شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

التبعية لمطلقات الغرب

 

 

عبد الإله بلقزيز

 

غالبا ما يحصل لكثير منا، باحثين وقراء، أن يردد – في ما يكتبه ويقوله- أفكارا وقيما ثقافية حديثة من غير أن يتساءل عن نسبة الحجية فيها، ولا عن مدى ما يمكن أن تفيد ثقافتنا ومجتمعاتنا به.

أما من يشذ عن القاعدة فيسائل بعض تلك القيم الفكرية، أو يتناولها بنقد موسع، فإن الغالب على أكثر جمهور الحداثة في ثقافتنا أن يقف من رأيه موقف اشتباه، أو أن يبحث في مقولة عما يمكن أن يقيم الدليل عليه أو يميط اللثام عن صلة ما قد تكون مظنونة بين رأيه ذاك وموقف أهل الأصالة! وقد لا يختلف أمر هذا الاشتباه، كثيرا، حتى إن علِم أن صاحب الرأي النقدي هذا غير داخل في زمرة أهل الأصالة، ولا ممن يدأبون على معالنة الغرب خلافا. في الأحوال جميعها، قلما استقبل رأي نقدي عربي لمنظومات الثقافة في الغرب بما يليق به – في أقل الواجب- من إصغاء وانتباه، فكيف بأن يحل المحل المناسب وأن يؤخذ به أو يستلهم أو يبنى عليه!

غني عن التنفيل في شرح بواعث ذلك أن أكثر تلك البواعث أثرا هو اليقين المقيم في وعي أهل الحداثة الغربية من المثقفين العرب بأن ما يأتي من الغرب مطلوب ومرغوب ونافع ناجع؛ إن لم يكن كله فأكثره، وأن المشاحة فيه والحذار منه – دعك من نقده- مسلك معرفي آيل بنتائجه إلى خدمة مقالة الأصالة وأصحابها. والرأي هذا فطير، في ما نرى، يعجِله من يقولون به إعجالا، من غير تقديم مقدمات وتمهيد أصول ومن غير وضع المائز الضروري بين أنواع النقود: ما ابتغى منها الهدم وتصفية الحساب وما شأنه منها أن يحلل ويسبر ويمحص ويضع الأفكار في الميزان. ولست هنا في معرض الحط من قيم الغرب الثقافية ومعارفه أو القدحِ فيها، إطلاقا؛ فأنا – شأن آخرين مثلي- أمتاح منها ما استطعت من الامتياح، وإنما أبغي التنبيه إلى المغبة التي تأتي من وراء الانسجان في أقفاص اليقين بما ينتهل من المعارف، والضرب صفحا عن أداء واجب السؤال عن موطن الوجاهة فيها وتخريج مسائل المحمود وغير المحمود منها.

يحتاج الفكر العربي إلى تغذية معرفية، باستمرار، من مصادر إنتاج المعارف والأفكار؛ والثقافة الغربية واحدة من أظهر تلك المصادر وأخصبها اليوم. هذه مسألة لا يختلف عليها بين من يعرفون، على التحقيق، أن ثقافة ما – مهما عظم شأنها- لا تكفي نفسها بنفسها ولا تملك أن تكون في غنية عن غيرها أيا يكن رصيدها التاريخي من المعارف، وأن ثراءها لا يكون بالموروث وحده، بل بالمكتسب أيضا. ولكن هذا شيء، والسكون إلى اليقين التام وتعطيل حاسة النقد شيء آخر مختلف تماما؛ إذ ليس من وراء المسلك هذا انتهال معرفي يتعزز به خزين الثقافة ويعظم أثرها في مجتمعها؛ حيث ما كل منتهل مفيد ومنتِج ومطابق للواقع ومناسب للحاجات.

وإلى ذلك فإن تعطيل جهاز النقد في الوعي والفكر يحول اليقينيات المركوزة في الأذهان إلى مطلقات ميتافيزيقية أشبه بالإيمانيات القائمة على مبدأ التسليم بالصدق القبلي للحقائق. وغني عن البيان أن وعيا هذا شأنه يحكم على نفسه، لا محالة، بالتحنط ويفقد أي مورد حيوي للبقاء فيكتفي من المعرفة بالتكرار والاجترار، أي يتحول فعل المعرفة إلى اقتباس وشرح وتلخيص، على نحو مكرور وممجوج خال من كل إبداع. وهذا لعمري ما لا تصدق عليه سوى تسمية واحدة مناسبة ومطابقة هي التسول الثقافي!

الأسوأ من هذه العادة الفكرية القبيحة في السكون إلى القيم الثقافية الوافدة من الغرب وحسبانها يقينيات مطلقة لا سبيل إلى الشك فيها، أو إلى مساءلتها حتى، هو الوقوف بسلبية بالغة أمام أوضاع وحوادث تطرأ في عالمنا المعاصر فتستدعي من مفكري الغرب وعلمائه ومثقفيه الجهر بمواقف تنقض، جملة، كل تلك المنظومة من المبادئ والقيم التي أنتجتها المعرفة الغربية الحديثة والمعاصرة!

وقد يكون في جملة ما يتخذون منه مواقف سلبية وبهلوانية كثير من القضايا العادلة التي ناصرتها قطاعات شعبية حرة في مجتمعاتهم، ومنها قضايا خاصة بالعرب أنفسهم. ومع أن حالة انفضاح الوعي الغربي، في مثل هذه الامتحانات التاريخية، حالة صارخة لا تقبل تسترا عليها من أحد، أو تلكؤا في إدانتها من كل وعي حر، إلا أن قوى التسول الثقافي من المتغربنين الانبهاريين تقف منها موقف اللامبالاة، حتى ليكاد الظن يذهب بالمرء إلى الاعتقاد بأنهم يشاطرون مثقفي الغرب قيمهم هذه المنقلبة على القيم الحديثة! ليس من تفسير لهذه النازلة سوى أن انبهاريتهم واتباعيتهم لا محدودتان!

 

نافذة:

تعطيل جهاز النقد في الوعي والفكر يحول اليقينيات المركوزة في الأذهان إلى مطلقات ميتافيزيقية أشبه بالإيمانيات القائمة على مبدأ التسليم بالصدق القبلي للحقائق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى