أول لقاء مع الملك الراحل محمد الخامس وتدبير أزمة اختطافات الأجانب بعد الاستقلال
حياة في ظِلّ ملِكين

يونس جنوحي
الفصل الثالث:
مغرب محمد الخامس 1956- 1961
لم يُكتب لي أن أعيش تلك اللحظات التاريخية تزامنا مع عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى يوم 16 نونبر 1955، لكننا تابعنا من تطوان أخبار ما كان يقع في مدينة الرباط. بل كانت تصل إلينا أصداء التحضيرات، وعلمنا أن بعض الأوساط كانت لا تُمانع في مفاوضة فرنسا على إنشاء حكومة مغربية بدون الملك الراحل محمد الخامس، وهو ما جعل عددا من الشخصيات الوطنية تنتفض رفضا لهذا الاقتراح. لقد كان الإخوان واضحين: لا هُدنة مع فرنسا بدون عودة السلطان إلى العرش.
عم الفرح في أرجاء المنطقة الشمالية عندما تأكد خبر عودة السلطان إلى عرشه، وشرع الإخوان في طرح الأسئلة عن موعد عودتنا إلى أهالينا وانتهاء المعاناة التي بدأت منذ صيف 1953.
بالنسبة لي، كنت أتابع تطورات وحدات جيش التحرير في كل نقاط منطقة الشمال، وكان هناك تأهب كبير في صفوف المقاومين.
صراحة لم أفكر في العودة مباشرة إلى الدار البيضاء، وقررتُ أن أتريث قليلا. هكذا تابعنا خبر تنصيب حكومة البكاي ولد امبارك الهبيل في دجنبر 1955، وكانت تصلنا بعض الأصداء من الإخوان الوطنيين. وكان الزعيم علال الفاسي، وقتها، لا يزال في القاهرة ولم يلتحق بعدُ بأرض الوطن.
عدد من الإخوان أبانوا عن رغبتهم الفورية في العودة إلى الدار البيضاء، مع إعلان وصول السلطان وتنصيب الحكومة، لكن الصواب كان أن نتريث قليلا، وهذا بالضبط ما التزم به أغلب الإخوان.
مع بداية سنة 1956، خصوصا بعد توقيع نص وثيقة الاستقلال في شهر مارس، لم يعد هناك ما يُلزم الإخوان -أو من تبقى منهم- بالبقاء لاجئين في المنطقة الخليفية.
أول لقاء مع الملك الراحل محمد الخامس
عُدت بدوري إلى الرباط، في ربيع سنة 1956، في رحلة مؤثرة، بعد أن قررتُ بدوري أن أنهي مرحلة اللجوء في تطوان، خصوصا وأن أسباب البقاء هناك لم تعد متوفرة.. لكني كنت أعود وأزور تطوان، وأزور الأصدقاء الذين ربطتُ معهم هناك علاقات إنسانية لن أفيها حقها مهما تحدثتُ عنها. وبقيت لفترة مهمة أتنقل بشكل دائم ومستمر بين الرباط والمنطقة الشمالية، في إطار مهام جيش التحرير.
وجدتُ نفسي «جوّالا» من جديد بعد الدخول من المنطقة الشمالية، واقترح عليّ الدكتور عبد الكريم الخطيب أن ألتحق بالفيلا التي كان يسكنها المحجوبي أحرضان، وكان قد عُين في ذلك التاريخ عاملا على مدينة الرباط ووُضع السكن الوظيفي رهن إشارته، ولم يتردد في منحي غرفة مُلحقة بحديقة الفيلا لكي أستقر فيها مؤقتا. هناك تعرفتُ عليه عن قرب وعلى زوجته الراحلة رحمهما الله.
كنتُ قد عُدت من تطوان بسيارة أستعملها في التنقل بين الرباط والدار البيضاء، وأعدت إحياء الصلات القديمة مع الإخوان المقاومين الذين حالت فترة المنفى بيني وبينهم.
وهكذا قرر الإخوان، الذين كنتُ معهم في «فرقة الكاريان سنطرال»، أن نذهب إلى القصر الملكي في الرباط لتحية السلطان والسلام عليه. كانت الوفود في تلك الفترة (خلال النصف الأول من سنة 1956)، لا تنقطع -بدون مبالغة- على بوابة القصر الملكي لتحية السلطان والسلام عليه.
ذهبت مجموعتنا إلى الرباط، وجرى التنسيق مع الإخوان وحُدد وقت الزيارة. لم ننتظر طويلا حتى يُسمح لنا بالدخول إلى القصر الملكي، وسرنا نحو القاعة التي استقبلنا فيها جلالته. لم نتمالك أنفسنا من الفرح ونحن نرى جلالة السلطان، وهو يدخل إلى القاعة بجلبابه الشهير، رافعا يده الكريمة نحونا لتحيتنا. سلمنا على جلالته بتأثر بالغ، وجرى تقديمنا له وعلم أننا كنا نعمل في فرقة المسرح بالكاريان سنطرال، وأثنى علينا وشجعنا على استثمار شبابنا لما فيه خير الوطن، وسلمنا عليه مجددا وانصرفنا. أغلبنا لم يصدقوا أنهم سلموا على السلطان.. وكانت تلك أول مرة أرى فيها الملك الراحل محمد الخامس شخصيا، ولم تكن الأخيرة، فقد تكررت المرات التي رأيته فيها، واشتغلت لفترة داخل القصر الملكي ورأينا جلالته عن قرب في عدد من المناسبات.
اللقاء مع ولي العهد
كان الدكتور الخطيب هو الذي هندس لقائي مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن. فقد ذكر الأمير أنه يحتاج إلى شاب يعرف جيدا أفراد جيش التحرير، ويعرف المناطق الشمالية جيدا ولديه اتصال بالمقاومين، واقترحني الدكتور الخطيب لكي أتكلف بهذه المهمة. أذكر أنه اتصل بي، وطلب مني الالتحاق به وذهبتُ معه لمقابلة ولي العهد. وجدته شابا لطيفا ورحب بي، وسرعان ما أصبحتُ ألتحق بإقامة ولي العهد كلما استدعاني ليكلفني بمهمة من المهام.
وبفضل وجودي بالقرب من ولي العهد، تعرفتُ على عدد من الشخصيات. إذ لم يسبق لي أن رأيتُ الجنرال أوفقير مثلا أو المذبوح، وغيرهما من الجنرالات وكبار الشخصيات العسكرية، إلا بعد الاستقلال.
كان ولي العهد، سيدي الأمير مولاي الحسن، يحيطنا بعطف كبير. وخلال تلك الفترة، كان يشتغل بحماس كبير لكي يحيط بجميع الملفات، ويشرف بنفسه على كل التفاصيل، ويحاول معرفة كل المشاكل التي تتربص بالبلاد خلال الفترة الأولى التي تلت استقلالها عن فرنسا.
ما كان مُقلقا، في ذلك الوقت، هو سحب سلاح جيش التحرير، وإدماج أفراده في الجيش الملكي وضمان الاستقرار والأمن في الشارع العام.
وقعت بعض «المناوشات»، تمثلت في اختطاف بعض الأجانب وحدوث مواجهات مع جنود بعض الثكنات الفرنسية التي كانت لا تزال في المغرب. إذ أن انسحاب الجيش الفرنسي من البلاد لا يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، لكن الحماس كان كبيرا، وبعض الأطراف كانت تعتقد أن كل شيء سيتغير بسرعة بـ«عصا سحرية».
أسرى بين الجانبين
القصد بـ«الجانبين» هنا جيش التحرير المغربي والجيش الفرنسي. فقد وقعت أحداث مؤسفة، تمثلت في اختطاف بعض الفرنسيين، بعد الاستقلال، في إطار اشتعال الأجواء والتوتر الذي رافق انسحاب القوات الفرنسية النهائي من المغرب.
وصل إلينا خبر اختطاف بعض جنود جيش التحرير في منطقة بركان، وعندما علم بعض الإخوان بالواقعة أرادوا أن يردوا بطريقتهم ويخطفوا بدورهم جنودا فرنسيين.
وما وقع أن أحد الإخوان، ولن أذكر اسمه هنا لأن نضاله في جيش التحرير يشفع له رغم الخطأ الذي ارتكبه، كان في طريقه، مع مقاوم آخر، نحو الشمال، وتوقفا في مدينة فاس. هناك رأيا عسكريا فرنسيا برتبة «قبطان»، يرتدي بذلته العسكرية بطبيعة الحال، ومعه زوجته وابنته. فذهبا إليه وقالا له إنهما من جيش التحرير المغربي، وأمراه أن يُسلم السيارة لزوجته وابنته ويذهب معهما، واعتقلاه.
أخذاه إلى غفساي، التي كانت توجد فيها إدارة جيش التحرير، وبعد الاستقلال بقي المكتب هناك، ووجدتُ ذاك «الكابتان». والحقيقة أنه لم يتم الاعتداء عليه، بل كان يُعامل جيدا، حتى أن بعض الإخوان، الذين كانوا يتحدثون الفرنسية، كانوا يُمازحونه ويتجاذبون معه أطراف الحديث.
تحدثتُ معه واطمأننت على حالته الصحية والنفسية، وبحكم أنني كنتُ أحمل معي دائما آلة التصوير ولا تُفارقني، قلت له: «هل تسمح لي أن ألتقط لك صورة؟»،
فأجابني: «أنا سجين عندكم، وما دمت طلبت مني هذا الطلب، اسمح لي أن أخبرك أمرا: إذا أطلقتم سراحي من هنا وحدث أن نُشرت الصورة التي ستلتقط لي، فإن مساري المهني سيتضرر وقد أسرح من الجيش الفرنسي بعد ذلك.. لذلك اسمح لي أن أطلب منك ألا تلتقط لي أي صور».
وافقتُ طبعا، واحترمتُ رغبته ولم يلتقط له أحد أي صورة.
وصل الخبر إلى الملك الراحل محمد الخامس، ووُضع في الصورة، بعد أن ذكروا له أن الجيش الفرنسي اعتقل بعض جنود التحرير في نواحي وجدة، وأن اختطاف الجندي الفرنسي ما هو إلى رد على ما وقع.. فأمر جلالته على الفور أن يُطوى هذا الموضوع حتى لا تتطور الأمور إلى الأسوأ.
وعندما أطلق سراح هذا «الكابيتان»، كتب مقالا مهما في صحيفة تصدر باللغة الفرنسية، وتحدث عن تجربة الاعتقال في غفساي، وأثنى على أخلاق المقاومين من أعضاء جيش التحرير، حتى أنه ذكر في مقاله أنه لعب «الكارطة» مع بعض الإخوان..
لكن من أهم الوقائع التي عشتُها شخصيا في هذا السياق، واقعة «قرية با امحمد»، التي رافقتُ فيها الدكتور الخطيب.