الرأي

التقعر في اللغة

بقلم: خالص جلبي

في مجموعة أكاديمية العلم والسلم التي أنشأتها على ثبج البحر الأخضر الإلكتروني جاءني من الأخ (عبد اللطيف)، الساكن في أوتاوا نقلا عن طبيب يتحدث عن الطاعون، وبالطبع فقد أصبح «اليوتيوب» الآن هو مرآة التلميع لكل من هب ودب. وصاحبنا طبيب حديث التخرج بدأ يتكلم عن الطاعون، وكأنه الدكتور (ألكسندر إميل جان يرسين) أو (كيتا ساتو شيبا سابورو)، اللذان اكتشفا عصية مرض الطاعون، مما دعاني إلى وضع مقالتي المفصلة عن مرض الطاعون وكيف كان السبب في هزيمة نابليون على أسوار عكا، من مرض خبيث يركب طبقا عن طبق ظهور الفئران فيقتلها؛ والبراغيث فيموتها جوعا، وهي بدورها تنقل المرض إلى الأحياء في ثلاثة أشكال تؤدي إلى الموت الحاد والسريع؛ فإما كانت بالدم فتسببت بالخمج العام، أو ضربت العقد اللمفاوية فقادت إلى الهلاك بمرض الدبل، أو الرئوي فيهلك المصاب اختناقا. وهكذا قصتي اليومية مع من يراسلني.
ولأنني أرسلت مقالتي بعد التعميم، فقد جاءني تعليق من الزميل الطبيب ياسر على مقالتي، أنني أخطأت نحويا في كلمة شيئا، فوضعت التنوين على الألف ويجب
أن توضع على الهمزة. ولأن هذا الكشف يجب أن يسجل في موسوعة غينيس للاكتشافات اللغوية، ولأنني أحب الرجل فقد أرسلت إليه تسجيلا صوتيا تمنيت فيه أن يكون قرأ مقالتي المطولة واستفاد منها.
وجاء في جوابي له، قصتي مع أحد أقربائي وكان يعمل في معهد ماكس بلانك بألمانيا، حين أرسلت إليه كتابي (الإيدز طاعون العصر)، فجاءني منه فاكس مستعجل وكانت تلك الأيام هي أفضل وأسرع من يراسل. قال لي وهو العربي اللسان إنه لا يعرف ماذا يقول عند كلمة، إنني أخطأت فيها! ووجب أن يرسل فاكسا لهذا الخطأ الشنيع في كتابي، والمكون من 420 صفحة في معالجة أخطر أمراض ذلك الوقت مع ثمانينات القرن الفائت؛ قال: إنني يجب أن انتبه إلى التفريق بين الأحماض الأمينية والنووية، وكلاهما واحد. سوى أن هذه الأحماض الأربعة وهي (السيتوزين والجوانين والثيمين والجوانين ويرمز لها ACTG)، حين استقرت في تركيب الكروموسوم فقد أخذت اسم النواة، فأصبحت أحماضا نووية بعد أن كانت أمينية.
الآن كل الكتاب وكل الجهد تطلب منه أن يقول انتبه إلى هذا الخطأ الفاحش! بالطبع مثل هذه التصرفات تعني أن صاحبنا لم يقرأ الكتاب، وحين تصفح ورقة من الكتاب، أمسك بالقلم ليكتب التعليق ليقول إن الكتاب متهاوي المعلومات، فهذه هي ثقافة أشباه الأميين.
ومما أذكر عن كتاب «الخاطرات» للأفغاني، أنهم انتقدوه وقالوا الصحيح (خواطر) وليس (خاطرات) فهذا خطأ نحوي، فطبع الكتاب بكلمة خاطرات، وأذكر من الدكتور حسني سبح، أستاذ الأمراض الباطنية من جامعة دمشق، قوله: «الخطأ الشائع يتم تبنيه أفضل من كلمة غريبة (وصحيحة) لا يفهمها أحد. وكلمة مثل تلفون أفضل من كلمة السامع والمتكلم عن بعد. فاختصرنا المشهد بكلمة ولو كانت أجنبية، وهذا من قانون تطور اللغات».
وقصتي مع هؤلاء المتحذلقين طويلة، فقد أرسل إلي أحد القراء الحاذقين في اللغة، أنني يجب أن أمرر مقالتي دوما تحت عدسة نحوي، لأنني أخطأت في النحو ولن أندم على نصيحته قط. فقد كتبت قبل الإسلاميون، وكان يجب أن أكتب قبل الإسلاميين فأخطأت بالإضافة بزعمه، ولا أتذكر تماما أين حصل هذا. وكان يجب أن أصفق له لهذا الاكتشاف الفلكي. ويذكر من نكات النحويين أن أحدهم حضر وفاة نحوي آخر، فأراد أن يعزيه بكلمات فقال النحوي لهذا الذي يعزي: «يرحمك الله، ليس هكذا يعزى بل يجب أن تقول عافاك الله من العداد، وأراحك من الحلج، ورفع عنك التوصيم. لا تقلق من العلز، أو تتوجع من العلوص، قد عرقت بالرحضاء، موم معها برسام. اردمت عليك الحمى، وأنت مثن ومبطون. لقست نفسك. تصهي من جرحك. تكاد تموت بالقرت، ولكني أتفاءل أن يحمص ورمك، ويتقشقش جلدك. تقترب من المطرغش وأن لا تفيظ نفسك قبل أن ترى سؤلك».
وأذكر جيدا حين كتبت أول كتاب لي بعنوان «الطب محراب للإيمان»، فأردت أن أجرب حظي مع النحويين الفطاحل، وسلمت نسختين من الكتاب لواحد صديق يدرس في الجامعة آداب اللغة، والثاني فقيه وخطيب مشهور . فأما الأول فقد أرسل النسخة وقد تغير لونها من الأزرق إلى الأحمر، من كثرة الشطب والتصحيح. وقال عني إن ما كتبته كارثة لغوية، ولا يصلح أن يقرأه طلاب الصف الأول الابتدائي، وإنه لو عكف على التصليح لاحتاج عمر أهل الكهف وصبر أيوب.
وأما الثاني فتأخر في الرد حتى اجتمعت به، فسألته عن مصير الكتاب لأنه في طريقه إلى الطباعة؟ فضحك حتى كاد أن يقع على ظهره من الضحك، وقال: «ماذا أصلح؟ كله غلط، فهل تريد مني أن أعيد صياغة الكتاب».
وكنت أعرف الحسد وماذا يفعل في القلوب لشاب في أول عمره، يقدم على مغامرة علمية كبرى ليكتب في رسالة التخرج كتابا ضخما موثقا. واليوم طبع الكتاب عشرات الطبعات ومنها المسروقة، ولم يبق بلد عربي لم يدخله، وأرسل إلي نقيب الأطباء من مصر خطابا يستأذن فيه طباعة الكتاب لطلاب كلية الطب بطبعة شعبية رخيصة. وفي يوم قابلني رئيس الاستخبارات الأردنية الأسبق (رسول الكيلاني)، وقال لي: «لو تعلم أنني أهديت كتابك إلى كل الناس بمن فيهم النصارى».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى