شوف تشوف

الرئيسيةالملف السياسيسياسية

السياسة الجنائية ومحاربة الفساد 

هل يوفر قانون المسطرة الجنائية الحصانة للمنتخبين؟

أثار مشروع قانون المسطرة الجنائية الكثير من الجدل، خصوصا المادتين الثالثة والسابعة من مشروع القانون، بسبب المقتضيات الواردة فيهما، والتي تهدف إلى محاصرة وضع الشكايات أمام النيابة العامة من طرف جمعيات حماية المال العام، ضد المسؤولين ورؤساء الجماعات والبرلمانيين، ما اعتبرته هذه الجمعيات بمثابة توفير حصانة للمنتخبين الفاسدين، ويتعارض مع توجهات الدولة في محاربة الفساد والمفسدين، لأن أغلب الشكايات الموضوعة ضد هؤلاء لا تتعلق بجرائم عادية وإنما بجرائم تمس بالمال العام. في المقابل وجه عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، اتهامات لهذه الجمعيات بابتزاز رؤساء الجماعات عن طريق تقديم شكايات كيدية. ويتضمن المشروع مستجدات تهدف بالأساس إلى تقييد إجراءات البحث الجنائي في هذه الشكايات، والتنصيص على عدم قبول أي شكاية ضد أي رئيس جماعة، قبل إحالتها على وزارة الداخلية للتأكد من المعطيات الواردة فيها، وكذلك بالنسبة إلى المسؤولين العموميين، لن يتم قبول أي شكاية أو تحريكها من طرف النيابة العامة، قبل إحالتها على الوزير الوصي على القطاع المعني، للتأكد من صحة المعلومات الواردة فيها.

 

إعداد: محمد اليوبي – النعمان اليعلاوي

 

وهبي يهاجم جمعيات حماية المال العام ويتهمها بابتزاز رؤساء الجماعات

 

صادق مجلس النواب، في جلسة تشريعية، خلال الأسبوع الماضي، بالأغلبية، على مشروع قانون المسطرة الجنائية رقم 03.23 برمته، وذلك بحضور وزير العدل عبد اللطيف وهبي. وحظي مشروع القانون، الذي استغرقت مناقشة تعديلاته زهاء 8 ساعات، بتأييد 130 نائبا برلمانيا ومعارضة 40 نائبا، دون امتناع أي نائب عن التصويت.

 

وأبرز وهبي أن هذا النص التشريعي يواكب المستجدات الدستورية والالتزامات الدولية للمملكة، ويكرس توازنا دقيقا بين حماية الأمن العام وضمان الحقوق والحريات الفردية. وأشار وهبي إلى أنه تم التفاعل إيجابا مع جزء مهم من التعديلات، التي تقدم بها النواب البرلمانيون، خلال مناقشة هذا النص بلجنة العدل والتشريع، والتي بلغت في مجموعها 1384 تعديلا، فيما لم تتم الاستجابة لباقي المقترحات «التي كان جزء كبيرا منها مرتبطا باقتراحات الصياغة أو تعديلات في المضمون تخالف المحددات الأساسية التي بني عليها النص، سواء في ما يرتبط بمرجعيات الإصلاح أو لمبررات تقنية قانونية محضة، أو بالنظر إلى ما قد يتطلبه تنفيذ البعض منها من إمكانيات بشرية ومادية ضخمة».

ومن ضمن التعديلات المرفوضة من طرف الوزير، تلك المتعلقة بالتبليغ عن الفساد وجرائم المال العام من طرف جمعيات المجتمع المدني، والإذن بالتقاضي بالنسبة للجمعيات ذات المنفعة العامة. وبعد نقاش طويل قرر فريقا الحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية سحب تعديلاتهما حول المادتين 3 و7، فيما صوتت اللجنة ضد التعديلات التي تقدمت بها مجموعة العدالة والتنمية، حيث تم حصر حق إقامة الدعوى العمومية في يد النيابة العامة واشتراط حصول الجمعيات على إذن خاص للتقاضي.

وهاجم وهبي جمعيات حماية المال العام أثناء مناقشة المادة 3 التي تنص على أنه «لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أو أي هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك».

وتنص هذه المادة على أنه يمكن للنيابة العامة المختصة إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية تلقائيا في الجرائم المشار إليها سابقا إذا تعلق الأمر بحالة التلبس، تراعى عند ممارسة الدعوى العمومية، مبادئ الحياد وصحة وشرعية الإجراءات المسطرية والحرص على حقوق الأطراف وفق الضوابط المحددة في هذا القانون.

وطبقا لمقتضيات المادة نفسها، يبلغ الوكيل القضائي للمملكة كذلك بكل دعوى عمومية يكون موضوعها الاعتداء على أموال أو ممتلكات عمومية أو أشياء مخصصة للمنفعة العمومية أو الاعتداء على موظفين عموميين أثناء أو بمناسبة ممارستهم لمهامهم، وتبلغ إلى الوكيل القضائي للجماعات الترابية الدعوى العمومية المقامة ضد أحد موظفيها أو عضو من أعضاء مجالسها أو هيئاتها أو إذا كانت الدعوى العمومية تتعلق بالاعتداء على أموال أو ممتلكات تابعة لهذه الجماعات الترابية أو هيئاتها.

وسبق للوزير وهبي التأكيد، في جواب عن سؤال كتابي بمجلس المستشارين، أن موضوع الشكايات الكيدية والوشايات الكاذبة ضد السياسيين ورجال الأعمال هو محط اهتمام وزارة العدل، ولهذه الغاية، يضيف الوزير، فإن مشروعي مراجعة القانون الجنائي والمسطرة الجنائية نصا على عدة مستجدات وتعديلات بهذا الخصوص تهدف بالأساس إلى تقييد إجراءات البحث الجنائي بناء على ضوابط محددة تضمن الاستثمار الأمثل للوشاية والشكاية كمدخل من مداخل البحث والحد من حالاتها الكيدية وكذا التشديد في العقوبات المقررة لها .

وأوضح وزير العدل، بشأن هذه المادة، أن الهدف منها «وضع حد لبعض الممارسات المنافية للقانون التي تقوم بها بعض الجمعيات التي ترفع شكايات في وقت توجد مؤسسات موكول لها ذلك، وكذا وضع حد لتراكم الشكايات لدى النيابة العامة»، وأفاد، في هذا الصدد، بأن عدد الشكايات التي قدمتها جمعيات بشأن تبديد واختلاس أمول عمومية، وصلت خلال سنة 2024 إلى 106 شكاية منها 61 قيد المتابعة، و8 قيد المحاكمة، فيما تم حفظ 31 شكاية و6 أخرى قيد المحاكمة.

وأعلن وهبي، خلال الاجتماع، رفضه لأي تعديل على المادة الثالثة من مشروع القانون، يمنح الحق لهذه الجمعيات في مقاضاة المسؤولين والمنتخبين، وقال «أُقسم بالله أنني لنْ أقبل أي تعديل في المادة الثالثة، وهذا لأن لديّ قناعة مطلقة بخصوصها»، قبل أن يستدرك بالقول إنه قد يصوم ثلاثة أيام، فقط إذا كان التعديل معقولا. وصرح وهبي أنه يفكر في منح رؤساء الجماعات الترابية حقّ الامتياز القضائي لحمايتهم من الابتزاز عن طريق الشكايات الكيدية، وأكد أن الهدف من ذلك إعادة الهيبة والمصداقية للعمل السياسي في ظل تناسل شعارات محاربة الفساد التي تعد أسهل ما يمكن فعله من طرف بعض الجمعيات التي تُمارس الابتزاز في حق المسؤولين ورؤساء الجماعات، من خلال شكايات كيدية ووشايات كاذبة.

وطالب وهبي بإجراء افتحاص وتحقيق لمعرفة مصادر أموال رؤساء بعض الجمعيات التي تدعي محاربة الفساد وحماية المال العام، وقال: «أصبحنا بسبب شعارات محاربة الفساد نرى عجباً ووشايات أصحابها لهم فيلات فارهة وسيارات فاخرة، فمن أين لهم هذا وهم يدّعون محاربة الفساد؟ بل بعض تلك الجمعيات من أكثرهم فساداً».

وفي الوقت الذي أكد فيه بعض النواب مشاطرتهم لما ذهب إليه وزير العدل بشأن المادة 3 من مشروع القانون، أثار نواب آخرون إشكالية تعارضها مع الدستور «الذي يمنح الجمعيات دورا في إعداد السياسات العمومية والعمل على تنفيذها وتقييمها»، كما عبر بعض النواب عن رفضهم لهذا المقتضى الجديد، داعين إلى تخويل الجمعيات حق إقامة الدعوى العمومية مع تقييد هذا الحق بشروط ومتابعتها قضائيا في حالة استغلالها لصفتها من أجل الابتزاز أو ارتكابها أفعال يعاقب عليها القانون.

كذلك أثارت المادة 7 نقاشا واسعا، إذ تنص على أنه يمكن للجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة والحاصلة على إذن بالتقاضي من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل، حسب الضوابط التي يحددها نص تنظيمي، أن تنتصب طرفا مدنيا، وتشبثت المعارضة في تعديلاتها بحذف التنصيص على عبارة «الحاصلة على إذن بالتقاضي»، معتبرة أن مقتضى هذه المادة تضمن تقييدين إضافيين على حق الجمعيات التي كان منصوصا على أهليتها كطرف مدني؛ يتمثل الأول في الحصول على إذن من السلطة المكلفة بالعدل، فيما يهم الثاني الإحالة على نص تنظيمي.

واعتبر نواب المعارضة أن اشتراط الإذن بالتقاضي «يتعارض مع التطور الحقوقي والقانوني الذي تم تحقيقه في المملكة»، كما أن تقييد انتصاب الجمعيات بشرط الإذن الخاص في كل قضية من شأنه، في تقديرهم، أن «يفرغ الدور الذي يفترض فيها القيام به من مضمونه ويهمش أداءها».

 

المجلس الوطني لحقوق الإنسان طالب بإبقاء سلطة النيابة العامة في جرائم المال العام

 

 

قدم المجلس الوطني لحقوق الإنسان مذكرة حقوقية أمام لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، تتضمن أكثر من 100 توصية تتعلق بمشروع القانون رقم 03.23 الخاص بتغيير القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية وتتميمه.

وأكدت رئيسة المجلس، أمينة بوعياش، خلال تقديمها «المبادئ المؤطرة لملاحظات وتوصيات المجلس حول مشروع قانون المسطرة الجنائية»، على استحضار مبدأ دولة الحق والقانون في تعديل مشروع قانون المسطرة الجنائية رقم 03.23. وسجلت بوعياش أن ربط المسطرة الجنائية بمتطلبات مبدأ دولة الحق والقانون يعد تجاوزا للمقاربة الوظيفية للنصوص الإجرائية، بما يجعل من الشرعية الدستورية مرجعا أعلى لكل تدخل تشريعي في مجال الحقوق والحريات.

وأوضحت بوعياش أن هذا المبدأ يترجم مجموعة من الضمانات القانونية والمؤسساتية التي تؤطر تدخل سلطات البحث والتحقيق، وتخضعها لرقابة تكر س احترام الحقوق الأساسية، ومنها التنصيص على إمكانية الاستماع إلى المشتبه فيه دون إخضاعه للحراسة النظرية، مع ضمان حقوق الدفاع، وتقييد هذا الإجراء بشروط قانونية دقيقة وتخويل النيابة العامة صلاحية رفعه حال غياب شروطه، ما يعكس خضوع السلطة التنفيذية لمبدأ المشروعية.

وقدم المجلس تعديلا على المادة الثالثة المثيرة للجدل، والتي تنص على أنه «لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك». ويقترح المجلس الإبقاء على سلطة النيابة العامة في إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية تلقائيا في شأن الجرائم الماسة بالمال العام وإلغاء شرط الإحالة المسبقة من جهات رقابية محددة.

وقدم المجلس مقترحات لتعديل المادة السابقة، تتجلى في إلغاء شرط الإذن المسبق من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل، واعتماد نظام الإخطار بدلا من الترخيص، لضمان استقلالية الجمعيات في التقاضي، وإلغاء شرط الاعتراف بصفة المنفعة العامة كشرط مسبق لتدخل الجمعيات كطرف مدني، واستبداله بمعيار الأهلية القانونية، بحيث يسمح لجميع الجمعيات المؤسسة بصفة قانونية، والتي ينص قانونها الأساسي على الدفاع عن الفئات المتضررة، بالتقاضي دون الحاجة إلى إذن إداري مسبق، كما يقترح المجلس اعتماد معيار التخصص بدلا من الاعتراف الإداري، بحيث يسمح للجمعيات بالتدخل في القضايا التي تتعلق بمجال نشاطها وأهدافها المحددة في أنظمتها الأساسية، دون الحاجة إلى الحصول على صفة المنفعة العامة، ما يضمن مشاركة جمعيات أكثر تخصصا وخبرة في القضايا ذات الصلة، وإلغاء شرط مرور مدة معينة على تأسيس الجمعية كشرط لممارسة حق التقاضي والاكتفاء باستيفاء الشروط القانونية للتأسيس والتجديد.

وأوضح المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في بلاغ له، أن مذكرته الحقوقية تستند إلى منظومة مرجعية متكاملة تشمل الدستور المغربي، والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها المملكة، والمعايير الدولية، ومبادئ «منديز» وتوصيات الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، فضلا عن الممارسات والاجتهادات القضائية الفضلى؛ مضيفا أن هذه التوصيات تهدف إلى تعزيز ضمانات العدالة الجنائية وتكريس مبدأ دولة الحق والقانون.

وأشار البلاغ إلى أن توصيات المجلس وملاحظاته توزعت على 79 توصية خاصة تتناول مقتضيات صريحة محددة في مشروع القانون، و24 توصية عامة تتعلق بقضايا بنيوية واستراتيجية لم يشملها المشروع، لكنها تستدعي المعالجة لضمان التوافق مع المعايير الدستورية والدولية؛ مبرزا أن التوصيات 42 تغطي موضوعا رئيسيا، وتتفرع عن أربعة مبادئ أساسية تتعلق بـ«تكريس مبدأ دولة الحق والقانون»، و«ضمانات المحاكمة العادلة»، و«التكافؤ والتوازن بين أطراف الدعوى» و«الشمولية ومراعاة الفئات الهشة».

وفي ما يتعلق بتكريس مبدأ دولة الحق والقانون، أوضح المجلس أن من بين مقترحاته، في هذا السياق، «التنصيص على إمكانية الاستماع إلى المشتبه فيه دون إخضاعه للحراسة النظرية، وضمان حقوق الدفاع وإقرار حق المشتبه فيه في الإعلام الفوري بمدة الحراسة النظرية وشكليات تنفيذها، وإمكانية الطعن أمام جهة قضائية مستقلة، بما يكرس مبدأ الشفافية والرقابة القضائية المتبادلة».

وفي ما يرتبط بالتكافؤ والتوازن بين أطراف الدعوى، أوصى المجلس، على الخصوص، بإتاحة الاطلاع للدفاع على ملف الشرطة القضائية المحال إلى النيابة العامة، بما يمكنه من إعداد دفاعه بفعالية ومواجهة أدلة الاتهام في ظروف متكافئة، وتمكين الجمعيات المدنية من الولوج إلى القضاء دون قيود إدارية، خاصة إلغاء شرط الإذن المسبق من الجهة الحكومية المكلفة بالعدل، واعتماد نظام الإخطار بدلا من الترخيص، بما يكرس استقلالية الجمعيات في ممارسة حق التقاضي.

 

هيئة محاربة الرشوة ترفض التضييق على المتضررين من جرائم الفساد

 

 

قدم محمد بنعليلو، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة والوقاية منها، أمام لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، مقترحات وتوصيات الهيئة بخصوص مشروع قانون المسطرة الجنائية المعروض للدراسة على أنظار اللجنة البرلمانية.

ودعا بنعليلو إلى إعطاء دينامية خاصة لآليات التبليغ والكشف عن جرائم الفساد ومتابعة مرتكبيها، وتعتبر الهيئة أن الحفاظ على سلطة النيابة العامة في إجراء الأبحاث وتحريك المتابعة في جرائم الفساد أمر جوهري في دينامية محاربة الفساد، وبالتالي ترى أن صيغة التعديل التي وردت بها المادة 3 من حيث كونها تحصر نطاق إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في الجرائم الماسة بالمال العام، في الطلب المقدم من طرف «الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها وإحالة كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك»، يشكل تضييقا على هذا المبتغى، بل وفيه إقرار غير مبرر لتقييد مزدوج لصلاحيات النيابة العامة، لفائدة تقديرات إدارية تستند إلى وجهات نظر تقنية/ تدبيرية أكثر منها جنائية.

وهو ما يشكل، بحسب الهيئة، مسا واضحا بالهدف من توسيع مفهوم المبلِّغ وحمايته، ليشمل بالإضافة إلى الشاهد والضحية والخبير الذين يعتبرون أطرافا في الدعوى العمومية، الشخصَ الذاتي أو المعنوي، سواء كان موظفا عموميا أو مستخدما بالقطاع الخاص أو شخصا عاديا، وسواء كان هيئة مجتمعية أو منظمة غير حكومية أو هيئة مهنية أو شركة، ما دام التبليغ لن يصبح له أي أهمية في ظل القيود المفروضة على النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية.

ونبه بنعليلو إلى أهمية اعتماد منظور موضوعي وواقعي للتقادم منسجم مع خصوصيات جرائم الفساد، وفي هذا الصدد، تعتبر الهيئة أن احتساب مدد تقادم الدعوى العمومية من يوم ارتكاب الجريمة، طبقا لمقتضيات المادة 5 من قانون المسطرة الجنائية، من شأنه أن يؤدي إلى نوع من إفلات مرتكبي هذه الجرائم من المتابعة، خاصة أن الركن المفترض الأساسي في هذه الجرائم هو الموظف العمومي، وأن استمرار هذا الأخير في وظيفته يتيح له، في حال ارتكابه لجريمة فساد، فرص التستر عليها إلى حين مرور مدة التقادم، خاصة عندما يتعلق الأمر بالجنح التي تتقادم في التشريع الحالي بأربع سنوات فقط.

وتوصي الهيئة بالتنصيص على تعليق العمل بالتقادم في جرائم الفساد، أو على الأقل احتساب سريانه بالنسبة إلى هذه الجرائم، ابتداء من تاريخ اكتشافها، أو ابتداء من ترك الوظيفة بأي شكل من الأشكال، باعتبار الاستمرار في الوظيفة يشكل فرصة للتستر على جرائم الفساد وإخفائها.

كما دعت الهيئة إلى الالتفات إلى مجموعة من الإشكاليات التي تطرحها الآجال القانونية المحددة لتقادم العقوبات المطبقة على هذه الجرائم عندما يتعلق الأمر بعقوبة المصادرة، التي ترى الهيئة استثناءها من مقتضيات التقادم العادي، وذلك إما بالتنصيص على تعليق العمل به بالنسبة إلى هذه العقوبة، أو على الأقل بالتنصيص على مدة مساوية للتقادم المنصوص عليه في قانون المسطرة المدنية بالنسبة إلى الأحكام المتعلقة برد وإرجاع الأموال إلى المتضررين المطالبين بها.

ودعت الهيئة إلى الحفاظ على حق جمعيات المجتمع المدني في الانتصاب كطرف مدني واجب معياري بمكانة متميزة في منظومة المكافحة، وتعتبر الهيئة أن التعديلات التي جاءت بها المادة 7 والرامية إلى اشتراط حصول الجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة على إذن بالتقاضي من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل، حسب الضوابط التي يحددها نص تنظيم لانتصابها كطرف مدني، من شأنها أن تحد من إمكانيات انتصابها كطرف مدني أمام القضاء، وأن تمس بمكانة هيئات المجتمع المدني الجادة، سواء من جانب مكانتها الدستورية، أو من جانب المقتضيات القانونية ذات الصلة بالحريات العامة، خاصة وأن الهيئة ترى أن التراجع عن صيغة النص الحالي للمادة 7 لا يستند إلى مبررات قوية داعمة له، وبالتالي ترى الهيئة أن هذا المقتضى سيشكل تضييقا غير مستساغ على حق الجمعيات الجادة في الانتصاب كطرف مدني، ولو لمجرد مظنة اعتبار الإذن المطلوب قد يخضع لتقديرات غير قضائية يتولاها جهاز تنفيذي.

كما دعت الهيئة إلى عدم التضييق على المتضررين من جرائم الفساد، وتعتبر أن التعديل القاضي بإلزام الطرف المدني الذي يقيم الدعوى أمام قاضي التحقيق أو أمام هيئة الحكم بتضمين مذكرته المعلومات المتعلقة بهوية المتهم ووقائع القضية المعروضة والتكييف القانوني لها والأدلة والمستندات المدعمة لها، يصل بحسب صياغة نص المشروع إلى مستوى «أن يضع شرطا تعجيزيا» من شأنه أن يؤدي إلى عرقلة الولوج إلى القضاء، وأكدت الهيئة أن هذا التعديل لا يستند إلى أي دراسة موضوعية تبرر هذا التحول عما أقره القانون والعمل القضائي منذ مدة، وخاصة في سياق جرائم فساد ليس بإمكان المشتكي العلم بحيثياتها وتفاصيلها، لأن من خصائصها أن ترتكب في سرية تامة، أو باتفاق بين أطراف متواطئة، أو بالتحايل على مساطر قانونية، أو بالتداخل مع جرائم أخرى، ويتعدد فاعلوها وتتنوع مراكزهم القانونية وتتفاوت درجة مساهمتهم أو مشاركتهم في الجريمة؛ الأمر الذي يجعل تكليف المتضرر بتحمل عبء التكييف القانوني لوقائعها والإدلاء بالتفصيلات الواردة في المشروع أمرا شبه مستحيل، مما قد يساهم بالتالي في تحجيم إحدى أهم القنوات المتاحة للتحقيق والحكم في جرائم الفساد والكشف عن مرتكبيها، مع العلم أن التكاليف الإجرائية التي جاء بها هذا التعديل تعتبر من صميم مهام البحث والتحري التي يضطلع بها ضباط الشرطة القضائية.

المسطرة الجنائية بين مكافحة فساد البرلمانيين وضمان حمايتهم

 

في ظل تنامي النقاش العمومي حول قضايا الشفافية والنزاهة في العمل البرلماني، تبرز المسطرة الجنائية كآلية قانونية أساسية في محاربة الفساد داخل المؤسسات التمثيلية، بما فيها البرلمان، دون المساس بمبدأ قرينة البراءة أو استهداف الفاعلين السياسيين عن طريق تبليغات كاذبة أو كيدية. فكيف يمكن تحقيق هذا التوازن الدقيق بين ربط المسؤولية بالمحاسبة، وضمان الحصانة القانونية من التعسف القضائي أو التوظيف السياسي للمسطرة الجنائية؟

يشكل البرلمان حجر الزاوية في البناء الديمقراطي، إلا أن تورط بعض أعضائه في قضايا فساد مالي أو استغلال النفوذ يسيء إلى صورة المؤسسة التشريعية ويقوض ثقة المواطن في التمثيلية السياسية. وهنا تتدخل المسطرة الجنائية باعتبارها وسيلة لضمان عدم الإفلات من العقاب، من خلال تفعيل آليات المتابعة القضائية في حال توفر أدلة كافية على ارتكاب أفعال تجرمها القوانين ذات الصلة، كالرشوة، اختلاس المال العام وتضارب المصالح.

وينص القانون الجنائي، إضافة إلى القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب ومجلس المستشارين، على آليات واضحة لمتابعة البرلمانيين في حال ارتكابهم أفعالا جرمية، مع احترام الإجراءات الخاصة بالحصانة البرلمانية وضرورة رفعها وفق ضوابط دستورية.

غير أن المسطرة الجنائية لا تقتصر فقط على ملاحقة المتورطين في قضايا الفساد، بل تُعتبر أيضاً صمام أمان ضد الاتهامات الباطلة التي قد تُستعمل لتصفية حسابات سياسية أو انتخابية. فالقانون يُجرم التبليغ الكاذب، ويمنح القضاء أدوات للتحقق من صحة الادعاءات قبل اتخاذ أي إجراء يقيد حرية البرلماني أو يشوه سمعته.

وفي هذا السياق، يقول فاعلون قانونيون إن «المسطرة الجنائية ينبغي أن تُفعَّل بروح من التوازن، بحيث لا تتحول إلى سيف مسلط فوق رؤوس المنتخبين، ولا إلى غطاء يحصّن الفساد داخل المؤسسات».

هذا، ويشير الفصل 64 من الدستور إلى أن البرلماني لا تمكن متابعته أو توقيفه أو اعتقاله بسبب آراء أو تصويت داخل البرلمان. غير أن الحصانة لا تشمل الأفعال الجنائية، وهو ما يفتح الباب أمام القضاء للقيام بمهامه عند الاقتضاء، شرط احترام مساطر واضحة، تبدأ غالبا بطلب رفع الحصانة داخل البرلمان، وفق معايير النزاهة والإثبات.

في المقابل، يدعو خبراء إلى أن يراعى تحيين المسطرة الجنائية بما يعزز استقلال النيابة العامة، ويمكن من تسريع البت في قضايا الفساد السياسي دون التفريط في حماية كرامة المشتبه فيه وحقه في الدفاع.

إن التحدي اليوم لا يكمن فقط في ردع الفاسدين داخل قبة البرلمان، بل يتجاوز ذلك إلى استعادة ثقة المواطن في المؤسسات، وعلى رأسها السلطة القضائية. فالمعركة الحقيقية ضد الفساد لا تُختزل في محاسبة بعض الأسماء أو إصدار أحكام قضائية، بل في بناء منظومة مؤسساتية متماسكة تمنع استغلال القانون لتصفية الحسابات أو استهداف الخصوم السياسيين تحت غطاء الشرعية.

هذا المسار يتطلب إصلاحًا عميقًا يقوم على تعزيز الشفافية والمساءلة داخل المؤسسة التشريعية، من خلال تفعيل آليات الرقابة البرلمانية وتقوية أدوار اللجان الدائمة، مع ضمان خضوع كل ممثل للأمة للمحاسبة وفق معايير واضحة وعادلة. ويستلزم الأمر، كذلك، تعزيز التعاون المؤسساتي بين البرلمان والجهاز القضائي، في إطار من التوازن واحترام مبدأ فصل السلط، حتى لا تتحول الاستقلالية إلى غطاء للإفلات من المحاسبة أو أداة لإطلاق اتهامات دون سند قانوني.

من جهة أخرى، فإن صيانة هيبة القانون تقتضي تجريم التبليغ الكاذب ومعاقبته بشكل صارم، حماية للأبرياء من الكيد والافتراء، وضمانًا لجدية الشكايات المرتبطة بالفساد. وفي السياق نفسه لا يمكن التغاضي عن دور الصحافة الجادة التي تتحمل مسؤولية أخلاقية ووطنية في تتبع ملفات الفساد، شريطة أن تتسلح بالتحقيق الرصين والمعطيات الدقيقة، لا أن تتحول إلى منبر للاتهامات المجانية أو الابتزاز الإعلامي.

إن الوضع اليوم أمام مفترق طرق حاسم: فإما أن نواصل ترميم ثقة المواطن بمؤسساته، عبر تفعيل آليات الردع والمساءلة في كنف دولة الحق والقانون، أو نغرق أكثر في مناخ من الشك والعدمية، تُختزل فيه السياسة في صراعات وهمية وتُستغل فيه أدوات العدالة خارج سياقها النبيل. وهذه مسؤولية جماعية لا تقف عند حدود الدولة، بل تشمل النخب، والإعلام والمجتمع برمته.

مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية يشعل استياء جمعيات حماية المال العام

 

أثارت مصادقة مجلس النواب على مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، الذي تضمّن في مادتيه 3 و7 قيودًا جديدة على حق الجمعيات المدنية في تقديم الشكايات إلى النيابة العامة في قضايا الفساد المالي ونهب المال العام، موجة استياء عارمة لدى الفاعلين في مجال النزاهة والشفافية، وسط تحذيرات من تبعات هذا التوجه على مسار محاربة الفساد بالمغرب.

وفي خطوة احتجاجية لافتة، تستعد الشبكة المغربية لحماية المال العام، وهي من أبرز الهيئات المدنية الفاعلة في مراقبة المال العام، لمراسلة رئيس الحكومة لإبلاغه بقرار انسحابها من اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، احتجاجًا على ما وصفته بـ«ضرب مباشر لأدوار المجتمع المدني وتراجع خطير عن المكتسبات الديمقراطية».

وأكدت مصادر من داخل الشبكة لـ«الأخبار» أن هذا القرار يأتي في سياق شعور متزايد بـ«الإقصاء الممنهج» للمجتمع المدني من المساهمة الفعالة في تتبع قضايا الفساد، مشددة على أن التعديلات المصادق عليها تُجسّد غياب الإرادة السياسية في تنزيل شعارات المحاسبة، وتعكس توجهًا نحو تحجيم دور الجمعيات الجادة في حماية المال العام.

ويأتي هذا الغضب وسط مؤشرات مقلقة، حسب الفاعلين، أبرزها سحب مشروع قانون الإثراء غير المشروع من مسار التشريع بداية الولاية الحكومية الحالية، رغم كونه مطلبًا مجتمعياً حيوياً، إضافة إلى «الغموض» الذي ما زال يحيط بملف تضارب المصالح الذي طاول رئيس الحكومة في قضية دعم المحروقات، ما يعمق الإحساس بضعف ربط المسؤولية بالمحاسبة.

وفي ظل هذه المعطيات، عبّر حقوقيون وخبراء قانونيون عن تخوفهم من أن تُفضي هذه التراجعات إلى تقويض ثقة المواطن في مؤسسات الدولة، محذرين من خطورة تقليص آليات الرقابة المجتمعية في سياق يتسم بضعف داخلي لآليات المراقبة المؤسسية واستمرار الشعور بالإفلات من العقاب.

ونبّهت فعاليات مدنية إلى أن الصيغة الحالية لمشروع قانون المسطرة الجنائية تتناقض صراحة مع مضامين الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2015- 2025، والتي التزم فيها المغرب بتقوية مشاركة المجتمع المدني في التبليغ عن الفساد ورصد الاختلالات، فضلاً عن مخالفتها لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب قبل سنوات.

ودعت الشبكة المغربية لحماية المال العام، وعدد من الهيئات المدنية الأخرى، إلى وقف ما وصفته بـ«التراجعات المقلقة»، مطالبة البرلمان بعدم تمرير الصيغة الحالية دون فتح نقاش عمومي واسع يضمن التوازن بين فعالية العدالة الجنائية وضمان الدور الحيوي للمجتمع المدني في كشف الفساد والضغط من أجل المحاسبة.

في هذا السياق اعتبر فاعلون قانونيون أن تقييد صلاحيات الجمعيات النشيطة في المجال الحقوقي يفتح المجال أمام الإفلات من العقاب ويُفرغ العمل الجمعوي من محتواه، في تناقض صارخ مع روح الفصل 12 من الدستور المغربي، الذي ينص على ضرورة إشراك جمعيات المجتمع المدني في إعداد وتتبع وتقييم السياسات العمومية. ونبه الفاعلون القانونيون أنفسهم إلى أن مشروع القانون بنسخته الحالية قد يشكل نكسة تشريعية، إذا لم تتم مراجعته بما يضمن التوازن بين دور النيابة العامة ودور المجتمع المدني كطرف يقظ في حماية المال العام.

ثلاثة أسئلة لعبد الحفيظ أدمينو* :

«القانون الجنائي أطر محاربة الفساد والتشريع لا يكفي لمحاصرة الظاهرة»

 

  • كيف أطر القانون بما فيه القانون الجنائي مسألة فساد المنتخبين؟

لقد أدرك المشرع خطورة ظاهرة فساد المنتخبين مبكرا، فسعى إلى إحاطتها بمجموعة من النصوص القانونية والمؤسسات الدستورية، في محاولة لضبط سلوك الفاعلين العموميين، وإخضاعهم لمنظومة من المساءلة والشفافية.

فعلى المستوى الدستوري، نص دستور 2011 بشكل واضح على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وكرس الحق في الولوج إلى المعلومات، كما شدد على الشفافية في تدبير الشأن العام. كما منح البرلمان، بغرفتيه، اختصاصات رقابية واسعة، تمكنه من مساءلة الحكومة وتتبع تنفيذ السياسات العمومية، وهو ما يُفترض أن يخلق نوعا من التوازن بين السلطات ويحد من الانحراف في استخدام النفوذ.

أما على المستوى التشريعي، فقد تضمن القانون الجنائي المغربي (في فصوله من 224 إلى 248) مجموعة من الجرائم المرتبطة بالفساد، أبرزها: الرشوة، استغلال النفوذ، اختلاس وتبديد المال العام، التزوير في الوثائق الرسمية، وتضارب المصالح. وتشدد العقوبات عندما يتعلق الأمر بموظف عمومي أو منتخب، نظرا إلى مكانته المفترضة في خدمة الصالح العام.

كما أقر قانون التصريح بالممتلكات (المرسوم رقم 2.08.562 الصادر سنة 2008) إلزامية التصريح بالممتلكات بالنسبة إلى عدد من المسؤولين، بمن فيهم البرلمانيون، رؤساء الجماعات، وبعض كبار موظفي الدولة، في خطوة تهدف إلى تتبع الثراء غير المشروع. ومع ذلك، فإن ضعف نشر هذه التصريحات وعدم ربطها بإجراءات تدقيق صارمة، يفرغان هذا المقتضى من فعاليته في كثير من الحالات.

وفي سياق مأسسة النزاهة، تم إحداث الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، كآلية مستقلة تُعنى بتلقي الشكايات المتعلقة بالفساد، والتحقيق فيها، وتقديم التوصيات بخصوص إصلاح منظومة الحكامة العمومية. كما خُصّص النيابة العامة بجهاز خاص يُعنى بمحاربة جرائم الأموال، وجرى إحداث محاكم مالية (مجلس الحسابات الجهوي والمركزي)، تتولى تدقيق الحسابات العمومية ومراقبة تدبير المال العام.

ورغم كل هذا الترسانة القانونية، تبقى المعضلة الحقيقية في ضعف تفعيل النصوص، وغياب الإرادة السياسية الكاملة لمحاصرة الفساد في أعلى مستوياته. فالمحاسبة غالبا ما تظل انتقائية، تطول بعض المسؤولين دون غيرهم، وتُخضع الملفات الحساسة لحسابات سياسية، أو توازنات ظرفية. كما أن مساطر التقاضي معقدة وبطيئة، ما يفرز شعورا عاما بالإفلات من العقاب، ويؤثر سلبا على ثقة المواطن في المؤسسات.

من جهة أخرى، لا يمكن الحديث عن محاربة الفساد في صفوف المنتخبين دون الحديث عن إصلاح قانون الأحزاب والانتخابات، لما له من دور في فرز نخب حقيقية بدل «أعيان المال والولاءات». كما أن إعادة النظر في آليات تمويل الحملات الانتخابية وضبطها قانونيا، يُعد أحد المدخلات الأساسية للحد من الفساد السياسي قبل أن يبدأ.

 

  • ماذا بخصوص الحصانة البرلمانية للنواب والمستشارين؟

يجب التأكيد على أن الحصانة البرلمانية منحها المشرع للبرلمانيين في إطار حقهم في التعبير، وهو ما يصطلح عليه بالحصانة الموضوعية، التي تكفل للبرلماني حرية التعبير داخل قبة البرلمان، وتحميه من المتابعة بسبب آرائه أو تصويته، أثناء مزاولة مهامه، كما ينص على ذلك الفصل 64 من الدستور.

وتهدف هذه الآليات إلى تحصين البرلماني من كل أشكال الضغط أو التهديد، سواء كانت سياسية أو إدارية أو حتى قضائية، قد تُستخدم كأدوات لترهيبه أو إخضاعه. لكن، في المقابل، لا يُمكن اعتبار الحصانة درعا يحول دون المحاسبة القانونية في حالة ارتكابه أفعالا يُجرمها القانون، كالرشوة، اختلاس المال العام، أو تضارب المصالح.

ولهذا، ينص النظام الداخلي للمجلسين التشريعيين على إمكانية رفع الحصانة، بناء على طلب من القضاء، يُعرض على لجنة برلمانية مختصة للنظر فيه بكل تجرد وموضوعية. وهنا، تبرز إشكالية جوهرية تتعلق بسرعة البت في طلبات رفع الحصانة، وضرورة تفادي التأخير غير المبرر الذي قد يُفهم أحيانا كحماية سياسية للمتهم.

وفي سياق متصل، تكتسي الحصانة أهمية خاصة أيضا في مواجهة التبليغات الكيدية، التي قد تُستغل في تصفية الحسابات، أو تشويه السمعة. ولهذا، يُشترط توفر أدلة أولية كافية قبل تحريك أي مسطرة قضائية ضد برلماني، كما يجرم القانون الجنائي المغربي التبليغ الكاذب (الفصل 445)، وهو ما يُعتبر ضمانة قانونية إضافية ضد إساءة استخدام القضاء في الصراعات السياسية.

ورغم هذه الضمانات، ما زالت بعض الممارسات تُثير القلق لدى الرأي العام، حيث تُوظف الحصانة أحيانا كذريعة للإفلات من المتابعة، خصوصا في ملفات فساد، أو استغلال النفوذ التي تمس صورة المؤسسة التشريعية. وقد دعت فعاليات حقوقية وسياسية مرارا إلى مراجعة شاملة لمنظومة الحصانة، تضمن ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتُسرّع إجراءات رفع الحصانة كلما تعلق الأمر بجرائم خطيرة، مع الحفاظ على مبدأ استقلالية القضاء.

ويبقى التحدي الحقيقي ليس في وجود الحصانة في حد ذاتها، بل في كيفية تدبيرها وتنزيلها على أرض الواقع، بما يحقق التوازن الضروري بين حماية الوظيفة التمثيلية، ومكافحة الاستغلال السياسي أو القانوني لهذا الامتياز الدستوري. فالحصانة البرلمانية يجب أن تبقى في جوهرها وسيلة لحماية الديمقراطية، لا ثغرة قانونية تُستغل للإفلات من العدالة، أو لتكريس ثقافة اللاعقاب.

 

  • ماذا بخصوص حماية المنتخبين في مقابل تخليق الحياة السياسية؟

إن تخليق الحياة السياسية يبدأ أولا من داخل الأحزاب نفسها، فبدل التذرع بضعف صلاحيات اختيار المرشحين، أو ضغوط اللوبيات المحلية، يتعين على القيادات الحزبية أن تفتح أوراشا حقيقية للغربلة الداخلية، تقوم على معايير الكفاءة والنزاهة والمسار الأخلاقي، بدل فقط الشعبية أو القدرة على تعبئة الأصوات.

كما أن تفعيل آليات الرقابة والمحاسبة داخل الأجهزة الحزبية، وخلق مساطر واضحة، من شأنه أن يعيد التوازن ويجدد النخب من داخل المؤسسات الحزبية نفسها.

بالتوازي، على الدولة أن تلعب دورها كاملا في حماية الديمقراطية من عبث الفساد، من خلال تفعيل التقارير الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، وربط المسؤولية بالمحاسبة بشكل فعال، دون تمييز أو انتقائية، دون إغفال دور القضاء في حسم الملفات المرتبطة بسوء التدبير، حتى لا تظل القضايا عالقة لسنوات، وهو ما يستغله بعض المنتخبين لتقديم أنفسهم كـ«ضحايا تصفية سياسية» خلال الحملات الانتخابية.

فالتحدي لم يعد فقط تقنيا أو تنظيميا، بل هو تحد أخلاقي في جوهره، ولا يمكن كسبه إلا عبر تطهير المشهد الحزبي من كل من أساء للعمل السياسي، وإعادة الاعتبار للسياسة كأداة للتغيير، وليس وسيلة للاغتناء أو تصفية الحسابات.

 

*أستاذ القانون العام بكلية الحقوق السويسي

 

   

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى