
استطاعت خلية «الرايخ» أن تزعزع أمن واستقرار ألمانيا، من خلال عدة عمليات اعتبرتها إرهابية وقائمة على العنف والكراهية. الحركة اليمينية والمتطرفة لا تؤمن بالدولة الألمانية الحديثة وقوانينها وتتميز بالعنصرية تجاه الأعراق والمعتقدات الدينية، ولا تزال السلطات الألمانية تطارد أتباعها في جميع أنحاء البلاد حتى الآن.
سهيلة التاور
انبثقت الخلية المعروفة باسم خلية «الرايخ» من الجماعات اليمينية المتطرفة. وبدأت الحركة فعليا في الثمانينات من القرن الماضي بأعداد قليلة ومن دون قيادة. وفي 2018 أصبح عدد أتباعها يقارب 15 ألفا و600، يسكن منهم في ولاية بافاريا جنوبي البلاد حوالي 3500 شخص، ثم ولاية بادن فورتمبيرغ المجاورة حوالي 2500 شخص وولاية شمال الراين وستفاليا حوالي 2200 شخص. وبدأ حجمها في التنامي إلى أن أصبح عدد أفرادها بنحو 21 ألف شخص، وتم إحصاء نحو 1150 شخصا من الحركة ممن ينتمون إلى الجماعات اليمينية المتطرفة، ويملك ألف عضو منها رخصا لحيازة السلاح. وقد بدأت الحركة بالفعل في التخطيط لتأسيس جيش خاص بها.
وتتبنى هذه الحركة إيديولوجية يمينية، وتشتهر بمعاداتها للسامية، وعنصريتها تجاه الأعراق والمعتقدات الدينية. ولا يعترف أتباعها بالجمهورية الألمانية الحديثة، التي تأسست بعد انهيار النازية «الرايخ الثالث» وتعني الإمبراطورية الألمانية الثالثة عقب الحرب العالمية الثانية سنة 1945.
ويتهم أعضاء خلية «الرايخ» جمهورية ألمانيا الاتحادية التي تأسست عام 1949 بأنها أسست بصورة غير قانونية، ولذلك لا تعد دولة ذات سيادة. ويعترف أغلب المنتسبين لهذه الحركة بحدود ألمانيا عام 1937، أي قبل الحرب العالمية الثانية، والتي تضم أجزاء من بولندا وفرنسا حالياً.
ولا تعترف خلية «الرايخ» بالمؤسسات الألمانية، مثل المحاكم والسلطات الحكومية، وكذلك أعضاؤها لا يعترفون بالقوانين، ولذلك يهملون تقديم طلب فواتير الضريبة مثلاً أو دفع الغرامات الحكومية أو الاستجابة للدعوات الموجهة من قبل المحاكم والسلطات الألمانية.
ولا يحتفظ أعضاء هذه الحركة بهوياتهم الرسمية أو جوازات سفرهم، ويحملون بدلاً عنها غالباً «وثائق غير رسمية» يطلقون عليها تسمية «هوية مواطني الرايخ».
أعضاء الحركة ليسوا مجموعة متجانسة وهم على خلاف في الانتماءات، بعضهم من النازيين الجدد المخلصين الذين يريدون عودة الاشتراكية القومية، وآخرون يطمحون إلى تعيين ملك لـ «الرايخ الألماني». ويعتقد بعضهم أن أدولف هتلر فر إلى القارة القطبية الجنوبية مع أصدقاء مقربين بعد نهاية الاشتراكية القومية، ويعيش هناك حتى يومنا هذا.
حنين إلى الملكية
أهم رموز خلية «الرايخ» الأمير هاينريش رويس الثالث عشر الذي ينحدر من عائلة ألمانية أرستقراطية قديمة تُعرف باسم بيت رويس، حكمت أجزاء من ولاية تورينغن الشرقية الحديثة حتى عام 1918. وقد أطلق على جميع أفراد الأسرة الذكور اسم هاينريش، بالإضافة إلى رقم جوار الاسم.
وهاينريش الثالث عشر هو سليل هذه العائلة، وهو رجل أعمال نشط في مجال العقارات، ومقيم في مدينة فرانكفورت وسط ألمانيا، من مواليد عام 1951، يتبنى أفكارا متطرفة معادية للدستور الألماني وللدولة الألمانية بالشكل الذي تقوم عليه، وقد انفصل عن أسرته الملكية منذ 2008. ووصف الأمير هاينريش الرابع عشر رئيس العائلة هنري الثالث عشر بأنه «عجوز مرتبك، وله أخطاء، ويتبنى نظرية المؤامرة».
ويعد هاينريش الثالث عشر المشتبه فيه الأول في محاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت في دجنبر 2022.
عمليات خلية «الرايخ»
لطالما كان ينظر إلى أعضاء الحركة على أنهم مجرد مجموعة من الأشخاص غريبي الأطوار. إلا أنه في السنوات الأخيرة بدأت هذه الحركة بلفت انتباه السلطات الألمانية بسلوك أعضائها الأكثر عنفا وعدوانية، واعتناقهم أفكارا يمينية متطرفة ومعادية للسامية، ويمتلكون كميات كبيرة من الأسلحة والمتفجرات، ولديهم قدرة على تصنيع العبوات الناسفة، حسب ما رصدته الشرطة، إضافةً إلى قدرتهم على تنفيذ عمليات متعددة لسرقة الأسلحة من مخازن الحكومة.
ونفذ أتباع الحركة في الأعوام الأخيرة هجمات ضد الشرطة خلال مداهمات لمنازلهم، مبررين ذلك بأن من حقهم الدفاع عن ممتلكاتهم. وفي عام 2016، أطلق فولفغانغ ب، عضو بحركة مواطني الرايخ النار على ضباط شرطة فقتل أحدهم وأصاب 3 آخرين بجراح، خلال مداهمتهم منزله لمصادرة ترسانته المكونة من 30 سلاحاً نارياً، كان قد جمعها بطريقة غير شرعية.
وتُعتبر قضية فولفغانغ ب، الذي حُكم عليه بالسجن مدى الحياة عام 2017 بعد إدانته بقتل ضابط شرطة، هي المنعطف الذي دفع السلطات الألمانية إلى التعامل بشكلٍ أكثر جدية مع متطرفي هذه المجموعة.
وفي عام 2020، كان هناك عدد من أعضاء حركة مواطني «الرايخ» ضمن المتظاهرين ضد القيود المفروضة في البلاد لمنع تفشي وباء كوفيد-19 والذين حاولوا اقتحام مبنى البرلمان الألماني.
وفي عام 2022 قام أعضاء الخلية بمحاولة الانقلاب داخل الدولة، وكان قد أفاد رئيس الاستخبارات الداخلية الألمانية، توماس هالدينوانغ، بأن «المجموعة التي خططت للانقلاب لديها شبكة كبيرة في جميع أنحاء البلاد، وكان أفرادها لديهم خطط محددة، وكانوا مستعدين لاستخدام العنف، حتى لو كان ذلك يعني قتل الناس».
وما أثار القلق بشكل خاص، هو أن تحقيقات المدعي العام الاتحادي شملت ضابطاً في القوات الخاصة في الجيش الألماني والعديد من جنود الاحتياط، ونائبة سابقة في البرلمان الاتحادي عن حزب البديل اليميني الشعبوي أيضاً بين المشتبه فيهم.
وأكد مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني أن السلطات قررت إطلاق عملية لمكافحة الإرهاب بعد أن أصبح من الواضح أن المجموعة لديها «خطط ملموسة للإطاحة بالحكومة بوسائل عنيفة».
وترى تقارير إعلامية أن الحركة تسعى إلى توظيف الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تمر بها البلاد بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لإحداث فوضى في البلاد وتنفيذ أجندتها في تفكيك الدولة.
المطاردة مستمرة
تجري السلطات الألمانية عمليات ملاحقة لعناصر «خلية الرايخ» في مختلف أنحاء البلاد، كان آخرها في دجنبر من العام الماضي، حيث ألقت الشرطة الألمانية القبض على 25 شخصا في إطار حملة أمنية واسعة ضد اليمين المتطرف. وتنشغل السلطات الألمانية حاليا، بتنفيذ عمليات ملاحقة جديدة تشمل 7 ولايات لمطاردة عناصر الخلية.
وقد أصيب شرطي من القوات الخاصة الألمانية، بطلق ناري أثناء عملية مداهمة شقة لمشتبه في انتمائه لـ «جماعة الرايخ» في ولاية بادن فورتمبيرغ غرب البلاد. وكشفت السلطات أن إصابة الشرطي طفيفة، وأن المتهم الذي دوهمت شقته هو من أطلق النار.
وفي وقت سابق، أعلنت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر، أن ملاحقة «خلية الرايخ» في بلادها لن تتوقف، مشيرة إلى المجموعات المتطرفة التي وجهت إليها اتهامات بمحاولة قلب نظام الحكم في بلادها.
وقالت فيزر إن هذه الشبكات تزدري الديمقراطية الألمانية ويتمسك أعضاؤها بنظريات المؤامرة، مؤكدة ضرورة نزع السلاح من أيدي المتطرفين.
واتهمت الوزيرة حزب البديل من أجل ألمانيا بـ «القرب الروحي» من الوسط المحيط بـ «خلية الرايخ». وقالت إن هذا التقارب بدا واضحاً بشكل خاص في الطريقة التي يحاول بها حزب البديل من أجل ألمانيا، السخرية من تحقيقات المدعي العام الاتحادي. وتابعت قائلة إنها «لن تتفاجأ إذا كشفت التحقيقات عن مزيد من الصلات بينهما».
اليمين المتطرف في ألمانيا
شهدت السنوات الأخيرة ارتفاع أصوات الأحزاب اليمينية المتطرفة بسرعة في الغرب، خصوصاً ألمانيا. ومع بدء الحرب في أوكرانيا وأزمات التضخم واللاجئين التي تبعتها ازداد نشاط التنظيمات اليمينية المتطرفة التي تطالب بعودة «الفاشية» وإحياء إرث العنصرية خلال تزايد أعمال العنف ضد الأجانب والأقليات الإثنية.
وإلى جانب استغلالها للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، استغلت المنظمات اليمينية المتطرفة، وعلى رأسها منظمات تحسب على فكر النازيين الجدد «الإرهابية»، شبكة الإنترنت أفضل استغلال لتنظيم صفوفها وإعادة إحياء إرث العنصرية وسيادة العرق الأبيض.
وتشير التقارير إلى أن جماعات اليمين المتطرف في ألمانيا ارتكبت العديد من الجرائم مثل الإحراق العمد والإرهاب والقتل بين عامي 1990 و2020، ما أدى إلى مقتل أكثر من 200 شخص خلال هذه الفترة. وفي 11 يوليوز 2018، حمل القضاء الألماني منظمة «النازيون الجدد الإرهابية»، مسؤولية مقتل 10 أشخاص منهم 8 أتراك، في هجمات مسلحة وقعت في مدن ألمانية مختلفة.





