومهما دان، فيمن أخرج من دياره أو منع من حرية المعتقد والتعبير، وهو مفهوم مكرر في القرآن، ويمكن في هذا مراجعة آخر سورة «البقرة» عن قصة طالوت وجالوت وداوود، ومبرر طلب القتال حين تقدم الملأ من بني إسرائيل إلى نبي لهم يريدون القتال في سبيل الله، فكان جوابهم واضحا: وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، وهو المبرر نفسه الموجود في سورة «الحج»، حين يأذن الله بالقتال «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا»، وهي قصة من صفحتين من السورة من أجمل القصص القرآنية.

وهكذا فالجهاد موجه ضد الظالمين ولو كانوا مسلمين، وغير موجه ضد الكافرين عندما يكونوا عادلين. والآية واضحة جدا: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم» (سورة «الممتحنة»، الآيتان: 8 و9)، والجهاد «بشقه القتال المسلح أو الحرب العادلة» بهذا يشبه مؤسسة الدفاع المدني على مستوى الأرض لإطفاء الحرائق حيث نشبت. 

وتمكن مراجعة كتابين هامين في هذا، الأول لجنرال وفيلسوف بريطاني هو «ديفيد فيشر» في كتابه «الأخلاقيات والحرب»، ومبررات الحرب العادلة الأربعة «قضية عادلة + قوة مخولة + نية حسنة + وآخر خيار»، والقضية العادلة بدورها هي ذات أربعة أمور «التطهير العرقي + حرب الإبادة + وجرائم حرب + جرائم ضد الإنسانية»، وهو من كتب «عالم المعرفة» رقم 414. وبالمناسبة فإن نموذج جرائم الحرب تلك التي قام بها الرأس الأسود «غالبا أصوله ألمانية شفارتز كوبف = Schwartz kopf»، هي تلك التي قام بحرق الجيش العراقي المنسحب من الكويت، في منطقة المطلع، بحقد عجيب، فحوله إلى جحيم وقودها الناس والحجارة والحديد.

والثاني هو الكتاب الذي كتبه «ويليام بيري» عن رحلته على شفا الحرب النووية، وكان الرجل وزير الدفاع أيام كلينتون، وهو أيضا من سلسلة «عالم المعرفة» رقم 468.

وعن حلف «الفضول» للدفاع عن المستضعفين وكان في الجاهلية، قال عنه رسول الله (ص): «لو دعيت له في الإسلام لأجبت»، وهو المفهوم الذي تبلور عند فيلسوف التنوير «إيمانويل كانط» عندما دعا في كتابه «نحو السلام الدائمZum ewigen Frieden» إلى قيام «أمم متحدة» بمجلس برلمان عالمي، عنده قدرة التنفيذ يزيل الظلم من الأرض، ويغلق مجلس الأمن الذي يعيق ولادة العدل في العالم وينهي حالة الحرب. وما يحتاجه الناس اليوم هو أمم متحدة تحكمها كلمة السواء، ويحذف منها حق «الفيتو» ومجلس الأمن التعيس، وتملك قدرة تنفيذ القرارات الموافق عليها بالأغلبية على شكل ما في ما يشبه برلمانا أرضيا، بذلك تضع الحرب أوزارها. ولعل ثلاثة أهداف أولى لهذا المجلس: التخلص من الأسلحة والفقر والجوع معها + إنهاء حالة الحرب + عملة عالمية مربوطة باقتصاد سليم وليس كما تفعل أمريكا بطباعة الورق الأخضر منذ حرب فيتنام وفك الدولار عن الذهب، وينصح في هذا بقراءة متأنية لكتاب «صندوق النقد الدولي» وهو أيضا من سلسلة «عالم المعرفة» رقم 435، تأليف «إرنست فولف Ernst Wolf».

بقي أن نُعَرفَ القارئ بحلف الفضول أنه أحد أحلاف الجاهلية الأربعة التي شهدتها قريش، وقد عقد الحلف في دار عبد الله بن جدعان التيمي القرشي، أحد سادات قريش، وذلك بين عدد من عشائر قبيلة قريش في مكة، في شهر ذي القعدة سنة 590 م، بعد شهر من انتهاء حرب الفجار بين كنانة وقيس عيلان، وافق عليه بنو هاشم وبنو تيم وبنو زهرة، حيث تعاهدوا فيه على أن: «لا يظلم أحد في مكة إلا ردوا ظلامته». وقد شهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف قبل بعثته، وله من العمر 20 سنة، وقال عنه لاحقا: «لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت».

 

نافذة:

أولئك الذين يريدون إخماد الرأي الآخر هم أنفسهم غير معصومين من الخطأ ومن ثم فهم عندما يرفضون الإصغاء لأي رأي مخالف فإنما يزعمون لأنفسهم العصمة من الخطأ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى