
كريم العمراني «جوكر» الحكومات:
ولد محمد كريم العمراني، في فاتح ماي 1919، بمدينة فاس. اشتغل في قطاع التجارة قبل أن يدخل تدريجيا مواقع متقدمة من عالم المقاولات، إلى أن اخترق المجال السياسي بعقلية الكسب والخسارة، شغل عدة مناصب حكومية، أبرزها رئاسة الحكومة.
كان يدبر الشأن السياسي بمنطق غريب، فهو الوزير الذي لا يتابع ما تكتبه الصحافة المحلية والأجنبية، ونادرا ما يرد على ما تكتبه صحف المعارضة، وحين اجتمع إلى أول حكومة عهد إليه بوزارتها الأولى، خاطب الوزراء بأنه لا يريد بيانات، بل أرقاما مدققة بأنواع المشاكل والحلول.
يقول الصحافي أحمد لشهب الذي عايشه: «لم يرغب في تولي أي منصب حكومي، بما في ذلك وزارة الاقتصاد، ومن الوقائع اللافتة في مساره أنه رأس أول مجلس اقتصادي، قبل أن تنص الوثيقة الدستورية لعام 1996 على تأسيس مجلس بهذه المواصفات. فقد فتح عينيه على قطاع الفوسفاط مبكرا، ونقش اسمه بالحرف اللاتيني الأول على مقر المجمع الشريف للفوسفاط، وإن هوت أسعاره في البورصة العالمية أو ارتفعت».
عين ثلاث مرات كوزير أول في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، لكنه أشرف على ست حكومات، بالنظر إلى التعديل الحكومي الذي يقضي العرف المغربي بإجرائه في منتصف كل ولاية حكومية. المرة الأولى التي عين فيها كانت في 6 غشت 1971 إلى 2 نونبر 1972، أما الثانية فكانت في نونبر 1983، والثالثة في غشت 1992، حيث بقي وزيرا أول إلى غاية 1995، حين تم تعيين عبد اللطيف الفيلالي على رأس الحكومة، ولقد وصف حينها بـ«جوكر» الحكومة.
ساهم العمراني في بروز القطاع المصرفي، سيما من خلال مصرف المغرب الذي خرج إلى الوجود عقب اندماج الشركة الإفريقية للأبناك، التي كان أحد المساهمين فيها، ومصرف ليون المغرب. بالإضافة إلى إنشاء البنك المغربي للتجارة الخارجية كذراع للدولة من أجل المساهمة في تنمية وتطوير الصادرات المغربية، وخاصة بالمكتب الشريف للفوسفاط.
حين توفي محمد كريم العمراني، في شهر شتنبر 2018، عن عمر 99 عاما، بمنزله بالدار البيضاء، تلقت أسرته برقية تعزية مؤثرة من الملك محمد السادس. ومما جاء فيها: «لقد كان الفقيد الكبير من الوطنيين الصادقين المتشبثين بثوابت الأمة ومقدساتها، والعاملين بكل إخلاص ونكران ذات واجتهاد في خدمة وطنهم. فتقلد أكبر المسؤوليات في عهد والدنا المنعم جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني، أكرم الله مثواه، مستشارا لجلالته ووزيرا أول، ومديرا عاما للمكتب الشريف للفوسفاط، ومؤسسا للعديد من المؤسسات الاقتصادية المغربية، مبرهنا خلال قيامه بما تقلده من مهام عن كفاءته وتبصره، وحنكته كرجل دولة ورجل اقتصاد مشهود له ببعد النظر وثاقب الفكر».
سعيدة: «باطرونة» مثل أبي
قبل اعتزال السياسة أسس محمد كريم العمراني مجموعة اقتصادية أصبحت تعد من أكبر الشركات المغربية، خلفته على رأسها ابنته سعيدة العمراني، كما شغل الراحل بالموازاة مع ذلك منصب رئيس مدير عام المكتب الشريف للفوسفاط.
ابنته سعيدة من مواليد غشت 1946، وهي سيدة أعمال بالفطرة، وبحكم الانشغالات السياسية لوالدها فقد قام بتعيينها نائب رئيس مجلس إدارة مجموعة «سفاري» المتخصصة في الصناعات الغذائية والفلاحية والمعاملات المالية، وأضحت عضوا في «مؤسسة محمد الخامس للتضامن»، و«الاتحاد العام لمقاولات المغرب». وعينت رئيسة مجلس الرقابة في «مصرف المغرب»، ومدير عام الشركة المغربية للتجهيز والتزويد والاستيراد. كما صنفت في قائمة «فوربس الشرق الأوسط لأقوى النساء العربيات لعدة سنوات، وصنفتها مجلة «جون أفريك» كواحدة من أكثر سيدات الأعمال التجارية نفوذا في قارة إفريقيا. وعادت المجلة نفسها لتصنفها ضمن الخمسين سيدة إفريقية الأكثر تأثيرا.
حين أقحم محمد كريم العمراني ابنته في صلب المعاملات التجارية، تبين للجميع أن الرجل ليبيرالي التفكير، ففي بداية الستينيات لم يكن للمرأة علاقة بتدبير المرافق الاقتصادية، ولكن الفتاة وكان عمرها لا يتجاوز العشرينات، استطاعت أن تخترق هيئات كانت محجوزة للرجال، ممثلة للهولدينغ العائلي الذي تسيره، بسبب الانشغالات العديدة لوالدها، خاصة بعد أن أصبحت عضوا مؤثرا في الفيدرالية العامة لمقاولات المغرب، أو ما يعرف بهيئة «الباطرونا»، وتم الاعتماد عليها كأداة في مشاريع الدبلوماسية الاقتصادية عبر نادي رؤساء المقاولات المغربية الفرنسية منذ تأسيسه سنة 2012.
ورثت سيدة الأعمال سعيدة كريم العمراني، الكثير من خصال والدها الراحل، رجل الدولة كريم العمراني. لكن أكثر ما ورثته عنه، ليس فقط تبصره، وحنكته كرجل دولة ورجل اقتصاد مشهود له ببعد النظر وثاقب الفكر، ولكن أيضا وطنيته وتشبثه بثوابت الأمة المغربية. فهي إلى جانب مسؤولياتها المتعددة، لا تدخر جهدا، في أن تكون عضوا نشيطا في مجال العمل الاجتماعي من خلال مؤسسة محمد الخامس للتضامن، وأن يكون للمؤسسات التي تشرف على إدارتها حضور وازن وقوي في مغرب متماسك ومتآزر. إلى جانب مشاغلها الكثيرة وطموحاتها التي بلا حدود، تخصص السيدة العمراني حيزا كبيرا من وقتها لدعم الأنشطة الاجتماعية والتضامنية، وإلى جانب مسؤوليتها في مؤسسة محمد الخامس للتضامن، فإنها أيضا تحرص على القيام بالعديد من المبادرات الخيرية، سواء بشكل مؤسساتي أو شخصي.
سعيدة تسقط دعوى قضائية بالتقادم
عاشت سعيدة فترة عصيبة من حياتها قبل رحيل والدها بسنوات قليلة وامتدت لما بعد رحيله، حين اتهمت بسوء تدبير أموال الدعم الفلاحي، وهي القضية التي عمرت طويلا في ردهات المحاكم، إذ دامت أكثر من عشر سنوات، طالت فيها المتابعة 14 شخصا.
التحقيقات كشفت أن الدعم الحكومي المخصص للفلاحين، والذي بلغ حوالي 9 ملايين سنتيم لكل جرار، لم يصل إلى مستحقيه، وبعد جلسات ماراثونية صدر قرار المحكمة بسقوط المتابعة الجنائية بالتقادم، مع عدم الاختصاص في الشق المدني، ليطوى بذلك ملف ضخم كان حديث الرأي العام، دون إدانة.
في سنة 2016، حصلت سعيد العمراني على وسام ملكي من درجة قائد، من يد الملك محمد السادس الذي أثنى على والدها واعتبره من رجالات الدولة، كما نالت وساما من الجمهورية الفرنسية، من درجة فارس فيلق الشرف.





