
أمال زيتوني
قالو سيادنا: «ملي كتشبع الكرش كتقول للراس غني». ينطبق هذا المثل الشعبي الحكيم على الاحتفالات السنوية التي تشهدها مناطق عديدة جنوب المغرب بما يسمى «بوجلود» أو «بيلماون». فبعد الارتفاع الصاروخي في معدلات الكوليسترول «الشوائية البولفافية»، يستعد أهلنا في سوس، كل عيد أضحى، لإحياء تقليد أمازيغي عريق متجذر بعمق في روح الثقافة المغربية الأصيلة. «بولبطاين» أو «بوجلود»، تختلف التسميات والأوصاف و«الهياضر» ويبقى المعنى الأنثروبولوجي واحد، حيث تشهد شوارع وأزقة مدينة «الدشيرة»، مثلا، كرنفالا فلكلوريا صاخبا، يحتفي خلاله الأهالي بطقوس وتقاليد شعبية تتميز بارتداء الشباب والشابات لجلود الأضاحي والتزين بأكسسوارات وأزياء محلية، ليجوبوا بعدها ساحات المدينة في موكب غنائي راقص يردد فيه المشاركون أهازيج أمازيغية قديمة.
حظيت طقوس بوجلود في السنوات الأخيرة باهتمام كبير ومتابعة واسعة من طرف المغاربة والأجانب على حد سواء، حيث ساهم العالم الأزرق، مشكورا، في التعريف بتقليد أمازيغي أصيل ظل عهدا طويلا من الزمن حكرا على أهل سوس والنواحي. كمواطنة مغربية من شمال البلاد، ترَعْرَعَت في عصر ما قبل «الويفي والتيكتوك»، اقتصر وعيها الطفولي بمصطلح «بوجلود» كتعبير عن رجل أشعث مخيف يلاحق الأطفال «الباسلين». يندرج هذا الجهل غير المتعمد بالموروث الأمازيغي لدى شرائح واسعة من المغاربة، تحت طائلة سياسة التجهيل والتعتيم والإهمال «المتعمد جدا» لمكون ثقافي وطني أصيل، من طرف «بنادم ماراضيش بأصله وكيحشم من تاريخه، والأسوأ أنه كيتلصق بحال الكَرادة فتاريخ عباد الله».
لا تقتصر «عقدة الخواجة» و«متلازمة التلصاق» على من يفتخرون بالتنكر لأصولهم الأمازيغية والتشبث بوهم الانتماء العرقي للشرق والغرب فحسب، بل طالت هذه الظاهرة المشينة العمق الأمازيغي نفسه. في مفارقة هزلية عجيبة. شهدت احتفالات بوجلود هذه السنة تحولات بنيوية مثيرة للتساؤل، حيث انتقل مفهوم «الهيضورة» من احتفاء شعبي مشروع بالميثولوجيا الأمازيغية المرتبطة بالأرض والخصوبة والخير والخمير، إلى « cosplay » هوليودي غريب. لقد تمت «هلونة» الموروث السوسي «ياجدعان». تعتقد، وأنت تتابع استعراض بوجلود الأخير، أنك تشاهد حلقات من «الفايكينغ»، حيث يتجول «راكنار» مزهوا «ببطانته» السميكة و«سوالفو المسبسبة»، أو جزءا جديدا من «لعبة العروش» حيث يطارد «ملك الشمال» ببشرته الزرقاء الجليدية المخيفة «قبيلة الهمج» في أزقة «الدشيرة». تعتبر الاحتفالات الغنائية الراقصة طقوسا بشرية تاريخية تحتفي بالآلهة والحياة والأرض، أو ممارسات ميتافيزيقية لطرد الأرواح الشريرة ودفع «البلا والباس»، مثل ما يحدث في العديد من قبائل العمق الإفريقي لحد الآن. لم تشكل أرض تمازغا استثناء. فنحن نحتفل بـ«حاكوزا» تبركا بالسنة الفلاحية الجديدة، حيث تقوم الجدات بخبز «السفنج» أو «البغرير» احتفاء بخصوبة الأرض واستعدادا لليالي «الربعين» الباردة. نتمايل على صدى إيقاعات أحواش في محاولة جماعية لصناعة الفرح. طقوس أصيلة تتماهى مع المشترك الإنساني الذي يجمعنا بباقي الشعوب.
تسعى الأمم إلى حفظ ذاكرتها التراثية وموروثاتها الشعبية التاريخية عن طريق إحياء التقاليد والعادات واحترام «عوايد زمان»، الأمر الذي يعجز عنه الكثير من المغاربة أحيانا. نتذكر جميعا «العشرية السوداء» التي مر بها القفطان المغربي خلال مرحلة «تقزابه وتعريته وتضييقه» في محاولات يائسة لعصرنة الزي التقليدي، أو موجة تحديث الأهازيج الشعبية بدمجها بالروك والميتال والجاز. حيث لم يسلم من هذا «الريميكس» العجيب سوى «شمس العشية» التي تظل شامخة ملقية بظلالها على مستقبل المغاربة. يبقى حلم «عالمية بوجلود» وتحويله إلى كرنفال دولي على شاكلة كرنفال «ريو دي جانيرو»، مثلا، حلما مشروعا نطمح إليه جميعا. «ماكرهناش الفيجطا لي دخلنا الدوفيز».
تحديات عديدة تواجه عملية تلميع صورة التراث الأمازيغي وترويجه سياحيا وثقافيا، أبرزها الابتعاد قدر الإمكان عن «هلونة» ذاكرة الهيضورة، والتشبث بالروح الفرجوية الاحتفالية للكرنفال الأمازيغي العريق، بعيدا عن «كَرون شخصيات راكناروك»، و«جاكيطة جون سنو» و«مكياج شمهروش». غير أن التحدي الأكبر الذي يهدد ذاكرة الأرض الأمازيغية وهويتها الحضارية هو أعداء «النشاط» الذين لم يفوتوا الفرصة لمهاجمة طقوس بوجلود باعتبارها ممارسات وثنية دخيلة على ثقافة المجتمع المسلم. تتفوق «اللحية المنبطحة» دائما في استعمال المغالطات المنطقية وأساليب الهجوم والشخصنة والإقصاء في سبيل قمع خصومها الإيديولوجيين، وهو مستنقع سئمنا من الانزلاق نحوه. لذا، ورغم التحفظات والملاحظات والمؤاخذات، نحن نفضل الدفاع المشترك التاريخي، والتشبث بالموروث الأمازيغي الأصيل. «اللهم بولبطاين المغربي ولا الشادور الأفغاني والسروال الباكيستاني والكَرصون الإيراني».
يعيش المغرب منعطفا تاريخيا حاسما. سؤال الهوية والانتماء العرقي والثقافي ليس ترفا فكريا أو معركة جانبية، بل هو قضية وطنية مصيرية لا تقل أهمية عن باقي قضايا الوطن الكبرى. فإما «أن تكون مغربيا أو لا تكون». محاولات استيراد الهويات الغربية والشرقية الدخيلة على أصالة الروح المغربية، مقابل التنكر للإرث الحضاري للبلاد. أصبح أمرا مخجلا كيف يستقيم في عقول وقلوب المغاربة احتفال أبنائهم سنويا بالهاليوين والكريسماس والفالانتاين، في المدارس الخاصة أو البعثات الأجنبية، بينما يتأفف هؤلاء من «همجية بوجلود».. «حطو البندير شوية وباراكا من التطبال للبراني».





