
لم تعد التظاهرات الرياضية الكبرى تُقاس فقط بجودة الملاعب أو قيمة النجوم داخل المستطيل الأخضر، بل أضحت رهينة بقدرة الدول المنظمة على ضمان أمن شامل، يمتد من المدرجات إلى المطارات ومن الشوارع إلى الفضاء الرقمي. وفي هذا السياق يخوض المغرب تحدياً من حجم خاص، وهو يحتضن نهائيات كأس أمم إفريقيا لكرة القدم 2025 بمشاركة 24 منتخباً.
لا يقتصر الرهان المغربي على إنجاح بطولة قارية، بل يتجاوزه إلى تثبيت صورة بلد قادر على تدبير الأحداث الكبرى وفق المعايير الدولية، في أفق تنظيم كأس العالم 2030. ومن هنا جاءت المقاربة الأمنية متعددة المستويات، التي كشفت عنها المديرية العامة للأمن الوطني لتكون خريطة طريق واضحة لتأمين الحدث القاري.
مركز التعاون الشرطي الإفريقي.. قلب المنظومة الأمنية الجديدة
يشكل إحداث «مركز التعاون الشرطي الإفريقي 2026» أحد أبرز المستجدات في الاستعدادات الأمنية لكأس أمم إفريقيا 2025. هذا المركز، الذي أُحدث بشراكة بين وزارة الداخلية ووزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، والمديرية العامة للأمن الوطني والجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، يعد أول تجربة من نوعها على المستوى الإفريقي في مجال تأمين التظاهرات الرياضية الكبرى.
ويأتي هذا المركز تتويجاً للورشة الإقليمية حول أفضل الممارسات الأمنية في تأمين الأحداث الرياضية الدولية، التي احتضنتها مراكش في شتنبر 2024، بشراكة مع منظمة «الإنتربول» في إطار مشروع «ستاديا». وهو ما يمنح المركز بعداً قارياً ودولياً، ويجعل منه منصة لتقاطع الخبرات وتوحيد الرؤى الأمنية.
ويضم المركز ممثلين عن مختلف الأجهزة الأمنية الوطنية، وضباط اتصال عن الدول الـ23 المتأهلة لنهائيات كأس أمم إفريقيا، إلى جانب فرق متنقلة من المراقبين المعروفين بـ«SPOTTERS»، يواكبون جماهير منتخبات بلدانهم داخل الملاعب وخارجها، ويعرف مشاركة ممثلين عن الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم (CAF) والاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA)، فضلاً عن مشاركين من إسبانيا والبرتغال، في إطار التحضير المشترك لتنظيم مونديال 2030.
وتتمثل المهام الأساسية للمركز في تسهيل التبادل الآني للمعلومات العملياتية، ودعم تقييم المخاطر المرتبطة بالجماهير والتنقلات، وتنسيق الإجراءات الوقائية والتدخلات الميدانية، إضافة إلى تقديم الدعم والمشورة للقوات الأمنية المغربية وتعزيز ثقافة أمنية مشتركة قائمة على قيم الرياضة واللعب النظيف.
الأمن الحدودي.. المطارات في حالة تأهّب قصوى
مع الارتفاع المرتقب لحركة العبور عبر المنافذ الجوية والبحرية، راهنت المديرية العامة للأمن الوطني على تعزيز الأمن الحدودي ليكون حلقة أساسية في منظومة التأمين الشامل. وفي هذا الإطار تم الارتقاء بالمفوضية الخاصة بمطار الرباط–سلا إلى منطقة أمنية متكاملة، جرى تجهيزها بوسائل تقنية ولوجيستية متطورة وتعزيزها بموارد بشرية إضافية.
ويشمل هذا الإجراء مطارات بالرباط ومحمد الخامس الدولي بالدار البيضاء ومطار مراكش المنارة، إلى جانب ميناء طنجة المتوسط، باعتباره إحدى أهم البوابات البحرية للمملكة ومطار أكادير ومراكش وفاس.
ويهدف هذا التعزيز إلى ضمان جاهزية أمنية مستدامة، قادرة على مواكبة التدفقات المكثفة للجماهير والوفود الرسمية والإعلامية.
وجرى دعم المراكز الحدودية بالمدن المستضيفة للمنافسات القارية بأزيد من 100 موظفة وموظف شرطة جدد، جرى اختيارهم بعناية لتعزيز الفرق المختصة في المراقبة الحدودية. وخضع هؤلاء لتكوينات ميدانية تطبيقية ركزت على تطوير مهارات التفتيش والمراقبة والتعامل مع الحالات الاستثنائية.
الرقمنة.. البوابات الإلكترونية في الواجهة
ضمن الرؤية الاستشرافية نفسها، شرعت المديرية العامة للأمن الوطني، بتنسيق مع المكتب الوطني للمطارات، في تعميم العمل بنظام البوابات الإلكترونية (E-GATE)، الذي يعد أحد الحلول الذكية لتيسير حركة العبور وتعزيز المراقبة في الآن ذاته.
وسيتم اعتماد هذا النظام في مرحلة أولى بمطار مراكش- المنارة كنموذج تجريبي، على أن يتم تعميمه لاحقاً على مختلف نقاط العبور الجوية.
ويتكامل هذا الإجراء مع تنزيل مشروع «مخطط ماستر 2030» والمخطط المديري الوطني للمطارات، اللذين يهدفان إلى تحديث البنيات التحتية الجوية، ورفع طاقتها الاستيعابية وإحداث محاور جوية جهوية جديدة.
3387 شرطياً في الميدان
تكشف الأرقام الواردة في تقرير حصيلة المديرية العامة للأمن الوطني لسنة 2025 عن حجم التعبئة البشرية المصاحبة لهذه الاستعدادات. وتم تعيين 3387 موظفة وموظف شرطة من المتخرجين الجدد للعمل ضمن القيادات الأمنية التي ستسهر على تأمين مباريات كأس أمم إفريقيا.
وشمل هذا التعزيز، بالأساس، المدن الكبرى التي ستحتضن المباريات، وهي الرباط، الدار البيضاء، مراكش، أكادير، فاس وطنجة. ويأتي هذا الإجراء في إطار مقاربة تقوم على الحضور البشري المكثف، المدعوم بالتكوين والتخصص في مجال الأمن الرياضي وتدبير الحشود، بما يضمن سرعة التدخل ونجاعة الاستجابة.
المدن تحت المراقبة الذكية
في الفضاءات الحضرية اختار المغرب تعزيز الأمن من خلال الدمج بين العنصر البشري والتكنولوجيا الحديثة. وجرى إرساء نظام المراقبة الذكية بالكاميرات في عدد من المدن، من بينها الدار البيضاء، الرباط، مراكش، طنجة، فاس وأكادير، التي ستحتضن الحدث القاري.
وبحسب المعطيات الرسمية، جرى تعميم 6000 كاميرا محمولة، مزودة بمنصات للتدبير والتسجيل، لتغطية 75 موقعاً ذا أولوية، خاصة على المحاور التي ستعرف كثافة جماهيرية مرتفعة، مثل محور الرباط– الدار البيضاء، ومراكش–أكادير وفاس–طنجة.
ولم تغفل الخطة الأمنية الفضاءات الرياضية ذاتها، حيث جرى تجهيز جميع الملاعب التي تحتضن المباريات القارية بمفوضيات للشرطة وقاعات للقيادة والتنسيق. ويهدف هذا الإجراء إلى تدبير التدخلات الأمنية بشكل فوري، وضمان التطبيق الحازم للقانون في حق كل المخالفات، بما ينسجم مع المعايير الدولية المعتمدة في تنظيم البطولات الكبرى.
مواجهة التهديدات السيبرانية
يضطلع مركز التعاون الشرطي الإفريقي بدور محوري في مجال اليقظة المعلوماتية الرقمية، من خلال رصد التهديدات السيبرانية المحتملة، بما فيها مخاطر الإرهاب والتطرف والاختراقات المعلوماتية. ويتم ذلك بتنسيق مباشر مع وحدة الجرائم السيبرانية التابعة للإنتربول، بما يضمن سرعة ونجاعة التدخل وحماية المنشآت الرياضية وكافة المرافق المستقبلة للجماهير.
تكشف هذه المعطيات أن المغرب يتعامل مع كأس أمم إفريقيا 2025 ليس فقط كحدث رياضي قاري، بل كتمرين استراتيجي واسع لاختبار جاهزية منظومته الأمنية، وتكريس موقعه كشريك إفريقي موثوق في مجال الأمن الرياضي. فإحداث مركز قاري للتعاون الشرطي، وتعبئة آلاف العناصر الأمنية والاستثمار في التكنولوجيا والموارد البشرية، كلها مؤشرات على انتقال التدبير الأمني من منطق الظرفية إلى منطق التخطيط بعيد المدى، في أفق احتضان العالم سنة 2030.





