
يونس جنوحي
“وأذكر أنه في يوم عودة السلطان إلى بلده في 16 نونبر 1955، كنا متسمرين جنب المذياع في بيت الصديق “سيدي أحمد الشرقاوي”، نستمع إلى التعليقات المواكبة للعودة، وكلها كانت تؤرخ لحدث سياسي ووطني مشهود ضحى الكثيرون من أجله وفي طليعتهم جلالة السلطان وعائلته، مما جعل مشاعرنا تهتز، ولم أشعر بالدموع إلا وهي تنهمر على خدي حتى نظرت إلى صديقي فوجدته بدوره يُداري دموعه، فبادرته:
– لماذا تبكي؟
فردَّ من جهته سائلا:
– ولماذا تبكي أنت؟
فأجبت:
– إنها دموع الفرح.
فقال:
– بل هي دموع الخوف مما ستؤول إليه حال البلاد بعد الاستقلال”.
هذه الفقرة تلخص التضاربات التي كان جيل بأكمله، في قلبها. جيل الطلبة الذين انفتحوا على الواقع السياسي في فرنسا، وتكون لديهم إلمام بالقضية المغربية، من زاوية مغايرة.
يتحدث مولاي المهدي العلوي في مذكراته، عن أنشطته السياسية والنضالية في فرنسا خلال سنة 1955 وما بعدها أيضا:
“خلال وجودي بباريس، توطدت علاقاتي مع عدد من الشخصيات الفرنسية، وفي طليعتها السيد روبير فيرديي Robert Verdier، رئيس الكتلة الاشتراكية في البرلمان الفرنسي آنذاك، وكان من أصدقاء عبد الرحيم بوعبيد الذي تعرف عليه عندما زاره في السجن عام 1952.
وبالحديث عن النشاط السياسي للطلبة المغاربة والقادة السياسيين، فقد توطد التنسيق بين الطلبة والعمال والتجار المغاربة بعد نجاح العمل الذي قام بإرساء دعائمه كل من عبد الرحيم بوعبيد، عبد الرحمن اليوسفي، عبد الرحمن بن عبد العالي وآخرين غيرهم.
وتواصل هذا المجهود معززا بالاتصالات التي كنا نجريها مع المثقفين الكاثوليك، الذين تعرفنا عليهم بواسطة السيد روبير بارا Robert Barrat ، وكانوا يعملون في دوريةLe Témoignage Chrétien” “.
بفضل هذا الوعي السياسي المبكر، واكب مولاي المهدي العلوي، ورفاقه وزملاؤه الطلبة، مستجدات المطالبة بالاستقلال ليس في المغرب وحده، وإنما في شمال إفريقيا بشكل عام..
وقد ذكر في مذكراته: “في هذا الصدد، فإلى جانب متابعاتي المنتظمة لما يصدر في الصحافة الفرنسية من تقارير ومعلومات، فقد كنت متابعا جيدا للسجالات السياسية الرفيعة التي كانت تشهدها جلسات البرلمان الفرنسي، باعتبارها تشكل، في نظري، فرصة مميزة لتشكيل الوعي السياسي، وترمومترا لقياس الحرارة السياسية لدى النخبة الفرنسية، بل إنني كنت أتدبر أمر حضور بعض الجلسات، منها جلسة إسقاط حكومة “مانديس فرانس” في عام 1955، وكان من أعطاني بطاقة الدخول، هو “روبير فيرديي Robert Verdier “، وهكذا تابعت كيف انتهى الأمر برئيس الوزراء إلى تقديم استقالته إثر فشل سياسته الخاصة بمنح الاستقلال للمغرب وتونس. ففي 31 يوليوز من تلك السنة، اعترفت فرنسا بحقوق تونس في الاستقلال الداخلي، لكن خلافا وقع بين الحبيب بورقيبة ومنديس فرانس، ذلك أن بورقيبة كان مصرا على الاستقلال الكامل لتونس، بينما كان “مانديس” يعتبر أن تونس تتم ترضيتها بالاستقلال الداخلي دون الاتجاه إلى أبعد من ذلك، لأن الاستقلال الكامل لتونس أو المغرب سيكون له تأثير على الجزائر، وأن ذلك سيشجع الجزائريين على المطالبة بالاستقلال.
أما بالنسبة للمغرب، فإن عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة وقفا بالمرصاد لمحاولات كل من “مانديس فرانس” ثم “إدغار فور” بأن يتنازلا عن الشرط الأولي للتفاوض (إعادة الملك محمد الخامس إلى العرش)”.
بدأت الكماشة تضيق على ممارسة العمل السياسي في المغرب مع انتهاء سنة 1955. في ذلك الوقت، كان مولاي المهدي العلوي يزور المغرب في العطل الدراسية، لكن هذا لم يكن يعني أنه كان “في عزلة” عن العمل السياسي ومستجدات الساحة المغربية.
وقد أفرد مولاي المهدي العلوي في هذه المذكرات، فصلا كاملا أسماه “ميلاد الاتحاد” -يقصد حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية-.. والمعروف أن الاتحاد لم يولد إلا سنة 1959، بعد الانشقاق الشهير عن حزب الاستقلال.
ويحتفظ العلوي بذكريات كثيرة، وكواليس بعضها لم يسبق أن نُشرت تفاصيلها قبل أن يثيرها مولاي المهدي العلوي هنا.. وكلها تكشف، وتوثق، لمرحلة سياسية طالها النسيان، ومُحيت بعض ملامحها وشخوصها أيضا.
يصف العلوي هذه الأجواء قائلا:
“عندما كنا نعود إلى المغرب في العطل، كنا نتصل بالقيادات الحزبية وبالمناضلين، فكان يبدو لنا أن الحزب موحد، بينما كانت هناك، في العمق، تجاذبات بين تيارين داخل حزب الاستقلال: تيار يريد الاستحواذ الدائم على المسؤوليات في الأجهزة الحزبية، وتيار يطمح إلى ترسيخ ثقافة سياسية أخرى، بدل ترسيخ سيطرة الحزب الوحيد، وحين جهر بموقفه تعرض أصحابه للمضايقات والإقصاء، مما أدى إلى دعوات لتصحيح الحزب وتصفيته من العناصر الانتهازية، الأمر الذي أسفر عن انتفاضة 25 يناير 1959، فضلا عن تأسيس الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال يوم فاتح فبراير من السنة نفسها”.





