شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

أشرطة «بول بولز» المنقرضة

 

 

يونس جنوحي

 

بول بولز، أشهر أجنبي سكن في المغرب، اختار مدينة طنجة مُقاما له وكتب عنها وسكنته.

هذا الأمريكي كتب، في يومياته «يوميات طنجة» لفترة 1987، أنه بادر إلى تسجيل أصوات «الغيطة»، التي ترتفع من أعلى الصوامع خلال شهر رمضان في مدينة طنجة، قبل الأذان سنة 1977. وذكر في مذكراته أنه عندما راودته الفكرة ونفذها، كان يرتاب من أن يأتي زمن تنقرض فيه تلك العادة، فوثّق لها.

وفعلا فقد «انقرضت» الظاهرة بشكل مفاجئ، ولم يعد لها وجود، وبقيت أجواؤها مجمدة في شريط بالقرب من آلة التسجيل، التي جاء بها «بول بولز» معه من أمريكا.

يقال إن هذا الكاتب الأمريكي قد أوصل أجواء المدينة القديمة في طنجة إلى العالمية، وإن له الفضل في استقطاب نجوم وشخصيات من السينما والرياضة، وحتى من عالم المال والسياسة، إلى الاستقرار النهائي في شمال المغرب.

ترى ما مصير هذه التسجيلات التي قال بول بولز إنه سجلها قبل 47 سنة؟

أهمية هذه التسجيلات أنها توثق للأصوات المتعلقة بشهر رمضان كاملا. إذ إن بول بولز لم يكتف بتسجيل أصوات «الغيطة» المرتفعة من المآذن، وإنما سجل أيضا صوت النفار الذي ينبعث ليلا لإيقاظ الناس وقت السحور، وهي أيضا مهمة آخذة في الانقراض. وقلما يوجد متطوعون لممارسة هذه الطقوس الرمضانية، خصوصا في الأحياء الشعبية.

بعض الشبان هذه الأيام عوضوا «الطبلة» القديمة وبدل أن يوقظوا الناس بالنقر المتواصل على الطبل، فضلوا أن يحملوا معهم واحدة من مكبرات الصوت الصينية التي أغرقت الأسواق، ويطلقوا تلك الأصوات المزعجة لإرعاب الناس وليس إيقاظهم. ولم يحدث هذا الأمر في المغرب فقط، وإنما في دول إسلامية أخرى تأثر الجيل الجديد من شبابها بتجارب من هذا النوع، خصوصا في الأحياء الشعبية.

وإذا كانت تسجيلات «بول بولز» ما زالت على قيد الحياة، فإنها ولا شك سوف تكون وثيقة تاريخية للعادات الاجتماعية للمغاربة. وبما أنه سجّل أجواء رمضان الليلية، فلا بد أنه قد سجل أجواء نهارية أيضا وطقوسا احتفالية أخرى من الحياة اليومية والمناسباتية للمغاربة، ليس في طنجة فقط وإنما في أماكن أخرى أيضا من المغرب.

والمعروف أن «بول بولز» كان وراء مجيء مخرجين ومبدعين إلى المغرب، من بينهم مخرجو ومنتجو الأفلام الوثائقية أمثال «ريجينا وينريش» التي تركت نيويورك وأضواءها وضوضاءها، والتحقت ببول بولز في إطار مشروع فيلم وثائقي كانت تشتغل عليه وقتها لصالح قناة تلفزية أمريكية يهم حياته في المغرب، وكيف اختار أن يقضي عقودا من حياته بيننا، حتى أنه ربما قد عاش في المغرب أكثر مما عاش في الولايات المتحدة.

الله وحده يعلم حجم العادات والممارسات المغربية التي وثق لها الأجانب، قبل أن تنقرض. لولا كاميرات «النصارى» وآلات التسجيل، التي كانوا يطوفون بها بين المدن، لما وصلت إلينا بعض العادات التي قطعت معها الأجيال ببرودة دم شديدة.

الذين عرفوا بول بولز يفسرون إقدامه على تسجيل أصوات «الغيطة» الرمضانية، بأنه كان أولا رجل موسيقى وعازفا ومؤلفا، وأنه كان يضرب مفاتيح آلة البيانو أكثر مما كان يداعب أزرار الآلة الكاتبة.

رحل بول بولز، وانقرضت «الغيطة» من الشوارع، واكتفى الناس بسماعها منبعثة من شاشات التلفاز والهواتف، ورغم أن الجميع يملكون آلات تسجيل مدمجة في هواتفهم، إلا أن فكرة تسجيل ما يحيط بنا مخافة أن ينقرض لا تُزعج أحدا منا، بقدر ما شغلت بول بولز الذي صدقت نبوءته. فقد انقرضت أصوات «الغيطة» فعلا، لكن هل تنبأ أيضا بضياع الأشرطة بعد وفاته؟

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى