الرأي

الحكومة الدينية والحكومة المدنية

بقلم: خالص جلبي

في شتاء 1979 م انفجر الطلبة في فبراير بالثورة الإيرانية ضد الشاه، فقمعها بكل سبيل ولم يفلح. وأسس الخميني دولته الدينية.
وفي يونيو 2003م انفجر الطلبة في طهران بمظاهرات ضد الحكومة الدينية، فتم قمعها كما فعل الشاه من قبل، هذه المرة باسم الدين. واعتبرت الحكومة الدينية أن أولئك الطلبة مارقون يحاربون الشريعة. وفي لحظة تحول من قاوم الاضطهاد إلى جلاد، وهذا الانقلاب في الأدوار سنة كونية. وبقدر اضطهاد المسيحيين في الكولوسيوم بروما وحرقهم وإلقائهم إلى الأسود، فقد فعلت المسيحية بخصومها ما هو أفظع مما فعلته روما بالمسيحيين، كما ذهب إلى ذلك المؤرخ ديورانت في موسوعته «قصة الحضارة».
وعندما نجحت الثورة الإيرانية فإنها لم تقل للناس: اذهبوا فأنتم الطلقاء، بل استفتحت العهد الجديد بسلسلة لا نهاية لها من الإعدامات خلدها الخلخالي بمنظره الكاريكاتوري، في محاكم هزلية باسم الشريعة. وهكذا طرد الشاه من إيران، ثم عاد فدخل بعباءة وقفطان ولحية.
وفي السودان نجح الترابي في إقامة خلافته الدينية، ولكن الحصان العسكري الذي جاء به إلى السلطة جمح به فكاد أن يدق عنقه. وقبل أن يوافيه الأجل عكف على مخطوطة كبيرة في السياسة والحكم في الإسلام، بأن الحريات هي أم القضايا بعد أن قضى هو والعصابة العسكرية على الحريات.
وفي أفغانستان حكم طالبان فوأدوا المرأة، وقتلوا المخالف، وحطموا الأماكن الأثرية بدعوى الأصنام، ومشى الناس على رؤوسهم إلى الخلف، كل ذلك تم باسم الحكومة الدينية.
وفي العراق كتب صدام على العلم العراقي «الله أكبر»، ولم يكن في العراق من هو أكبر من صدام.
وفي الجزائر ذبح أكثر من مائتي ألف بالسواطير والسكاكين، بدعوى الجهاد لإقامة حكومة دينية.
وفي سوريا تم توزيع منشورات سرية بفتوى من ابن تيمية بجواز قتل النصيرين (العلويين) بأي سبيل فهذا أقرب للتقوى، مما دعا السلطة إلى إصدار بلاغ بإلقاء القبض على ابن تيمية (المتوفى قبل سبعة قرون = توفي عام 1328م).
وفي عام 1980 جرت محاولة لاغتيال رئيس الجمهورية في سوريا، مما جعل النظام يتورط في قتل ألف معتقل سياسي وهم في عنابر السجن، فهذا أدعى للأمن (الأسد الأب = مذبحة تدمر بيد أخيه رفعت الأسد).
وكما نرى فالكل يستحم في العين الحمئة نفسها من نجاسة الدم المسفوح.
كل هذا الصراع يدور حول تأسيس الحكومة الدينية، ولكن هل الحكومة المدنية تتعارض مع الإسلام؟ وهل أثبتت الحكومات التي رفعت الشعارات الدينية جدارتها ونجاحها في عالمنا المعاصر؟ وهل الحكومة الدينية هي الحل لمشاكلنا الإنسانية؟
هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة تاريخية وسير في الأرض، لرؤية المكاسب والخسائر التي جلبتها للناس. فمن الواضح رؤية المشهد الدامي عبر العصور لأتباع الأنبياء، وهم يتقاتلون وكل حزب يريد إقامة حكومته الدينية. ويدعي أن كل ما عداها باطل يجب محوه. «ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد».

لماذا يقتتل أتباع الأنبياء؟
في البداية كان الناس يقتتلون على الطعام والمال والأرض والنساء. والقرآن يذكر أول حادثة قتل في تاريخ البشرية لأنه لم يُتَقَبل منه قربانه، فالسبب هو الإحباط والنقمة لما نزل به من فضيحة دينية، حيث كشف عدم صدقه في التقرب إلى الله، وأن شعاراته الدينية كانت هزيلة وزائفة. وكثير من الدول المستكبرة الآن على مذهب قابيل ترفع الشعارات الطيبة وأحيانا الدينية، وتقتل من يحاول كشف زيفها.
ثم جاء بنو إسرائيل وأقاموا دولتهم الدينية على الجماجم والدماء، وصوروا إلههم أنه الجبار الدموي. وحتى سليمان يخدم ربه بهذا الأسلوب «فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها».
وجاء عيسى فتبرأ من كل هذه المجازر ونادى بالحب، والتزم أتباعه في البداية بالحب والرحمة، وبشروا أن مملكة الرب في السماء. ولم يهتموا بإقامة حكومة دينية على الأرض. إلى أن جاء قسطنطين وعقد مجمع نيقية لعلماء النصارى (325 ميلادية)، ثم أصبحت النصرانية التي حددها المجمع هي دين الدولة وكل ما عداه خارج على الدولة ويجب تصفيته.
وجاء الإسلام وأنشأ دولته في المدينة وكانت دولة راشدية هي الحكومة الدينية الأولى، التي لم تقتل الناس من أجل دينهم وأفكارهم. ومع ذلك فقد قتل اثنان من الخلفاء الراشدين، أي نصفهم، بسبب الاختلاف على: كيف تكون الحكومة الدينية؟
ثم انفجرت الحروب الصليبية لتعرض علينا مقدار شناعة الحروب الدينية. وأن أتباع الأنبياء كانوا يظنون باستمرار أن الله يأمرهم أن يقاتلوا الآخرين ويفنوهم من الأرض.
فهل أمر الله فعلا بتصفية الكافرين؟ لماذا قال لنا إذن: «لا إكراه في الدين؟».
لا بد من دراسة آيات القتال في القرآن دراسة تاريخية ضمن ظروفها وملابساتها، ولكن العالم الإسلامي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، لأنه عجز عن هذه الرؤية التاريخية. فهو يلغي «لا إكراه في الدين» و«ادخلوا في السلم كافة» و«كفوا أيديكم» و«فاعفوا واصفحوا» و«ادفع بالتي هي أحسن» و«لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم».
والقرآن يقول: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون»، ويقول «وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه». ويقول لمحمد (ص): «وأن احكم بينهم بما أنزل الله». والقرآن يقول: «لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل».
من الواضح أن المآسي علمت الشعوب الأوروبية أن تعيد النظر وتفكر في مصالحها، وما ينفع الناس بعيدا عن المذاهب والنعرات الدينية. وتركت لكل إنسان حريته في الإيمان بما يشاء من الأديان. ولكن المتحمسين من المسلمين يقولون: لكن الحكومة الإسلامية مختلفة عن ذلك، إنها ترفع الظلم عن الناس وتمنحهم الأمن والعدل. والسؤال من هي الحكومة الإسلامية، أهي السلفية أم الخلفية والمدخلية؟ أهي السنية أم الشيعية؟ أهي التي ظهرت في باكستان أم أفغانستان وإيران؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى