حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفنفسحة الصيف

قراءات صيفية… “وثيقة مذهبية” لمواجهة “الطغاة الجُدد”

كتاب "قوة الرفض" لدومينيك دوفيلبان

تم الاحتفاء بكتاب “قوة الرفض Le pouvoir de dire non” وخضع لقراءات وتأويلات كثيرة، إذ هناك من ربطه بالتحضير للانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة، بينما صاحبه يؤكد أنها وثيقة استراتيجية تهم مستقبل أوروبا والعالم، أمام تحديات كثيرة بات مستقبل الإنسانية أمامها متوقف على قدرتنا على أن نقول “لا”، أي نرفض. لذلك لا عجب أن تتم الإحالة لهذا الكتاب مؤخرا بمناسبة الإهانات المتكررة التي تتعرض لها الدول والشعوب في البيت الأبيض، حيث لا شيء يعلو فوق لغة الأموال. فلا قيمة للمذاهب الفكرية والأخلاقية، ومن سمع ترامب مؤخرا يهدد إسبانيا بشكل صريح، ومن رآه قبل ذلك يهدد كندا بالضم للاتحاد الفيديرالي الأمريكي، سيعرف بأن “قوة الرفض” باتت القلعة الأخيرة في مواجهة من نصب نفسه “أمبراطور الكرة الأرضية”.

 

القوة في قول “لا”

بينما ينفي دومينيك دو فيلبان حاليًا أي طموحات رئاسية، نشر مؤخرًا نصًا أشبه ببيان رسمي. نُشر على الإنترنت في 7 أبريل على موقع “القارة الكبرى”، ويُقدّم كتاب “قوة الرفض” نفسه كتشخيص لحالة العالم، بالإضافة إلى استشراف لما ينبغي أن تكون عليه السياسة الفرنسية في مواجهة “تغيرات العصر”.

لا تقتصر هذه الوثيقة، المكونة من 48 صفحة، على التأمل الجيوسياسي، وهو رصيد كبير لوزير خارجية جاك شيراك السابق، الذي صنع خطابه في الأمم المتحدة ضد حرب العراق عام 2003 التاريخ. يشير عنوانها مباشرةً إلى “رفض” فرنسا الذي منع الأمم المتحدة من الموافقة على الغزو الأمريكي. بل تمضي إلى أبعد من ذلك، مقترحةً مساراتٍ للسياسة الخارجية الفرنسية، ولأوروبا، وفي نهاية المطاف، للسياسة الداخلية.

وبحسب هذا “الكتاب المذهبي”، كما يسميه ناشروه، فإن العالم لا يمر بأزمة بسيطة، بل بتحول تاريخي، يربطه دو فيلبان بخمسة “أنماط من الإرهاق” مستعارة من شخصية بروميثيوس: الإرهاق البيئي (الموارد، المناخ، التنوع البيولوجي)، والعولمة، والقوة العسكرية (الإخفاقات في العراق وأفغانستان ومنطقة الساحل)، ومنطق السوق، والبشرية نفسها، من خلال “تحويل العالم إلى بيانات”، وهو شكل جديد من الهيمنة تمارسه عمالقة الذكاء الاصطناعي.

وما دفع بعض المحللين إلى اعتماد هذا الكتاب في تحليل الوضع العالمي بعد عودة ترامب، هو كون الأخير أصبح مصدر إرهاق وتعب للعالم أكمل، حيث لا يعترف بوجود تحديات مناخية، مفضلا نكران حقائق أن الفيضانات التي تضرب بلاده بشكل غير مسبوق هي دليل على أن التحديات البيئة لا مفر منها إلا بسياسات حازمة. ثم إرهاق العولمة والذي يسعى ترامب وخلفه الشركات العالمية إلى فرض نموذج واحد وأوحد تتحول معه قوى عالمية كالصين وروسيا و”دول البريكس” إلى أعداء، لكون هؤلاء يتشبثون بتصور يرفض ترامب تماما، وهو تأسيس عالم متعدد الأقطاب. ثم ثالثا القوة العسكرية المفرطة واستعمالها بدون العودة للأمم المتحدة، كدليل على المبالغة في استعراض القوة، مثلما حدث مؤخرا مع إيران، وأخيرا التحالف مع الشركات الكبرى المتواجدة في وادي السليكون، والتي كانت الداعمة الأولى لانتخاب ترامب للمرة الثانية.

 

“ترامب” ليس المرض بل أعراضه

يبدأ النص بسلسلة من العبارات المرعبة – وهي من سمات البيت. “العالم يرزح تحت وطأة تجاوزاته”، و”الترامبية ليست مرض العالم، بل هي أعراضه”، و”لقد حلت الهزيمة المناخية محل التشكيك في المناخ، هذا الشر الزاحف الذي يقوض قوة الإرادة، ويزعزع الالتزامات، ويجرد الناس من سلاحهم”. وكما يلخص هو نفسه، فإن بروميثيوس – الذي سرق “النار المقدسة” من عربة الشمس ليمنحها للبشر ليدافعوا عن أنفسهم – قد استُنزفت قواه الآن.

ومن الطبيعي أن تصب كل هذه التحديات أو ما أمساه الكاتب ب”أربع أشكال من الإرهاق” في الترامبية. ذلك لأنه في نظر ترامب، النظام العالمي الحالي يعاني من فوضى تفرض على أمريكا تولي دفة القيادة، ليس عبر الخطابات الدبلوماسية التقليدية، بل باستخدام أدوات الضغط الاقتصادي، والقوة العسكرية، والدبلوماسية الصارمة، التي لا تترك مجالًا للتفاوض دون شروط أمريكية. وطموح ترامب لا يقتصر على الشرق الأوسط فقط، بل يمتد إلى آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، حيث يسعى إلى فرض رؤية تُعيد ترتيب موازين القوى عالميًّا، مع التركيز على تعزيز مصالح الولايات المتحدة وجعلها أولوية مطلقة. من هنا فلا أمل للحلفاء التقليديين لأمريكا في مواجهة “الترامبية” هو أن يمتلكوا القوة على الرفض.

لحسن حظنا نحن البشر، ثمة مَخرج، يسارع دومينيك دو فيلبان إلى كشفه لنا. وهكذا، في مواجهة التسابق المحموم على المواد الخام، واستنزاف العولمة، والبيروقراطية المفرطة، وعودة الإمبراطوريات، “لدينا القدرة على قول لا…لهذا العصر الحديدي حيث أصبحت الحرب من جديد وسيلةً عادية، ولصعود الاستبداد، وللاستسلام الديمقراطي”.

ثم استدعى الأمين العام السابق لقصر الإليزيه معلمه، جاك شيراك: “مع توالي المؤتمرات، دوى ناقوس الخطر كصدى مأساوي: بيتنا يحترق ونحن نشاهد من بعيد…. وعندما تصبح المسؤولية الجماعية عبئًا فرديًا، تتفشى الأنانية”، كما كتب. “الجميع يتهم، ويغار، وينسحب. لم يعد الأمر تضامنًا بين الأحياء، بل تنافسًا على البقاء”.

ويوضح قائلًا: “نعيش مفارقة مريرة في عصر يولد فيه العجز من فائض القوة”، وخاصة منذ عودة دونالد ترامب إلى السلطة. ويلخص فيلبان قائلاً: “إن الاهتمام المفرط الذي يطلبه ويحظى به يصرفنا عن أمراضنا الأساسية”، محذرًا: “الناس، العالقون في دوامة الانقسامات وعدم اليقين، يلجأون إلى رجال يعدون بالتسوية والتوحيد واتخاذ القرار”. قبل أن يختتم كلمته، مستحضراً موجة “حجاب أوروبا”: “نحن ندخل عصر الطغاة الجدد. ليسوا جميعهم عنيفين أو حتى ساخرين. لكنهم يشتركون في قناعة واحدة: الحرية ترف لم يعد بإمكان عالم اليوم تحمله”.

في الواقع، نشهد نهاية الفترة التي بدأت عام 1989 بانهيار الاتحاد السوفياتي. كان من المفترض أن يفرض نموذج واحد، أي نموذج الديمقراطية الليبرالية، نفسه في جميع أنحاء العالم. إلا أن ما يميز الفترة الحالية هو تحول، على المستويات الجيوسياسية والأيديولوجية والاقتصادية، في هذا العالم الذي نشأ مع نهاية الحرب الباردة.

 

السلام يُبنى

حسب دوفيلبان في كتابه هذا، فصورة القرن الحادي والعشرين قاتمة، تعززها رسوم الفنان التشكيلي الألماني أنسيلم كيفر. وفيما يتعلق بغزة، يحذّر دومينيك دو فيلبان قائلاً: “لا يمكن لأوروبا أن تستمر في موقف المتفرج الصامت على صراع يسحق المدنيين ويدمر أي أمل في السلام. هنا أيضاً، يُعامَل الناس كمتغيرات ثانوية، ويبقى الصوت الأوروبي غير مسموع، بسبب غياب الوحدة والرؤية والإرادة السياسية”. وقد انتقده قطاع من الطبقة السياسية الفرنسية، لمواقفها بعد مذبحة السابع من أكتوبر، ويذكّرنا دو فيلبان قائلاً: “ما دامت العدالة غائبة عن جميع شعوب المنطقة، بمن فيهم الفلسطينيون، وكذلك اللبنانيون والسوريون، فلن يكون هناك سلام دائم أو نظام حقيقي في الشرق الأوسط. وهذا ما يجعل “انتصارات” الجيش الإسرائيلي مأساوية بقدر ما هي هشة سياسياً”.

يُذكّرنا بأنه لحسن الحظ، لأوروبا دورها. إنها “الترياق الذي يُتيح لنا الأمل في عالم آمن إلى حد معقول”. ولإحياء القارة العجوز، يُحدد دومينيك دو فيلبان أربعة عناصر: أداة توجيهية للتوسع المُنظّم، والتعزيز الاجتماعي، والقدرة التنافسية والنمو الاقتصاديين، وأخيرًا، التعزيز السياسي للديمقراطية.

لكن قبل إعادة النظر في أوروبا، يرى دو فيليبان أنه من الضروري “تقويم الجمهورية” والتذكير بأن “فرنسا لن تستعيد مكانتها [في العالم] إلا عندما تتولى مهمتها: أن تكون قوة توازن ومبادرة في جميع المحافل متعددة الأطراف، كما في جميع مناطق الأزمات في العالم، استنادًا إلى ثلاثة مبادئ: الدبلوماسية الجماعية، ودبلوماسية المبادرة، والدبلوماسية السلمية”.

يضيف دوبيلبان أن هناك حاجة ملحة لرفع مستوى الوعي والتأمل في تحديات السلام. فكثيرًا ما يبقى السلام ثمرة حربٍ مُنتصرة. وقد أقنعتني التجربة، ورصد عددٍ من الأزمات الدولية، ودراسة تاريخنا، بأن السلام يُبنى. لذا، يجب أن نُدرك أنه خيرٌ مشتركٌ للمجتمع الدولي بأسره. لكل شعبٍ مسؤوليةٌ خاصةٌ في هذا المجال، ونحن الفرنسيون لدينا تجربةٌ فريدة.

نحن بلا شكٍّ، يضيف وزير الخارجية الأسبق، من أكثر الدول تضررًا من الحرب، لذا يقع على عاتقنا استخلاص بعض الدروس منها ومساعدة المجتمع الدولي على تجاوز التحديات الصعبة. تُفتتح الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام بخطر المواجهة في كوريا الشمالية، لكن هذا ليس، بلا شك، المسرح الوحيد الذي يُحتمل أن يُصبح مُريعًا؛ فلنفكر في سوريا والعراق واليمن وليبيا ومنطقة الساحل بأكملها… يجب أن نُغذي هذا التأمل، الذي يفترض أن نتزود بأدواتٍ جديدةٍ وأكثر فعاليةً للنجاح في بناء السلام.

هذه الأدوات هي التي تُتيح حوارًا أكثر استدامةً على الساحة الدولية. من بينها، بالطبع، مجلس الأمن، وهناك أيضًا صيغٌ خاصة لمجموعات الدول التي يُمكنها التكاتف لتعزيز السلام. وقد شهدنا ذلك، على سبيل المثال، في مسار حل الأزمة الإيرانية: فقد تم التوصل إلى الاتفاق المُوقّع في 14 يوليو 2015، في إطار الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا.

قد يبدو الحديث عن السلام اليوم، في ظلّ ضجيج الحرب، ضربًا من الجرأة. فيما ساحات المعارك الفعلية أو المحتملة تتزايد. نشهد هذا في بحر الصين، وفي كوريا الشمالية، وكذلك في العراق وسوريا واليمن وأوروبا الشرقية. في أوروبا، نُحاط اليوم بسلسلة من الأزمات تمتدّ عبر جميع حدودنا تقريبًا: في أوكرانيا، وفي تركيا مع تصلب النظام، وفي البحر الأبيض المتوسط، وفي الشرق الأوسط مع أزمة المهاجرين. قناعتي هي أن السلام لم يعد أمرًا مسلمًا به، بل أصبح، أكثر من أي وقت مضى، مهمةً وبرنامجًا ورسالةً. حاولتُ مؤخرًا أن آخذ هذا الخطر الثاني على محمل الجدّ، وأن أقترح سبلًا لنزع فتيله. إن التحول الذي لا يُمكن إنكاره في عالمنا، والذي يُؤدي حاليًا إلى حالة من الفوضى، يُغذّي ما أسميه “روح الحرب”، التي أعتقد أنها تكتسب زخمًا حاليًا.

إن التحول الجيوسياسي في عالمنا هو في المقام الأول نزعة غربية: فالغرب يفقد احتكاره، وعليه الآن أن يتقاسم قوته مع مناطق أخرى من العالم. وتعود أقطاب جديدة إلى الظهور، سيما مع تنامي دور الصين اليوم. والانهيار التدريجي لموقع أوروبا من حيث الاستثمار المباشر. ولم تعد أدوات التأثير، كالسينما أو التعليم العالي، حكرًا على الغرب. فالتعددية القطبية الجديدة، التي تُنهي خمسة وعشرين عامًا من الأحادية القطبية، تُحرك الصفائح التكتونية.

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى