حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفنفسحة الصيف

عندما يراجع الفلاسفة تجربة الإغلاق الشامل في زمن “كورونا”

كتاب "فرصة الحياة" لـ"أندريه كونط سبونفيل"

مرت خمس سنوات تقريبا على ظهور ما يعرف بجائحة “كورونا” والتي ما يزال كثيرون يعانون تبعاتها الصحية، جسديا ونفسيا. ومن الناحية الفكرية فقد تمكن هذا الفيروس من إلغاء الفروقات النظرية والإيديولوجية بين الأنظمة السياسية والاجتماعية، لكون كل دول العالم اختارت الإغلاق التام بتطبيق حظر شامل على الحياة العامة، وفرضت على مواطنيها ملازمة منازلهم، بمعنى أنها اختارت الصحة على الحرية. وفي خضم هذا “الزلزال” الصحي ذي الأبعاد الفكرية العميقة، خالف الفيلسوف أندريه كونط سبونفيل الإجماعَ حول أزمة كوفيد-19 بتقليله من خطورتها، مشيرًا إلى الخطر الذي يُشكله الإغلاق على الاقتصاد والحريات، ومجادلًا بأن حياة الشباب أغلى من حياة كبار السن.

مقالات ذات صلة

 

الصحة.. هل هي أولى من الحرية؟

في نص نُشر عشية الثورة الفرنسية، أكد إيمانويل كانط أن التفكير ليس مهارة منفردة يحتفظ بها كل شخص لنفسه على الرغم من القيود التي تفرضها قوة عليا أو ظروف استثنائية. وأكد كانط “ما مدى اتساع ودقة تفكيرنا، إذا لم نفكر بطريقة ما في مجتمع مع الآخرين الذين ننقل إليهم أفكارنا والذين ينقلون إلينا أفكارهم” (ما هو توجيه الذات في الفكر؟). إن الاستخدام العام للعقل هو البوصلة الوحيدة التي لدينا لتوجيه أنفسنا في أوقات الأزمات. هذه القناعة، المولودة مع عصر التنوير، هي جوهر المناقشة التي نحن على وشك قراءتها.

بعد أيام قليلة من وصول جائحة كوفيد-19 إلى فرنسا وقرار حكام العالم بوضع البلاد في حالة إغلاق، كسر أندريه كونت سبونفيل، دون التشكيك في شرعية هذا القرار، إجماع الرأي من خلال طرح أربع قناعات قوية: هذا الوباء ليس خطيرًا كما كان يُخشى؛ من المرجح أن تكون العواقب الاقتصادية مُرهِقة، لا سيما على الشباب؛ ويجب ألا يُحل الاهتمام بالصحة محل الاهتمام بالحرية؛ وأخيرًا، فإن حياة كبار السن، بمن فيهم حياته، ليست بنفس قيمة حياة الأجيال الشابة.

ترك هذا التدخل انطباعًا قويًا، وأكسب الفيلسوف العديد من المقابلات، مؤكدًا في كل مرة موقفه. ولكن، من الغريب أنه على الرغم من تناقضه مع البيانات الواقعية والمبادئ الأخلاقية التي تقوم عليها السياسات التي تتبناها معظم الحكومات وموافقة الشعب، إلا أنه لم يكن موضوع أي نقاش عام ومتناقض ومنطقي. بدا لنا من الضروري إجراء هذا النقاش. ولهذا الغرض، استعنا بفرانسيس وولف، الذي يرى في رد الفعل الجماعي تجاه كوفيد تقدمًا سياسيًا وأخلاقيًا للبشرية. أندريه كونت-سبونفيل فيلسوف مادي ملحد كما يعترف هو بنفسه، قريب من مونتاني وسبينوزا، بينما فرانسيس وولف إنساني طوباوي وكوني، مستوحى من أرسطو وكانط.

وبينما ينتميان إلى آفاق فلسفية مختلفة، إلا أنهما أيضًا صديقان حميمان يتبادلان المعارف ويُقدران بعضهما البعض. هل بفضل هذه المعرفة، تتجلى مواجهتهما، ثمرة ساعات من الحوار، في دقة وعمق في آن واحد؟ على أي حال، ينبغي أن يتيح هذا التعقل العلني للجميع تكوين فكرة “أدق” و”أشمل” عن الوضع، كما قال كانط.

فإن كانت الفلسفة على مستوى “المفاهيم” هي تاريخٌ من المفاهيم الكبرى التي تفاعلت وأثرت في التغيرات المهمة لتصوراتِ ومفاهيم وقوانين وأخلاق البشرية، إذ أن الفيلسوف طبيبُ الحضارة، فإنها على مستوى “نمط الحياة”، هي تحسين القدرة على التفكير والعيش، فالفلسفة هنا تفرد الفعل الذي يجعل المرء على درجة من النقد العقلاني وله قيمةٌ معرفية من تجاربه وحياته .

نستلهم من “كورونا” وفتراتِ المَخاطر والاستثناء الحاجة إلى إعادة التساؤل عن فاعلية طرق التفكير وأنماط العيش في مقابلة القلق والخطر، فما نراه جديرًا أيضًا بالتناول والأهمية فيما يساعدنا في حياتنا الواعية؛ هو الرفع من قيمة التفلسف؛ ولذلك نجد من فضائل الجائحة العالمية أن توقظ فينا الوعي الإنساني، فتجعله متأهباً للمراجعة الذاتية النقدية الشاملة .

ومن أبرز تلك المراجعات أن الكثير من الفلاسفة والمفكرين كتبوا حول أزمة “كورونا” واستمرار الجائحة، وقد بشروا بأن عصر ما بعد كورونا لن يكون البتة مشابهاً لما قبل كورونا، فالنماذج الإرشادية القديمة التي حكمت العالم ستتغير لا محالة بسبب الأزمة التي عمقت هشاشة الإنسان المعاصر، وأعادته إلى حجمه الطبيعي بما هو كائن ضعيف يدعي القدرة الخارقة للسيطرة على الطبيعة ؛ كما فجرت “كورونا” تساؤلات عميقة حول: الطب، والسياسة، والبيوتكنولوجيا، والسلطة الحيوية، والإنسان الكوروني، وفلسفة الجائحة، واقتصاد الفيروسات، وحرب الكمامات، وسقوط “العولمة التي اعتبروها نهاية للتاريخ، وانتصاراً للنموذج الرأسمالي الغربي وقيمه ومفاهيمه وثقافته. لقد جعلت عولمة للكوارث، التي أصبحت تُهدد استمرار الحياة على الأرض، وكل تلك المتغيرات والحقائق، من الفلسفة ضرورة حياة في عالم ما بعد كورونا، وذلك من أجل أن تُعطي معنًى جديدًا أكثر إنسانية للحياة. ولكي تُصلح بالفكر الفساد الناشئ عن تردي أحوال السياسة والمجتمع والاقتصاد، عبر ممارسة دورها التاريخي في النقد وكشف الزيف. وممارسة دورها التاريخي في صياغة المفاهيم والتصورات والقناعات الحاكمة والضابطة لسلوك البشر والدول”.

 

“كورونا” بعيون الفلسفة

في هذا السياق تأتي الفلسفة في زمن “كورونا” لتعلن للجميع بأنها تمثل مرشفاً خصباً، وأن الفلاسفة ليسوا  بعيدين عن النظر في مستجدات الواقع والنهل من هذا المرشف، ومعالجة مختلف الأزمات التي مرت بها الإنسانية منذ العصور الأولي، وصولاً إلى اللحظة الراهنة وما تعانيه من أزمات، لعل من أبرزها وراهنها أزمة كورونا، فالفلسفة هي تفاعل بين مختلف ما تنتجه الثقافة، بل هي جزء فيها، فهي منذ نشأتها الأولي كانت تبحث في مختلف المشكلات المطروحة أمامها، كمشكلة الوجود، أو المعرفة، أو القيم، وها هي تعاود الطرح المتجدد لمشكلة القيم وفق مقتضيات العصر، وها هي تعاود الطرح المتجدد لمشكلة القيم وفق مقتضيات العصر وحاجة الناس إليها، وهذا ما كان لسنوات طوال حتى قبل ظهور هذه لجائحة، فقد كان الفلاسفة سباقين إلى البحث في مختلف المخاطر واستشراف وقوعها، وهذا ما كان يعبر عنه الكثير من الفلاسفة.

عندما تداولت وسائل الإعلام العربية ومنصات التواصل الاجتماعي الأخبار المتعلقة بكورونا منذ ظهورها في مدينة ووهان الصينية، حيث بدأ التعاطي على الطريقة الاعتيادية، باعتبار هذه الأخبار التي تهم الشأن الصحي أمرا  معهودا، لكن ما فتئ المرض أن تحول إلى وباء Epidemie ؛ بمعني الانتشار السريع لمرض معد في مركز معين أو جهة معينة وهي الصين، ثم إلى جائحة Pandemic التي تعني المستوى الأقصى لانتشار المرض المعدي في العالم بأسره ؛ ليتحول العالم بطريقة دراماتيكية إلى فضاء موبوء لا يمكن التنبؤ بمكان الفيروس فيه، ولا منحى انتشاره وانتقاله بين الناس. وقد أحدثت جائحة “كورونا” منعطفا تاريخيا في حياة البشر على مختلف الأصعدة الخاصة والعامة، وبمختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية، بطريقة يصعب التحكم في وتيرتها أو فهم ظواهرها أو التنبؤ بمستقبلها؛ فرغم أن العالم يعيش على وقع ثورة معلوماتية حولت العالم إلى قرية صغيرة مرتبطة بقواعد بيانات ضخمة، إلا أن ذلك التدفق المعلوماتي لم يساهم في فهم الجائحة بقدر ما أحدث إرباكا شمل مختلف المجتمعات والدول من خلال صدور أخبار كاذبة أدت إلى إشاعة الذعر والخوف بين الناس، حيث تباينت الآراء المتداولة حول جائحة كورونا بين اعتبارها غضبا إلاهيا، أو مؤامرة حاكتها القوى الخفية التي تحكم العالم.

أثارت مقالة الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين “اختراع جائحة” عاصفة من الجدل، وانقسمت على إثرها معظم المداخلات الفكرية بين مؤيد ومعارض. يَنتقد أغامبين في مقالته حالة الذعر التي تسببت فيها حكومات العالم في سياق تعاملها مع فيروس كورونا؛ إذ جرى استخدام هذه الحالة في فرض حالة ً طوارئ وضعت حدودا على قدرة المجتمع على التواصل وحرية الأفراد على الحركة. وبهذا، يذهب سبونفيل أيضا إلى أنه يجب أن لا يخاف المجتمع البشري الجائحة، ولكن عليه الخوف من تنامي سلطة الدولة في السيطرة على مختلف جوانب حياة الإنسان.

يستعيد سبونفيل في كتابه هذا تأكيده أن الجائحة هي الذريعة الجديدة لفرض حالة الاستثناء، إذ عمدت الحكومات إلى فرض حالة الطوارئ من أجل توسيع صلاحيات الأجهزة التنفيذية على حساب الجهازين القضائي والتشريعي. فقامت باسم “الوضع الاستثنائي” المزعوم بتعليق حكم القانون؛ ما يجعل من المواطنين موضوعات لتعسف الدولة وبطشها. إن هذا التعليق للقانون، يجعل من التمييز بين الديمقراطية والدكتاتورية أمرا صعبا.

ويشير سبونفيل إلى أن حجة “الحرب على الإرهاب” التي أعلنها الرئيس الأميركي جورج بوش عقب أحداث 11 شتنبر 2001 قد استنفدت أسبابها لفرض “حالة الطوارئ”، لذا فإن الحاجة إلى استدامة حالة الطوارئ دفعت إلى “اختراع الجائحة”، واصفًا الفيروس بأنه شبيه بالرشح، وهذا التحول، على مستوى الذريعة، لا يوازيه تحول ُ على مستوى البراديغم الموجه للحكم.

إن انتشار جائحة ” كورونا” أثبت أن النموذج النيوليبرالي المعولم المنفلت من كل ضوابط لا يشكل ظلمًا لملايين من البشر فحسب، بل يمثل خطرًا على وجودهم نفسه، ففي لحظة الحقيقة اختفى التصدر الزائف الذي تمحورت حوله اهتمامات الناس وتشكلت كبرى الاقتصادات لعوالم صناعة الترفيه الطاغية من لاعبي كرة القدم وفنانين وسياسيين وغيرهم. في لحظة الحقيقة تحولت إيطاليا، صاحبة الاقتصاد الثامن عالميًا من تقرير “من يحيى ومن يُترك لمصيره” إلى “اتركوهم يموتون.. ليس لدينا إمكانات”، وتحول السويد، البلد الذي يفترض أنه يملك تاريخًا طويلًا من الاشتراكية الديمقراطية ودولة الرفاه إلى “ابقَ في البيت وتناول براسيتامول.. ليس لدينا إمكانات لاستيعاب المزيد”.

لقد أثبت هذا الفيروس المجهري أن التاريخ الحديث والمعاصر هش وقابل للكسر، وكثيرا ما انحنت الإنسانية نتيجة تأثير عوامل ومؤثرات عديدة ومتداخلة من ضمنها الأمراض والأوبئة والعدوى؛ ففي التاريخ الإنساني كم من بلاء ووباء أفرز تغييراً في موازين القوى السياسية، وأسقط إمبراطوريات عتيقة، وأقام ممالك جديدة. إن الجراثيم المميتة والميكروبات المعدية شيء مخيف، ولهذا لم تفلح محاولة عالِم الجراثيم الفرنسي المعروف “لويس باستور” في تلطيف الشعور السلبي نحوها، عندما قال (ليست الجراثيم هي من نحتاج أن نقلق منها ولكن ضميرنا الداخلي). التاريخ الإنساني مثخن بكوارث الأوبئة المميتة التي تسببت في زوال إمبراطوريات وممالك كانت يوماً ما مسيطرة ومزدهرة.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى