شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

الخوارج والدواعش

 

 

 

خالص جلبي

«ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه»، هذه الجملة قالها الإمام علي (رضي الله عنه)، بعد معركة صفين وانشقاق حزب الخوارج. وهو بهذه الجملة حدد فريقين: المخلص من دون وعي. والذكي غير النزيه. وكانت الخلاصة التي انتهى إليها بعد سؤالين عن طبيعة الخوارج؟ أكفارُ همّ؟ كان جوابه: من الكفر فروا. سألوا: أو منافقون همّ؟ أجاب: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا وأولئك يذكرون الله كثيرا.

نحن اليوم لا يخطر في بالنا أن فكر الخوارج تم إحياؤه من جديد؟ وأن أبا حمزة الخارجي ينام مستريحا في قبره. ولا يخطر في بالنا أن مفاهيم الخوارج أخذت حلة جديدة من المعاصرة، يتم تدريسها في الجامع والجامعة.

أهم ما يميز الخوارج (الإخلاص) من دون وعي، وهي خلطة شديدة الانفجار. ولكن إخلاص الأم الجاهلة لا ينفعها في تربية ابنها على نحو سليم، كما أن ارتياع الأب على ابنه لا يشفع له أن يعالجه من دون الطبيب. وفي أكثر من موضع مزج القرآن بين جانبي النجاح في أي (وحدة عمل). بتعبير (القوي الأمين) كما جاء في قصة موسى على لسان الفتاة التي سقى لها النبي: (يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين). ولقد كتب «جودت سعيد» كتابا كاملا عن هذه المشكلة، بعنوان «العمل قدرة وإرادة».

إن أي وحدة عمل ناجحة، سواء كتابة جملة معبرة أو عملية جراحية ناجحة أو زواج موفق، لا يمكن أن ينجح ما لم يمتزج هذان العنصران من الجانب (النفسي) و(الفني). وما ينقص العالم الإسلامي اليوم ليس (الحماس)، بل (الوعي المقدس). وليس من دليل أعظم على الطاقة القصوى للحماس مثل العمليات الانتحارية التي يفجر فيها الشباب أنفسهم.

ويختصر «ابن خلدون» في مقدمته هذين الجانبين في قصة الحرامي والتقي، هل نتعامل مع الحرامي المتقن عمله، أو التقي الصادق الذي لا يأتي بخير أينما توجهه؟ يقول ابن خلدون إن تقوى التقي تعود عليه، أما من يحسن عمله ولو كان غير مؤتمن فيعود علينا، ويجب أن نتعامل معه ونفتح عيوننا على لصوصيته. فهذه قاعدة جوهرية في الحياة علينا اتباعها.

وهذا القانون من (وحدة العمل الناجحة) ينطبق على كل شيء من تصليح السيارة والعملية الجراحية والزواج السعيد. فصديقنا الذي نحبه ولا يعرف ميكانيكا السيارة لن تفيدنا محبته، إذا لم يكن متقنا عمله. ويسري هذا القانون على هندسة السياسة.

والعالم الإسلامي اليوم يعاني من هذا الخلل بين (الحماس) و(الوعي). ويتفرع من القانون الأساسي قانون فرعي يقول إن الحماس يمكن أن يتولد في لحظة، ولكن الجانب الفني يحتاج إلى وقت طويل وتدريب مكثف وحضور ذهن واهتمام وسلامة حواس. وسحرة فرعون انقلبوا إلى مؤمنين في لحظات، ولكن إنتاج جراح مقتدر، أو سياسي محترف يحتاج إلى تدريب 15 سنة.

والخوارج قديما لم ينقصهم الحماس والإيمان، بقدر الفقه والإدراك. وفي يوم تقابل أربعون من الخوارج المتحمسين مع ألفين من المرتزقة من جند بني أمية، في مكان اسمه «آسك»، فغلب الأربعون الألفين بما زاد على نصاب الآية (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين)، فهنا قفز الرقم إلى خمسين ضعفا.

وبعد معركة «صفين» تحديدا انشطر المجتمع الإسلامي إلى ثلاث: من يؤمن بالإرهاب وسيلة للتغيير. ومن يؤمن بنظرية الدم النبوي. وفريق انتهازي أعاد إحياء روح القبلية، وصادر الحياة الراشدية، ووضع يده على المال العام، وصرف المجاهدين إلى بيوتهم، واستبدلهم بجيش بيزنطي مرتزق.

وحسب المفكر «مالك بن نبي»، فإن التاريخ الإسلامي ينقسم، وفق مخطط يمشي بإحداثيات من الزمن والتطور إلى ثلاث مراحل زمنية تتطابق مع ثلاث مراحل نفسية: بين انبعاث الإسلام حتى معركة صفين وهي مرحلة (التألق الروحي)، وبين صفين وابن خلدون، حيث تمثل مرحلة المحافظة على خط السواء بعد الانكسار، مثل الطائرة التي تصعد إلى ذرى الغمام بطاقة صعود، ثم تستهلك المعتدل من الطاقة في مرحلة المتابعة، وهي مرحلة العقل. وبين انطفاء الحضارة الإسلامية ووقتنا الراهن لم يكن أمام مخطط الحضارة الإسلامية، إلا الاستسلام إلى الأرض، بعد أن انتهت الطاقة من خزاناتها الروحية كما تنحدر الطائرة في نهاية رحلتها. وهو حديث (الغريزة) فعندما تتألق الروح تنضبط الغريزة، وعندما تتبخر طاقة الروح تنفلت الغريزة من عقالها. وكما كانت رحلة الروح مفعمة بالطاقة، فإن الهبوط لا يحتاج إلى طاقة.

إن رحلة التشظي (الإرهاب مقابل الفريق الانتهازي ونظرية الدم النبوي) بدأت من عدم فهم الجهاد النبوي، وتغيير المجتمع السلمي.

والفرق بين الجهاد والجريمة شعرة، كما كان الفرق بين الزنى والاغتصاب والزواج أقل من شعرة. فكله يقوم على ممارسة عمل جنسي واحد، ولكن الأول يقوم على السرية والثاني الإكراه والثالث الرضا. والجراح الذي يريد إجراء عملية جراحية في سوق الخضر يتحول إلى جزار.

وخطأ الحركات الإسلامية مضاعف في فهم جذر المشكلة، فهم يرون أن قتل الحاكم سيوجد النظام الديموقراطي. وفي يوم قتل الناس الإمام علي وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وعندما ينسحب الرشد من الأمة لا ينفعها أعدل الناس.

وحركات الإسلام السياسي تنظر بعين حولاء إلى المشاكل وتركز جهودها على التغيير السياسي، كمن يظن أن الشمس تدور حول الأرض. في الوقت الذي لا يزيد الحاكم على قمر يدور حول كوكب الأمة.

لقد بذل الخوارج جهودا فلكية للإطاحة بالنظام الأموي، ولكن الذي حصل أن الحكومة الراشدية لم تعد، وجاءت حكومة عباسية فرشت السجاد على جثث الأمويين المحتضرين واستخرجت رمم الأمويين من القبور فشنقتها.

واستمر تاريخنا على شكل مسلسل بوليسي من قنص السلطة الدموي وتبادله بين أيدي العائلات الحاكمة، كما أن هذا المرض لم يرتفع مع ظهور الحركات الإسلامية الحديثة، بسبب مرض الخوارج.

 

نافذة:

إن أي وحدة عمل ناجحة سواء كتابة جملة معبرة أو عملية جراحية ناجحة أو زواج موفق لا يمكن أن ينجح ما لم يمتزج هذان العنصران من الجانب النفسي والفني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى