شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةملف التاريخ

الدكتور الخطيب أنقذني من موت محقق وهكذا غادرتُ الناظور سالما صوب تطوان

يونس جنوحي

 

المسافة صفر مع «الموت»

لم أكن أتوقع أن تتسبب الملاحظة التي أدليت بها لعباس المساعدي وعبد الله الصنهاجي في تأليب بعض أعضاء جيش التحرير في الناظور ضدي، بل ووصلت حد التخطيط لقتلي.

كتب لي الله النجاة عندما أخبرني «جحا» بما يُحاك ضدي قبل تنفيذه بساعات، إذ من جملة ما أخبرني به أنه سمع إعطاء الأمر بقتلي في اليوم الموالي.

وتأكدتُ لاحقا أنه كان يقول الحقيقة. فقد أكد لي عباس المساعدي، في ما بعدُ، أن الكلام الذي قُلته أمامه بخصوص ضرورة تشبيب بعض قيادات جيش التحرير في المناطق الجبلية التي زُرتها أثناء جولتي، وانتقادي لشيخوخة أغلب قادة المناطق رغم وجود شباب متحمسين خلفهم، كان كافيا لإعطاء الأمر لقتلي.

وربما كان ما رأيته هناك من واقع المقاومين وأعضاء جيش التحرير تسبب أيضا في تزايد الرغبة في إزاحتي نهائيا من المشهد، خصوصا وأن من لهم مصلحة في هذا الأمر يُدركون جيدا أنني بمجرد ما أن أعود إلى تطوان، فإن كل الصور التي التقطتها سوف تكون بين يدي قياديي المقاومة وجيش التحرير.

عباس المساعدي، الذي جمعتني به صداقة متينة منذ مجيئي إلى الدار البيضاء، لم يكن ليسمح بتصفيتي في تلك الغرفة المخصصة للاستراحة، والتي كانت توجد في الطابق الأرضي أسفل مكتب قيادة جيش التحرير في مدينة الناظور، وما أكثر الأسماء التي مرت هناك من أسرة المقاومة وجيش التحرير.

عندما أخبرني «جحا» أنه سمع كلاما مفاده أن الأمر أعطي لكي أقتل في ذلك اليوم، فكرتُ في طريقة للنجاة بحياتي، ومغادرة تلك الغرفة ومدينة الناظور سالما، خصوصا وأنه كان رجلا فاضلا وصارحني بما يُحاك ضدي، بل وقال لي: «قل لي ما أفعل؟».

منحتُه رقم استوديو التصوير في تطوان، ولا زلتُ أذكر الرقم الهاتفي والعنوان إلى اليوم:

المحل رقم 20 شارع الوطية – تلفون: 4506، وطلبتُ منه أن يتصل فورا بالمقاوم سعيد بونعيلات، لأنني تركتُه مقيما في محل التصوير قبل أن أنطلق في هذه الرحلة إلى إقليم الناظور. ويُخبره بما يلي: «اتصل فورا بالدكتور عبد الكريم الخطيب، وقل له أن يستقل الطائرة فورا ويأتي إلى الناظور، لكي يوقف عملية اغتيال المختار. المُختار سوف يُقتل».

لم يكن الدكتور الخطيب في الخارج كما قد يُفهم من هذا الكلام.. بل كان موجودا في تطوان. لكني قصدتُ بفكرة الطائرة أن يكتري طائرة صغيرة في تطوان، إذ كنتُ أعرف بوجودها، ويستقلها فورا إلى الناظور لينزل في مقر القيادة. وكانت تلك الطريقة الوحيدة لكي يحضر إلى الناظور قبل «ساعة الصفر».

وفعلا اتصل «جحا» باستوديو التصوير وقال لسعيد بونعيلات الذي نقل الكلام فورا إلى الدكتور الخطيب:

-«غدا سوف يموت المختار..» وأخبره بما بلغ إلى علمه من تفاصيل، عبر الهاتف.

جاء الدكتور الخطيب، ولم يتأخر. جلس في مكتب عباس المساعدي، ووقف كل من عباس وعبد الله الصنهاجي أمامه، وحكى لي لاحقا ما دار بينه وبينهما. سأل الدكتور الخطيب أولا:

-«هل المختار موجود هنا؟»

-«لا نعلم».

-«هل جحا موجود هنا؟»

-«نعم».

-«قوما باستدعائه إلى هنا، أريد الحديث معه».

ما أن حضر «جحا» إلى المكتب، حتى أعاد الدكتور الخطيب السؤال عن مكان وجودي، فأجابه جحا على الفور:

-«نعم إنه هنا. يستريح في الأسفل».

وهنا قال الدكتور الخطيب، دون أن يثير انتباه أحد إلى علمه بمخطط اغتيالي:

-«حسنا. طلّعوه.. طلّعوه. رافقه لكي يستقل سيارة أجرة فورا، فالقيادة تحتاجه عاجلا جدا في تطوان».

وفعلا ما أن التقيته في ذلك المكتب، حتى استعجلني لكي أغادر فورا إلى تطوان وقال لي إنهم يحتاجونني هناك لأمر عاجل جدا.

وهكذا ساعدني الدكتور الخطيب على مغادرة الناظور، دون أن أصاب بأذى ودون أن تتشنج الأجواء.

قد يظن من يقرأ هذا الكلام أن عباس المساعدي لم ينقذني رغم الصداقة الكبيرة التي كانت بيني وبينه، من أيام اللقاءات في دار المقاوم الكبير، أب المقاومة، إبراهيم الروداني.. لكن الحقيقة أن عباس المساعدي هو الذي أخّر الأمر إلى أن جرى إنقاذي.

إذ أن تعليمات الاغتيال لا يمكن أن تُبرمج لليوم الموالي، وإنما تنفذ على الفور. ولولا عباس المساعدي لقُتلتُ فورا. لكن بحكم الصداقة المتينة التي جمعتني به رحمه الله، فإنه على الأقل أخّر التنفيذ، ولم يكن يملك خيارا آخر. إذ أنه لو عارض الأمر، أو دخل في صراع مع الآخرين هناك، فالأكيد أن الرصاصة التي كانت مخصصة لاغتيالي، سوف تصير رصاصتين، وسوف يُقتل معي بدوره. لذلك تعامل مع الأمر بذكاء.

وبدوري لم أتوقف كثيرا عند تلك الحادثة، واستمر الود بيني وبين عباس المساعدي رحمه الله إلى أن توفي في ذلك الحادث المؤسف الذي أسال الكثير من المداد.

كان السياق كله محموما. كان يجري الإعداد للحرب ضد فرنسا، وجيش التحرير كان على صفيح ساخن. وكانت شرارة سوء تفاهم واحدة كافية لكي تفجر الوضع في بعض نقاط جيش التحرير في الجبال.

أما «جحا» فأخذته أقداره لاحقا إلى بلجيكا، بعد أن عصفت الأقدار بالمقاومين وتفرقت بنا السبل. وعندما عاد إلى المغرب، واستقر في مدينة سلا، التقيتُه. واستعدنا تلك الذكريات بعد أن مرت عليها عقود طويلة، وقلتُ له ممازحا: «أنت من أنقذني من الموت». واعترض قائلا إنه لم يقم بأي شيء سوى بواجبه. وما أكثر الرجال أمثال «جحا»، وعباس المساعدي رحمه الله، داخل أسرة المقاومة. رجال بذلوا أرواحهم من أجل الاستقلال.. بل لا يمكن أبدا حصر عدد المقاومين الذين ضحوا بأموالهم من أجل المقاومة، من شدة إيمانهم بها. عرفتُ رجالا باعوا دوابهم، وتركوا أبناءهم بدون طعام لكي يُطعموا المقاومين ويساهموا في تمويل شراء الأسلحة. وأعرف مقاومين آخرين باعوا نصيبهم من إرث أجدادهم ودفعوا مالهم كله لتمويل المقاومة.

إن المقاومة المغربية، التي انطلقت في إطار تكوين نواة جيش التحرير، تبقى واحدة من أفضل حركات المقاومة في العالم. ورغم أنها لم تجد التمويل الكافي في تلك المرحلة، إلا أنها حققت المعجزات. وحتى على المستوى التنظيمي، كانت الأمور مضبوطة جدا، وكان هناك التزام لدى الأعضاء بمختلف درجاتهم، واستعداد لبذل النفس وتنفيذ التعليمات والتضحية، التي قلما توجد لدى حركات تحررية أخرى، دون مبالغة.

بعد عودتي إلى تطوان، كان لا بد من استثمار الصور الكثيرة التي التقطتُها في الشمال، وشرعتُ في العمل عليها.

 

موقف علال الفاسي

كان لسي علال الفاسي موقف تاريخي لا بد من الإشادة به وتذكير الأجيال به.

ففي سياق أنشطة جيش التحرير، وتوفير السلاح لكل وحداته في المناطق الجبلية -وأتحدث هنا خصوصا عن جيش التحرير بمنطقة الشمال بحكم تجربتي وما عشته- كان المصريون اقترحوا أكثر من مرة أن يدخلوا على الخط، أيام جمال عبد الناصر. لكن لم يُسمح بأن يخرج جيش التحرير المغربي عن سياقه الذي تكوّن من أجله، وهو النضال والمقاومة إلى أن يعود السلطان سيدي محمد بن يوسف من منفاه، ولا تفاوض مع فرنسا بهذا الخصوص.

وبحكم وجود سي علال الفاسي في القاهرة، في تلك الظرفية التاريخية بالذات، أواخر 1954 و1955، فإنه رحمه الله لعب دورا كبيرا في منع هذا التدخل المصري. وقد رأينا كيف تدخل المصريون في جيش التحرير الجزائري، وما آلت إليه الأمور عندهم، حتى بعد استقلال الجزائر. والحمد لله أن تجربة جيش التحرير المغربي لم تعرف تدخلات مماثلة، وبقي محافظا على المسار إلى أن تحقق النصر وعاد السلطان سيدي محمد إلى العرش.

ومن جملة الأحداث التي ظلت عصية على الفهم عند الفرنسيين، ما وقع يوم 2 أكتوبر 1955. فقد كان هذا اليوم المشهود، والصفعة التي تلقتها فرنسا خلاله، تلك القوة التي فتحت الباب أمام تسريع عودة سيدي محمد بن يوسف من المنفى، بعد أن استنفد السياسيون شهورا طويلة من اللقاءات والمحادثات والمشاورات، دون أن يقع أي شيء.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى