
بقلم: خالص جلبي
سألت السيدة المغربية «طامو» هل حججت؟ قالت بافتخار: تسع مرات، وأريد المزيد. وأريد الموت هناك.. هل يا ترى تدرك هذه السيدة الفاضلة لماذا شرع الحج؟ ومتى؟ ومن بناه؟ ولمن وجهت دعوة الزيارة؟ ولماذا أصبحت الأمم تحج بالنسبة المئوية من عدد سكانها؟
نرى في الحج أمورا يجب التركيز عليها، الطقوس بدل المعاني، وعدم استيعاب معنى القربان أنه التوقف عن التضحية بالإنسان تحت أي مسوغ وشعار وسلطة، وأن هذا البيت وضع للناس جميعا، فيجب أن يكون منبرا عالميا للشحن السلامي. وأن الكعبة يجب أن تضخم لتلف الكرة الأرضية برمتها، وأن حصانة الأشهر الحرم يجب أن تمتد على طول أشهر العام.
ولكن بقدر رسوخ هذه المعاني في الإعلان الإبراهيمي بقدر عكسها في الشرق الأوسط والعالم العربي، من القسوة وعدم السلام والحرب ورسوخ الديكتاتوريات كأنها أشجار الجحيم. من المفروض أن يودع المسلمون عيد الأضحى، وينصرف البشر المجتمعون في هذه التظاهرة السنوية إلى أقطارهم، مشحونين بالروح السلامية، والتدريب على محاربة الشر. وأما التضحية بالحيوان فكانت ترميزا لإحياء ذكرى الإعلان الإبراهيمي، قبل أربعة آلاف سنة، بالتوقف عن تقديم القرابين البشرية، وتوديع عقلية العالم القديم في حل المشاكل بالعنف، كما حصل في الحرب العراقية الإيرانية التي نحر على مذبحها مليون شاب في ثماني سنوات عجاف، أو حرب الجنوب السودانية، حيث نحر على مذبحها عشرات الآلاف من الشباب الإفريقي تحت دعوى الجهاد، أو ما يجري مع كتابة هذه الأسطر من تناطح ثورين عفوا جنرالين، الأول اسمه برهان بدون برهان، والثاني حميدتي بدون حمد ولا ثناء. وإن كانت هناك فائدة فيها فعدم العودة إليها. لذا كان الحج في ترميزه المكثف، تدريبا سنويا لشحن الإنسان بالروح السلامية، فالمظهر متشح بالبياض، والكعبة أصبحت بيت الله الحرام، فيحرم ممارسة العنف بكل أشكاله وامتداداته، فلا جدال في الحج، الجدال بمعنى التنازع والتوتر، وينعم الجميع ببحيرة للسلام في أرض غير ذات زرع، ويأمن الطير والدواب والإنسان على أنفسهم من العدوان، بعد أن كان الناس يُتخطفون من حولهم، ويمتد السلام من النفس إلى البيولوجيا فلا ينتف الشعر أو تقص الأظافر، وينتهي بتدشين تجربة على ظهر الأرض، سنوية لا تقبل الإلغاء أو التأجيل، للسلام الزماني المكاني، في البيت الحرام من خلال الأشهر الحرم. وعندما دشن إبراهيم عليه السلام هذه التجربة وصمدت خلال آلاف السنين، كان يريد تعميم هذه التجربة على ظهر الأرض، في كل الأوقات، لتحول الأرض كلها إلى أرض حرام، وتتحول الأشهر كلها إلى أشهر حرم. يحرم فيها سفك الدم وتقديم القرابين البشرية، في أي حرب، أو تحت دعوى الانتفاضة، أو ذبح الناس من الوريد إلى الوريد تحت دعوى للمقاومة وهو ما دعا إليه سقراط ومن أجله مات. ولكن الكثير لا يدرك (الرمزية) في الحج، ولا الدلالة العميقة لانتخاب اللون الأبيض، ولا هندسة الدوران في الطواف، التي تربطه بالاستمرارية والأبدية، خلافا للحركة باتجاه واحد، أو تاريخية الصفا والمروة، وعلاقتها برحلة إبراهيم عليه السلام في الشرق الأوسط، بين حضارة سومر والحضارة الفرعونية، بين الأرض التي تفيض لبنا وعسلا، وبين صحراء وواد غير ذي زرع. ومع اللباس الأبيض غير المتميز تُعلن الديمقراطية العملية، فليس هناك امتيازات لأي شخص أو عائلة أو طبقة أو حزب أو طائفة. ومع اللون الأبيض تشع الطهارة الأخلاقية والنظافة البيولوجية؛ فالمجتمع الإنساني الإسلامي يقوم على الأمان وليس الغدر.
ومن اللون الأبيض يبرز معنى السلام العالمي، فهذا اليوم يأمن الإنسان والطير والدابة والنبات وحتى شعر اللحية والأظافر، فهي تسبيح سلام هائلة فلا تقص، ويكف الإنسان عن الجدل (ولا جدال في الحج)، ويتحول المكان إلى (حرام)، أي يحرم فيه قتل الإنسان. ومن حرمة البيت كمكان تنبثق فكرة (الحرام الزمانية)، ففي (الأشهر الحرم) يحرم سفك دم الإنسان، ومن هذا البيت القديم الذي أُسس قبل ما يزيد على أربعة آلاف سنة، تم تدشين فكرة السلام العالمية، كممارسة مكررة سنوية، وكتجربة ميدانية محدودة، من أجل تعميمها عالميا، ككل تجربة ناجحة صمدت عبر آلاف السنوات؛ فالحج وظاهرة الأشهر الحرم كانت حتى قبل بعثة الإسلام دورية مكررة في عرب الجزيرة. واللباس الأبيض يذكر بالحشر وقيام الناس لرب العالمين بأعمالهم وليس بانتسابهم، أو ثرواتهم، فهو لون الكفن، والكفن ليس له جيوب. واللباس الأبيض يُعلن حذف كل الامتيازات الخاصة برد الإنسان إلى مصدر واحد تتساوى فيه جميع الخلائق، وتتحول ظاهرة الحج إلى دورة أمم متحدة من نوع جديد، تنحسر فيه قوى الاستكبار العالمية، ويشطب منه حق الفيتو الظالم الذي تنفرد به حكومات بعينها، حولت العالم إلى مولود مشوه تملك فيه طبقة صغيرة مقدرات الأغلبية في الكون. في الحج تطغى وتسيطر على السطح فكرة الأضحية والغوص في التفصيلات الفقهية، ويغيب معنى (القربان) والإعلان الإبراهيمي؛ من التقدم بقربان الحيوان إعلانا للكف والتوقف وإلى الأبد عن التضحية بالإنسان، في كل صور القرابين التي تقدم في الحروب، تمهيدا لإعلان السلام العالمي، والدعوة لإقامة حلف عالمي للدفاع عن الإنسان المظلوم أيا كان معتقده ومكانه، فهذا هو جوهر مفهوم الجهاد. شرعت حصانة (الأشهر الحرم)، لأن الإنسان كان قبلها (يتخطف)، فهذه البقعة هي مكان (تجربة رائدة) في محاولة لتعميمها على الجنس البشري، كي يتم تحويل الكرة الأرضية إلى بحيرة سلام وأمان وسعادة، ولقد نجحت هذه التجربة في مساحتها الضيقة وصمدت عبر آلاف السنين عموما؛ في مهمة أساسية هي شحن روح العالم كله بروح السلام، والتوقف عن التضحية بالإنسان، في أي صورة وتحت أي شعار، وجعله قربانا لأي شكل من أشكال أوهام القوة، لآلهة كاذبة، وأصنام زائفة، ودعاوى باطلة، تحت شعارات لا تنتهي، وطروحات لا تتوقف.
نافذة:
نرى في الحج أمورا يجب التركيز عليها الطقوس بدل المعاني وعدم استيعاب معنى القربان أنه التوقف عن التضحية بالإنسان تحت أي مسوغ وشعار وسلطة





