حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

فلسفة الدعاء

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

سألني حسن الكردستاني فقال: إذا كان كل الكون يسير بقوانين وسنن ثابتة وصارمة، فما الجدوى من الأدعية؟ والجواب أنه يجب فهم القوانين، ثم فهم ما هو الدعاء، وثالثا علاقة الدعاء بسنن الكون. فأما سنن الله فلن تجد لسنة الله تبديلا.. ولن تجد لسنة الله تحويلا.. لابتغيير مجراها، ولا برفعها، ووضع بديل جديد عنها، نحن هنا أمام معادلة من ثلاثة مجاهيل. الجهد والدعاء والعلاقة بينهما، فكيف نفهم هذا المركب الذي آمن به المتقون، وكفر به الملحدون؟

في أمريكا وألمانيا قلما يستخدمون الدعاء في حياتهم اليومية، لسيطرتهم على سنن مجريات الأمور، وهامشية المجهول في حياتهم، وإذا حدث فدعوا فهو حين اليأس إذا هم فيه مبلسون. وعندنا وبفعل هول مساحة المجهول ندعو كثيرا، ولو في موعد وإنجاز معاملة. فنقول إن شاء الله، ويعني لن تحدث إن شاء الله. وتصب على رؤوسنا المصائب بقدر الأدعية، فكسلنا وتثاقلنا يمحق بركة كل دعاء، مع أن الإله يقول ادعوني استجب لكم. أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون؟
فنحن ندعو فلا يستجيب الرب الدعاء، أما الألمان واليابانيون فلا يدعون وينجزون أكثر منا كثيرا، ونحن من الداعين على مدار الساعة، فأين الخلل؟ والله يقول: وإذا سألك عبادي عني، فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون.

الرب يقول ادعوني استجب لكم. ولكنه يستجيب بطريقته الخاصة؛ فهو يستجيب لليابانيين والطليان والألمان بدون دعاء، ولا يستجيب لأدعيتنا العدوانية بهلاك تسعة أعشار الجنس البشري ونحن المسلمون؟ فهل هناك ربان في العالم؟ كما استنكر يوسف المحبوس فقال: يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير، أم الله الواحد القهار؟

علينا أن نفهم إذن أن الجهد لا يأتي في موضع الدعاء، كما أن الدعاء لا يشتغل في مكان الجهد، ولكن لا بد منه في ظلمات لا نرى فيها نورا. ولكن كيف؟

إذا كان الكون يقوم على السنن، والعقل يتفاعل معها ليكون العلم، والتسخير هو السنة التي تحكم الوجود، فأين موضع الدعاء في تشكيل ثقافة الإنسان المسلم؟
والدعاء مخ العبادة.

للإجابة عن هذا السؤال الذي يشغل بال المؤمنين، وتندر عليه خروتشوف، الذي أطاح به الرفاق في مكتب الحزب السياسي الذي حكم الاتحاد السوفياتي في ما مضى؛ فقال إن الدعاء لم ينفع أحدا، وكذلك فقد سخر منه فرانسيس بيكون، حين قيل له إن الله استجاب دعاء المؤمنين في لحظات غرق السفن. وكان جوابه، ولكن كم عدد الذين لم يستجب لهم؟

وأنا شخصيا كتبت كتابا كاملا في نقد العقل المسلم، ووقفت أمام هذا الموضوع لتجليته بين رغبة المؤمنين وسخرية الملحدين، ففتح الله لي روزنة في فهم آلية أو ما سميتها (ميكانيكية الدعاء)؛ فالإنسان يسبح في اللحظة الواحدة بين عالم الشهادة والغيب، والله وصف نفسه بأنه (عالم الغيب والشهادة).

ولتقريب المفهوم نقول إن الجهد الواعي يقابل عالم الشهادة، والـــــدعــاء يقابـــل عالم الغيب.والوجود بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى هو عالم شهادة، أي لا يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.

أما العالم بالنسبة إلينا فهو عالمان: عالم شهادة وعالم غيب.

الغيب هو في الواقع ثلاثة غيوب:

الغيب هو المستقبل الذي لا نعرفه (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء)..كذلك الغيب هو أحداث الماضي التي مرت، ولا سبيل لنا إلى معرفتها (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر

إن العاقبة للمتقين).

كذلك فالغيب ثالثا هو حوادث الحاضر التي لا يعلمها الإنسان، ولو كانت أمام عينيه، وهو لا يدرك حقيقتها بالضبط، كما غاب عن الجن الذين كانوا بخدمة النبي سليمان عليه السلام أنه لم يكن إلا جثة: (فلما خرّ تبنت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).
إذن يمكن تعريف الغيب على نحو ثلاثي:

أن الغيب هو ما غاب عنا فلم ندركه، أياً كان في مستوى الزمان أوالمكان.
وجمعت هذه المعاني الثلاثة هذه الآية الرائعة (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين). فهذه الإحاطة الشاملة لله سبحانه وتعالى مالك مفاتيح هذه الأسرار هو كل الغيب وأكثر منه، فهو الذي يعلم السر وأخفى من السر. ثم إن عالم الغيب والشهادة في حالة ديناميكية وليس إستاتيكية، أي أن هناك تغيرا في المقادير والعلاقات. فمثلا بإمكاننا اليوم أن نرى العظام تحت اللحم بواسطة أشعة رونتغن، كما يمكن لنا أن نحيط بمقادير إنتاج الهورمونات في الوقت الحاضر، أي أصبحت لنا عيون جديدة، وهكذا كبَّر عالم الشهادة أمام أعيننا، فما كان من عالم الغيب قديما أصبح من عالم الشهادة حديثا. ولكن الوجود بالوقت نفسه هو في حالة تمدد وكبر وزيادة (يزيد في الخلق ما يشاء)، وهذا يعني بكلمة أدق أن معرفتنا تبقى محدودة، مهما تعمقت وامتدت.
وتتمثل هذه المعرفة في أرقام محدودة أمام الكون اللامتناهي. ونحن نعرف أن نسبة الرقم إلى اللامتناهي تساوي الصفر في عالم الرياضيات، وأفضل نظرية للمعرفة تلك التي تغطي المواجهة تماما.

إن الوجود الذي نعيش فيه، فيه حركة تداخل الليل والنهار، والظلام والنور، المعرفة والجهل، الشهادة والغيب. والتغطية العلمية هي التي تتناول كافة السطوح والمجالات والحقول المعرفية، فعالم الشهادة يواجه بالجهد الواعي، أما عالم الغيب فهو افتقار وانكسار إلى الله الخالق بارئ الإنسان من العدم، فيقابل بالدعاء، للصلة بمنبع الوجود.
الدعاء بكلمة أدق هو لنا أكثر من كونه لله!

وهكذا ففي اللحظة الواحدة يتأرجح الإنسان بين عالمي الشهادة والغيب، أو أولا عالم الغيب ثم الشهادة، ولتكون المواجهة صحيحة كان لا بد من المزج الدائم بين العمل الواعي والدعاء. وكذلك تدخل عملية النقد الذاتي ضمن هذا الإطار الأخلاقي، فكما أنها حاسة وعي لمطاردة الأخطاء، كذلك هي التفات إلى الداخل للتطهير.

وبالتالي التوجه بالدعاء إلى الله بوضع الذنوب، والتثبيت على الطريق، والنمو في الاكتمال الإنساني، وتذكير الإنسان نفسه دوما أن الخطأ له أقرب من حبل الوريد..
الدعاء إذن هو المواجهة العلمية لورطة الوجود كلها.

والدعاء تواضع سقراط في اكتشاف مساحة جهله. والدعاء هو يقظة الروح في اكتشاف أعماق الذات. وهي معاني يعرفها من ذاقها وينكرها من ران على قلبه، فهو عن الحكمة محجوب مع دنوها وقربها.. كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون… كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.

 

نافذة:

الجهد لا يأتي في موضع الدعاء كما أن الدعاء لا يشتغل في مكان الجهد ولكن لا بد منه في ظلمات لا نرى فيها نورا

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى