الرأيالرئيسية

الزنديق

بقلم: خالص جلبي

 

حين تصارع القذافي مع الإسلاميين في حرب الشوارع أطلق عليهم لقب الزنادقة، وبين الحين والآخر نسمع هذا اللفظ يستعمل كسلاح بين الفرق المتصارعة، بما يحمل من ظلال سلبية مشوهة معتمة؛ زندقة وزنديق. وأنا شخصيا نالني شيء من هذه الألقاب؛ فيممت شطري إلى معاجم اللغة لأعرف المعنى. ولكن قبل هذا ماذا قلت يومها في بركان آيسلندا؟

في منتصف شهر أبريل من عام 2010م ارتعشت الأرض بردا في آيسلندا من شمال الأرض فوق أوربا، جنوب شرق العاصمة ريكيافيك؛ فبصقت الأرض أحمر من اللافا مثل المسلول، واهتزت الأرض من بركان مثل المرتعش من الحمى، نشر سعاله على شكل دخان مبين، وجزيئات من رماد، يدخل محركات الطيارات؛ فيعيقها عن الحركة، وقد يعرضها للسقوط، مما ضرب الملاحة الجوية لمدة أسبوع ويزيد في كل شمال أوربا. وتبارى عندنا الفقهاء في وضع التفاسير لما حدث، وذهب البعض إلى تنزيل سورة الدخان في الواقعة؛ فأرسل لي أخ فاضل من غزة، يقول هل يمكن أن نفهم الآية في ما حدث؟ يقصد الآية «فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، يغشى الناس هذا عذاب أليم، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون. أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين». وهذه الآيات المجندات جاءت في معرض مناقشة الشكوك التي تحوم في عقول مشركي قريش؛ بل هم في شك يلعبون! فكيف يسلمون لرجل واحد من بين أظهرهم بين ليلة وضحاها، يقول لهم لقد اتصلت بينابيع الطاقة والفهم والحكمة والعلم في الكون فهو يوحي إلي.

«حم والكتاب المبين، إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين، فيها يفرق كل أمر حكيم، أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين، رحمة من ربك إنه هو السميع العليم، رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين».

أنا شخصيا أحاول أحيانا وبقدر من التأمل الجدي والقاسي، تصور نفسي في موضع هؤلاء المشركين، يا ترى كما قال عالم الاجتماع العراقي الوردي؛ لو كنت في مشهد تعرض نبي الرحمة (ص) لأهل الطائف القساة، وهم يغرون به السفهاء والصبيان لضربه بالحجارة، يقول يا ترى أين كنت ستكون هل ستكون مدافعا عنه؟ هل ستكون مع الضاربين؟ هل ستتفرج على منظر مثير؟ حقا إنه سؤال قاس مستفز لنا، في وقت انتشر دينه في ربوع المعمورة، ويعتنقه حاليا مليار ونصف المليار من الأنام. أعتقد أننا كنا مع من يشمت به، أما الباحثون عن الحقيقة فهم الندرة ولا أظن أننا منهم. وقد نكون منهم؛ فنكسب الصحبة والأتباع، عليه أفضل الصلاة والسلام. وقصة البراكين والزلازل يجب أن تفهم أيضا من ثلاثة جوانب؛ من ينظر لها أنها تجل لآية الله المبثوثة في الآفاق، وبالتالي يمكن الاستفادة منها من جانب، كما يفكر بعض العلماء في قلب مناخ القطب الشمالي المتجمد بتذويبه بالسلاح النووي، أو اصطياد المذنبات الغريبة التي تحوم حولنا في الكون الغادر فنضربها بصاروخ من يورانيوم. كما يمكن فهمها من جانب ثالث، بموجب فكرة السنة أو القانون، بمعنى التسخير والسيطرة، وهي الفكرة التي جاء بها الفكر التنويري منذ أيام فرنسيس بيكون، الذي دعا إلى الاستفادة من قوانين الكون، وتجنب الأهوال وتسخير الطاقات العاتية، حتى مات هو شخصيا بتجربة تجميد الدجاج، للاستفادة من اللحم المحفوظ، وهي طريقة يتنعم بها أهل الأرض أجمعين فيأكلون اللحوم المجمدة وما فيها من بروتين.

وأرجع إلى كلمة الزنديق ومعناها، وجدت مثلا في كتاب (لسان العرب) لابن منظور الإفريقي، أن الكلمة في أصلها ليست عربية، بل معربة وأصلها فارسي، من كلمة (زَنْدِ كِرَايْ) وهو من يقول بدوام بقاء الدهر، أما الزندقة فتعني الضيق، وفي التهذيب أن الزنديق من لا يؤمن بالآخرة ووحدانية الخالق. أما أحمد بن يحيى فاعتبر أن الكلمة ليست من كلام العرب، وإنما تقول زَنْدَق وزَنْدَقي إذا كان شديد البخل. فإذا أرادت العرب معنى ما تقوله العامة قالوا ملحد ودهري. حسنا إذن الزندقة والزنديق، حسب ما تتناقله العامة، ويطلقه من يريد تلطيخ سمعة أحد فيستخدم كلمة ليست (الملحد)، والأخيرة موجودة في القرآن بمعنى الظلم «ومن يرد فيه بإلحاد بظلم» من سورة الحج، بل كلمة زنديق بما تحمل من ظلال سوداء، أكثر من الإلحاد العقلاني بما تحمل من مسحة تردي أخلاقي لو جاز التعبير (كافر وفاسد أخلاقيا وإباحي)، ولكن لماذا استخدام مثل هذه الألفاظ في الحرب العقائدية؟ والجواب هو انقطاع الحوار والبحث العلمي وضرب من الجنون في عاصفة الصحراء.

هنا يجعلني أنقل ثلاثة نقولات عن إمام وفقيه وفيلسوف من عصور شتى؛ الأول الإمام علي كرم الله وجهه في صراعه مع الخوارج، حين سئل عنهم هل هم منافقون؟ فاعتبرهم ليسوا كذلك لأنهم يذكرون الله كثيرا والمنافقون يذكرون الله قليلا، كما لم يعتبرهم كافرين، كل ما في الأمر أنهم طلاب حق أخطؤوا طريقهم في الوصول إلى الصواب. قال كرم الله وجهه: ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه.

وأما ابن تيمية فاعتبر المجتمع الراشد، حين يسود مبدأ ذهبي بين العلماء فيخطئ بعضهم بعضا في الاجتهادات، أما أهل البدع فيكفر بعضهم بعضا، وأنا أضيف أن أهل السياسة يخوّن بعضهم بعضا. ومن نجح في انقلاب أصبح بطلا قوميا، ومن فشل علقت مشنقته.

ينقل عن الفيلسوف برتراند راسل أن حمارا انحبس في زريبة تأكلها النار، قال حاولنا بكل الوسائل إقناعه بالخروج فلم يستجب فلم يكن بدا من سحبه بالقوة العارية. والبشر أحيانا يتصرفون على هذا النحو فلا يعرفون مصلحتهم.

نافذة:

الزندقة والزنديق، حسب ما تتناقله العامة، ويطلقه من يريد تلطيخ سمعة أحد فيستخدم كلمة ليست (الملحد)، والأخيرة موجودة في القرآن بمعنى الظلم «ومن يرد فيه بإلحاد بظلم» من سورة الحج، بل كلمة زنديق بما تحمل من ظلال سوداء، أكثر من الإلحاد العقلاني بما تحمل من مسحة تردي أخلاقي لو جاز التعبير

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى