
بقلم د.خالص جلبي
في عام 1839 للميلاد، توقف سائحان بريطانيان في مدينة (الموصل)، شمالي العراق، هما (أوستن هنري لايارد – AUSTIN HENRY) وصديقه (راسام – RASSAM)، وكانا يزمعان متابعة رحلة مثيرة برية إلى سيلان (1)، فقررا البقاء لعدة أيام لرؤية بعض الآثار التاريخية خارج الموصل.. وهنا وقفا يتأملان أبنية أثرية بيضاء متحدية توحي لكل من يحدق فيها – حدث معي شخصيا، قبل أكثر من ثلاثين سنة- بالفخامة وقوة التحصينات. ولم يخطر في بالهما قط، أن سكان هذه المنطقة كانوا أفظع وأرعب ما أخرجت الأرض لسكان الشعوب المجاورة، كما لم يخطر في بالهما أن إقامتهما ستمتد لسنوات طويلة في أطلال نينوى (2).
جولة آشور المرعبة واكتشاف مكتبة آشور بانيبال
كانت رؤية هذه الأبنية ذات جاذبية لا تقاوم، لمعرفة سكانها الأصليين.. من هم؟ متى عاشوا؟ ما هو الدور الذي لعبوه في التاريخ؟ ولم يستطع (لايارد) مقاومة فضوله، فعمد إلى بعض التلال، فبدأ ينكش فيها! واشتد فضوله عندما اصطدم معوله ببعض اللوحات من الآجر، وانعقد لسانه من الدهشة، فقعد يحملق فيها؛ فراعته نقوش غريبة، وكأنها حفرت بالمسمار، في هذه اللوحة الطينية قبل أن تجف تماما، وقبل طبخها الفني النهائي، للمحافظة على النقوش فيها. قال (لايارد) لنفسه كأنها كتابة (مسمارية)، وكانت كذلك، فأخذت اسمها منذ ذلك الاكتشاف! وبالطبع فإن السومريين لم يسموا كتابتهم بذلك؛ بل كانوا كل ظنهم أنها أجمل خط أنتجه يد الإنسان!
حمل (لايارد) على عجل مكتشفاته إلى ما كانت تسمى في ذلك الوقت (المقيمة) البريطانية في بغداد المعادلة للسفارة اليوم، حيث جمعته الظروف برجل بارع في تفسير الكتابة المسمارية هو (هنري رولنسون – HENRY RAWLINSON)، فالمذكور قبل مجيئه إلى بغداد عمل لفترة طويلة في حل رموز هذه اللغة (الإسفينية) من النقش العظيم المعروف بسجل دارا المدون على حدر (بهستون)، الذي عثر عليه قرب كرمان شاه في فارس (3).
أوقف لايارد رحلته باتجاه سيلان وشده الفضول لمتابعة ما اكتشف؛ فاستطاع خلال سنوات من العمل الشاق أن ينتشل من رحم الأرض قرابة خمسة وعشرين ألف لوح طيني، ولم يدر في خلده يومها أنه قد وضع يده على المكتبة الممتازة التي أنشأها الملك الآشوري المرعب (آشور بني بعل)، وفي عام 1853م أثار اكتشاف هذه الألواح ضجة كبرى في العالم حولها، كونها أشارت إلى قصة الطوفان المعروفة في الكتب المقدسة، وجاء ذكر الطوفان كسياق جانبي في الملحمة الرئيسية التي تضم اثنا عشر لوحا والمعروفة بـ(ملحمة جلجاميش) (4).
ملحمة جلجاميش وقصة الطوفان
جاء ذكر الطوفان في اللوح الحادي عشر، حيث طابقت ما جاء في العهد القديم بشكل لافت للنظر. وأما ملحمة جلجاميش فإنها تروي أسطورة الملك (أوروك) (5)، الذي مات صديقه (أينكيدو)، إنسان الغابة، فانطلق إلى البحث عن سر الموت والحياة، فطفق يقول ويتساءل: «فانتابني هلع الموت حتى همت بالبراري، يثقل صدري خطب أخي، فمالي من راحة ومالي من سكون. صديقي الذي أحببت صار إلى تراب، وأنا أفلا أرقد مثله ولا أفيق أبدا وأواه يا أوبتنابشتيم ماذا أفعل؟ أين أسير؟ لقد تسلل البلى إلى أطرافي وسكنت المنية حجرة نومي، وحيثما قلبت وجهي أجد الموت». وكانت الأجوبة تتردد عليه، «إلى أين تمضي يا جلجاميش؟ وأين تسعى بك قدماك؟ الحياة التي تبحث عنها لن تجدها، فالبشر أيامهم معدودة على هذه الأرض، أو من (أوبتنابشتيم) الذي وصل إليه بعد رحلة حافلة بالمخاطر: هل نشيد بيوتا لا يدكها الفنا؟ وهل نعقد ميثاقا لا يصيبه البلى؟ وهل يقتسم الإخوة ميراثهم ليبقى دهرا؟ وهل ينزرع الحقد في الأرض دواما؟ وهل يخرج اليعسوب من شرنقته ليدير وجهه للشمس طوالا؟ فمنذ الأزل لا تظهر الأمور ثباتا، في البدء اجتمع الأنوناكي الآلهة العظام وزعوا الحياة والموت، ولم يكشفوا لحي عن يومه الموقوت، أو في صورة العرض الذي تشرحه فتاة الحان (سيدوري): إلى أين تمضي يا جلجاميش؟ الحياة التي تبحث عنها لن تجدي، فاملأ بطنك، افرح ليلك ونهارك، اجعل من كل يوم عيدا، ارقص لاهيا في الليل والنهار، اخطر بثياب زاهية نظيفة، اغسل رأسك وتحمم بالمياه، دلل صغيرك الذي يمسك بيدك، واسعد زوجك بين أحضانك، هذا نصيب البشر في هذه الحياة» (6).
مراجع وهوامش:
- تراجع القصة بالتفصيل في كتاب «ملحمة جلجاميش» – ن.ك.ساندرز – ترجمة محمد نبيل نوفل- دار المعارف بمصر، ص:10.
- يراجع في هذا كتاب «دراسة التاريخ» لجون أرنولد توينبي، الجزء الأول، بحث انتحارية النزعة الحربية، وكيف أن دولة آشور مسحت معظم مدن منطقة الشرق الأوسط وسوتها بالأرض، وحملت شعوبا بأكملها إلى معسكرات الاعتقال الجماعية، منها الشعب اليهودي الذي ما زال يحملها في الذاكرة الجماعية.
- المصدر السابق نفسه «ملحمة جلجاميش»، ص:11.
- تراجع الترجمة الكاملة للملحمة في كتاب «قراءة في ملحمة جلجاميش».
- تعتبر هذه المدينة وأخريات مثل بابل ونيبور وأور وأكاد من المدن العامرة، التي شكلت يوما ما حضارة ما بين النهرين.
- فراس سواح – «جلجاميش»، ص:275.
نافذة:
أوقف لايارد رحلته باتجاه سيلان وشده الفضول لمتابعة ما اكتشف فاستطاع خلال سنوات من العمل الشاق أن ينتشل من رحم الأرض قرابة خمسة وعشرين ألف لوح طيني





