
إعداد وتقديم: سعيد الباز
تمتلك الحوارات الأدبية دورا أساسيا في الكشف عن الخلفيات غير المنظورة في الإبداع الأدبي. ذلك أنّها تمنح القارئ عموما والباحث خصوصا الفرصة للاطّلاع على السياقات والارتباطات الخفية المحتملة والمواكبة للعملية الإبداعية وأسرار تشكّلها ودوافعها الرئيسية. هذه الحوارات، رغم كونها تصطبغ بطابع العفوية والمباشرة، تلقي مزيدا من الأضواء على المؤلفات الأدبية وتملأ فجوات كثيرة بين النصوص وحديث وحوارات مؤلفيها وكُتابها، في اقتران موازٍ أشبه بالرباط الوثيق بين الصوت والصدى.
غابرييل غارسيا ماركيز.. رائحة الجوافة
(مندوزا وماركيز)
أجرى بيلينيو أبوليو مِندوزا، الصحافي والروائي الكولومبي والصديق المقرّب من غابرييل غارسيا ماركيز، حوارات مهمّة تناولت الكثير من تفاصيل حياته وارتباطاتها بإبداعاته الأدبية، ضمّها في كتابه «رائحة الجوافة»:
–كيف ترى علاقتك بأمّك؟
أهمّ سمة مميّزة في علاقتي بأمّي، منذ أن كنتُ صغيرا، هي الجدّية، ومن المرجّح أنّها كانت أكثر العلاقات التي أقمتها جدّية على الإطلاق. أعتقد أنّنا لم نترك شيئا لم نتبادل مناقشته في ما بيننا، ولم نترك موضوعا لم نتحدث فيه، إلّا أنّ كلانا كان يعامل الآخر بطريقة رسمية تخلو من أيّ ألفة أو مودة… كانت تعيش حياة صارمة خشنة وأحيانا في فقر مدقع ولم نعش تحت سقف واحد لفترة طويلة… ذلك الوضع خلق نوعا من التحفظ الذي جعلنا على راحتنا في معظم الأحيان عندما نكون جادين…
-هل صحيح أنّها تعثر بسهولة على مفتاح لرواياتك؟
نعم، إنّها تتمتع، من بين كلّ قرائي، بأفضل غريزة، كما لديها، بطبيعة الحال، معظم المعلومات التي تُتيح لها معرفة الأشخاص الحقيقيين وراء الشخصيات التي أرسمها في كتبي. هذا ليس بالمسألة اليسيرة، لأنّ كلّ شخصياتي تقريبا ألغاز معقّدة لأناس مختلفين ولأجزاء من شخصيتي بالطبع. موهبة أمّي في هذا المجال تماثل موهبة عالم آثار… فهي عندما تقرأ كتبي تقوم بقدرة فائقة بتنحية كلّ الأشياء الإضافية جانبا، وتحديد الفقاريات الأساسية التي تمثل الجوهر الذي بُنيت حوله الشخصية.
-لا تتحدثُ مطلقا عن والدك. ما ذكرياتُك عنه؟ وكيف تراه الآن؟
كان أبي رجلا نحيلا، أسمر البشرة، خفيف الظل وودودا يرتدي حلّة بيضاء ويعتمر قبعة من القش. كان يبدو مثالا للرجل الكاريبي الأصيل في الثلاثينات… منذ فترة ليست بطويلة، قال لصديق إنّه يعتقد أنني واحدة من تلك الدجاجات التي خرجت إلى الحياة بدون أية مساعدة… قال ذلك بروح الدعابة التي يتّسم بها كنوع من التوبيخ المخفّف، لأنني دائما أتحدث عن علاقتي بأمي، ونادرا ما أتحدث عنه. إنّه على صواب. لكن السبب الحقيقي… هو أنني بالكاد أعرفه، أو لا أعرفه بالقدر الذي أعرف به أمي. لقد وصلنا الآن فقط، بعد أن أصبحنا في العمر ذاته تقريبا… إلى نقطة من التفاهم الهادئ…
من ناحية أخرى، أشعر بأنني مدين له بالكثير من موهبتي في الأدب. ففي سنوات شبابه اعتاد على نظم الشعر… وعندما عمل موظفا في مكتب البرق في أراكاتاكا، كان يعزف على الكمان بمهارة. كان دائما يحبّ الأدب، كما يعتبر قارئا نهما… أبي يقرأ أيّ شيء يقع تحت يديه، أفضل الأعمال الأدبية، الصحف والمجلات، لم أعرف أيّ شخص آخر أصابته جرثومة الأدب.
-ما الصورة البصرية التي استخدمتها مُنْطلقا في «مائة عام من العزلة»؟
رجل عجوز يصطحب طفلا ليُريه الجليد الذي كان يُعرض كطُرْفة من طرائف السيرك.
-هل كان ذلك الرجل جدّك، الكولونيل ماركيز؟
أجل.
ـ هل حدث ذلك الشيء في الواقع؟
ليس تماما، لكنّ شيئا واقعيا هو الذي ألهمني ذلك. أتذكّر، حينما كنتُ صبيا صغيرا في أراكاتاكا، أخذني جدّي للسيرك لرؤية الجمل العربي وحيد السنام، وفي يوم آخر قلتُ له إنني لم أر الجليد رأي العيان، فأخذني إلى مستعمرة شركة الموز وطلب منهم أن يفتحوا صندوقا من سمك البوري المجمّد وجعلني أضع يدي في الصندوق. من هذه الصورة بدأت كتابة «مائة عام من العزلة».
سليم بركات.. نحنُ بشرُ المُعْضِلات
كتاب «سليم بركات: لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة» عبارة عن حوار طويل أجراه الشاعر والروائي العراقي وليد هرمز، أفصح فيه الشاعر والروائي سليم بركات عن تجاربه في الكتابة والحياة وعن مهاجره عبر بلدان متعددة والتي انتهت به إلى الشمال السويدي حيث يعيش في عزلته الإسكندنافية.
-ولدت وترعرعت في الشمال السوري «مدينة القامشلي»، وكتبت كثيرا عن الشمال السوري المضيّع، هل خطر على بالك يوما أنّ مستقرك النهائي في هذا العالم سيكون في آخر شمالات العالم، الشمال الإسكندنافي؟ هل شعرت بأنّك أنصفت الشمال الأوّل –شمال الألم- أم استعدته بنجوى اليأس، مقايضة بإقامتك الأخيرة في الشمال السويدي الفاحش؟
إن أغمضتُ عينيّ أو فتحتُهما، يكن الشمال-الجهة صورتين: السهول من حولي مدينتي قامشلو في الشمال السوري، والبياض المترامي في شمال العالم بآثارٍ من قدميْ إنسان الجليد عليه. ظننت أنني «أروّض» الشمال استحواذا عليه في مكان واحد حيث ولدتُ. خصّصته بالكثير من العودة إليه بشبحي: شمال فوضى أرتّبه. شمال منتظم أبعثره. لا قانون إلّا الخيال حاصدا ما يقدر على حصاده. لكنني فوجئت بما يجاوز تقديري: أنا متّجه إلى الشمال كإبرة البوصلة في الفخر الفيزيائي بالجاذبية. قبرص الجزيرة لم تكن شمالا على التحديد، بل خابية ملأتها بنبيذ من شمال قلبي السوريّ، قبل الهجرة من جزيرة النحاس، منذ إحدى وعشرين سنة، إلى شمال آخر على قرب أشبار من نهاية الأرض، التي ظللت عينيّ بيديّ من الشمس المتقشّفة ضياء، أو الركيكة ضياء، لاستطعت رؤية الدّببة البيض متزلجة تلهو على الجليد، بعد شبع من التهامها فراخ حيوان الفقمة. الإيمان بالأمكنة معضلة. الحنين معضلة. نحن بشر المعضلات.
-كتبتَ سيرة حياتك، سيرة الصِّبا، وأنت في العشرينات من عمرك، تحت عنوان «الجندب الحديدي» و«هاته عالياً، هات النَّفير على آخره». ألا تعتقد أن هذه السيرة ما زالت ناقصة؟ لقد مضى عليها أكثر من أربعين عاماً. ألا تُفكر في استكمال هذا النقص؟
كلّ سيرة سيرةٌ ناقصة. تفوتُنا أشياء، أو نُقصي أشياء «لا تُكتب»: الرغبة في ذبحِ أحدٍ، أو إحراقِ مدينة، أو محوِ دولةٍ عن بِكْرة أرضها وسمائها، لا تُكْتب. من الفكاهات، مثلاً، حين صدرت «السيرتان» بالسويدية (نال الكتاب جائزة أفضل مُؤلَّفٍ أجنبي تُرجم إلى اللغة السويدية)، توالَت عليَّ اتصالات هاتفية من بَشَر «الرفق بالحيوان»، مندِّدة بالسلوك «الهمجي»، لِمَا في الكتاب من «إهانة» للكلاب وللقطط، ومن تعنيفٍ أيضاً حتى القتل تعذيباً. حاولتُ، من دون جدوى، الشرحَ للمتصلين أننا لم نكن نملك برَّاداتٍ، ومُجلِّداتٍ لحفظ الأطعمة. عندنا دجاج سارح، وأرانب أحياناً، وخُمم ظاهرةُ البيوض فوق قشِّها. أهلنا يحفظون الأطعمة على أرض ساحة البيت، في ليالي الصيف، مغطاة بسلالٍ مقلوبة، مثلاً. الكلاب الوقحة الشاردة، ومثلها القطط اللصوص المحشوة الأوبار بالبراغيث، تتصيد كلَّ شيء: فراخَ الدجاج، والأطعمة والأرانب. وقد تختطف طفلاً لو قَدَرت.
شرحتُ، على ضربٍ من التظارف، أن الكلاب الشاردة، العقور، المكلوبة، ومثلها القطط، ليست متعلِّمة ككلابهم، لم تدخل معاهدَ ككلابهم، لا أطباء لها لا أطباء للبشر عندنا أحياناً. لا أطعمة معلَّبة لكلابنا كالأطعمة لكلابهم، وطعام كلابهم أفضل، أحياناً، من أطعمة البشر عندنا. بل لا يملك بعضُ البشر في جهات أقاليمنا المشؤومة، الملعونة، أطعمةً تكفيهم.
إنّها شروح قد تبدو غامضة لمرَفِّهِيْ الحيوان في سُوَيْدِ«نا»، خذوا هذا المثل من أقوال المغني الأمريكي بوب ديلان (حاز نوبلَ للأدب على أشعار أغانيه الأقل قيمةً من أشعار بعض الشعراء المتواضعين في عالمنا). يقول (ببعض التصرف): «بيتٌ لا كلبَ فيه ليس بيتاً». ألم يفطن هذا «العبقري» إلى وجود بشَر في عالمه لا طعامَ في بيوتهم ليأكلوا، فكيف يطعمون الكلاب، يا ابن الجرادة؟
لا بأس. أعود، بعد الاستطراد، إلى السيرة. أنت فاتحتني برغبتك أن ترى ذات يوم، جزءاً جديداً من سيرتي. لا أستطيع حتى لو رغبتُ. هناك الكثير مما سأثيره، والكثير من قَلْبِ الأشياء على رؤوس الأشياء، والكثير من الطحنِ إن صَدَقتُ في التدوين، والكثير من الإحراج، وبعض الحرائق العنيفة، وبعض العواصف الرملية، والثلجية. لا أستطيع.
بول أوستر.. صحبة لصوص النّار
(أوستر وجمانة حداد)
تروي الكاتبة والشاعرة اللبنانية، في كتابها «صحبة لصوص النّار»، لقاءها بالكاتب بول أوستر قائلة: «دعاني الكاتب إلى منزله الفسيح في ضاحية بروكلين الناعسة، وكان بيننا خبز وملح ودخان وكلمات، وكثير من التواطؤ الفطري. عرّفني أوستر السّاحر الابتسامة إلى زوجته الجميلة، الروائية بدورها، ثم دعاني إلى الغداء في مطعم شعبي قريب. كان يرتدي جينزا أسود اللون وحذاء رياضيا، وقد تدفق الحديث بيننا براحة واسترخاء على الفور، من دون مقدمات، كأننا نعرف واحدنا الآخر منذ زمن… رجل كثير الودّ كثير الدفء كثير المرح كثير الموهبة كثير الخفر…». هذا اللقاء صحبه حوار يكشف فيه بول أوستر جوانب خفية من حياته وعلاقته بكتاباته:
-أنت موجود رغم ذلك في بعض أعمالك… فضلا عن أنّك كتبتَ جوانب من سيرتك الذاتية في «اختراع العزلة» و«أيام التقتير»…
صحيح، ولكن رغم تناولي جوانب من حياتي في هذين الكتابين، لا أعتبرهما من نوع السيرة الذاتية. فـ«اختراع العزلة» هو ما قد أسمّيه تأمّلا في بعض مسائل الحياة المهمة على غرار الآباء والأبناء والحياة والموت. إنّه قصّة من قصص حياتي، وأنا داخله كجزء من السرد. أمّا «أيّام التقتير» فأنا موجود فيه أيضا لكنّه محض جزءٍ منّي: إنّه على الأصح دراسة وتأمّل في مسألة المال، أو بالأحرى في مسألة الافتقار إلى المال. لقد ظللتُ أهجسُ بهذا الموضوع أعواما طويلة، وكانت فكرتي الأساسية أن أكتبُ نصّا مجرّدا وفلسفيا عن المال، لكن الموضوع أصبح شخصيا وذاتيا للغاية. فنقلتُ في الكتاب جانبا من حياتي، الجانب الذي كافحتُ فيه لأعيش وأكسبُ ما يكفي من المال لكي أكرّس نفسي للكتابة، خصوصا أثناء مرحلة إقامتي مدّة سنتين ونصف سنة في مدينة باريس، وهي مرحلة كانت رغم صعوبتها رائعة لأنّها أغنتني وأتاحت لي تحقيق ما كنتُ في حاجة إليه آنذاك، ألا وهو الابتعاد عن بلدي وإقامة مسافة بيني وبينه والتنفّس بعيدا عنه لكي أكتشف هل في وسعي الكتابة حقا. أعرف أنّ الحديث عن المال هو بمثابة «تابو»، لكنّ العيش من دون مال هو إحدى أسوأ اللعنات التي قد تُصيب الإنسان في هذا العالم المادي والرأسمالي والمعولم الذي نعيشُ فيه، وذلك حفّزني على كتابة «أيام التقتير».
-لا بدّ أنّ الإنفاق من مال الكتابة شعور رائع ومكافئ جدا، ففي عالمنا، مثلا، مفهوم تحصيل لقمة العيش من الأدب غير شائع وشبه غائب تماما، ما خلا بعض الاستثناءات، ونشعر دوما بأنّـنا مضطرون إلى سرقة الوقت لنكتب. أمّا الآن، وقد بتَّ تملك المال، علام يحلو لك إنفاقه؟
يجب أن أعترف لك بشعوري بأني محظوظ، محظوظ للغاية، لأنّي قادر على إعالة عائلتي من الكتابة. لم أعتقد يوما أنّ ذلك قد يكون ممكنا، ولم تكن الفكرة تخطر لي، حتّى في أكثر أحلامي جنونا وفلتانا. بالطبع لم أبدأ في كسب المال إلّا عندما أصبحتُ في الأربعين تقريبا، وخضتُ معركة طويلة من الكفاح ومن الحرمان في حياتي. ما أملكه اليوم ليس هائلا، لكنّه بلا ريب يجعل حياتنا مريحة، وأجمل وألذ ما في الأمر هو أنني بتُّ أملك ترف عدم القلق في شأن المال بعد اليوم. أمّا على صعيد شراء الأمور، فأنا لست إنسانا استهلاكيا على الإطلاق. أكاد لا أشتري شيئا ويصعب عليّ دخول المتاجر. لا أنفقُ المال، إلّا إذا استثنينا الكتب والألبومات الموسيقية، ودفع الفواتير المترتبة عليّ. في ما يتعلق بثيابي مثلا، زوجتي هي التي تشتريها لي دائما. تخرج وتعود وتقــول لي: إلــيك هذا القمـيص أو هذا البــنطلون، فأشكرها وألبسهما، هكذا بكلّ بساطة. لكني مطمئن وأشعر حقا بأنّي محظوظ، وأنا ممتن للحياة ولقرائي على هذه المعجزة.
عبد الكبير الخطيبي: المغرب يستثيرُ اهتمامي في الكتابة
أجرى الكاتب والروائي التونسي حسونة المصباحي حوارا مع عبد الكبير الخطيبي. حوار أتى بمحض الصدفة في أحد المقاهي الباريسية حيث سأله عن سبب حبّه العيش والعمل في المغرب، رغم حظوته بالشهرة الكبيرة في فرنسا، وشهادة كبار مفكريها ونقادها بكونه أفضل من يكتب بلغتها، وبإمكانه أن يكون أستاذا في أيّ جامعة مرموقة.
فكان ردّ الخطيبي: «وهل سأكون مفيدا هنا؟ فرنسا عندها كتّابها ومفكروها وشعراؤها… وإذن أيّ دور سيكون لي فيها؟ وأنت تعلم أنّي كتبت أكثر من مرة عما أسمّيه بـ«التحرر الثقافي والفكري» إذ لا يكفي أن يتخلّص المغرب أو أيّ بلد آخر من الاستعمار، بل عليه أن يتخلص أيضا من التبعية الثقافية والفكرية لتكون له هويته الخاصة به، ولكي يتمكّن من الخروج من ظلمات الجهل والتخلف والانغلاق… وهذا التحرر الذي أطمح إليه، لا بد أن يتمّ على يد أبناء بلدي. لذا يتحتم عليّ أن أكون مُشاركا وفاعلا فيه… وأنا عدتُ إلى المغرب. ومنذ البداية ساهمت بقوة وبحماس في الحركة الثقافية هناك… وهنا أشدّد على كلمة «ثقافية» لكي أؤكد على أنني حرصت على أن تكون أعمالي ونشاطاتي بعيدة عن الصخب السياسي والإيديولوجي. غير أن ذلك لم يمنعني من أن أكون أحد المؤسسين لنقابة التعليم العالي. وفي تلك المرحلة كنتُ أبحث عن نفسي. لذا كانت كلّ جوانب الحياة في المغرب تستثيرُ اهتمامي في البحث، وفي الكتابة».
وعن طريقته في التفكير أجاب الخطيبي بأنه يبدأ أولا بـ«مراجعة» جملة من العلاقات. أولاها العلاقة مع الجسد لكي لا يكون في النهاية مجرد مصدر للخطيئة وللشر، بل قوة خلاقة ومنبعا ومَصبّا للرغبات. وأما العلاقة الثانية فهي مع المقدّس حتى ننزع عنه كلّ ما يفصله عن الأرض لينعكس بذلك في المعمار، وفي الفنون، وفي التعابير الصوفية حيث اللامرئي يتوالد في المرئي. وفي النهاية، هناك العلاقة مع اللغة لكي تتخلص من انغلاقها على نفسها، ولكي تنفتح على اللغات الأخرى، ومعها تتحاور، وتتجاوب لكي يكون الاختلاف هو المثْري والمغذي له».
أدونيس.. ضدّ الأبوّة مع الأب
قدّم الشاعر والكاتب اللبناني عبده وازن حواره الشهير مع الشاعر أدونيس بقوله: «هذا الشاعر الذي يختصر عصراً بكامله، بأسئلته الشائكة وشواغله وأزماته وتحوّلاته، هو ظاهرة نادراً ما شهدت الثقافة العربية والأدب العربي ما يماثلها». هذا الحوار كشف الكثير عن تجربة الشاعر أدونيس في جوانب متعددة على المستوى الفكري والأدبي، إضافة إلى إلقائها الضوء على ارتباطهما الوثيق بحياته الشخصية ونشأته العائلية وانتمائه العائلي والاجتماعي، والظروف والسياقات المؤثرة في حياته الخاصة التي انعكست على مواقفه الأدبية والفكرية.
–كيف تتذكر والدك؟
كان تأثيرُه يفعل بصمت، ودون وعيٍ منّي. وعي حقيقي. هكذا لم أكتشف هذا التأثير إلا بعد موته. مات في الستينات من عمره، بشكل مفاجئ في حادث سيارة احتراقًا مع جميع ركّابها. هذا الموت أنشأ بيننا علاقة جديدة، قوامُها الذكرى. صرتُ أستعيد حياتي في ظله، قبل موته، في البيت، في القرية، في الحياة العامة. صرت أتذكرُ هذا كلّه، وأشعر في ما أتذكر بأنّه لم يكن أبًا بقدر ما كان صديقًا. ومن جديد أخذتُ أتعرف إليه، بوساطة التذكُّر، سيما كيف كان يعاملني وأنا طفل.
–إلى أي طبقة كان ينتمي والدك؟
الطبقة ما دون الوسطى، إن صح أن نستخدم هنا كلمة «طبقة». يمكن أن تنطبق عليه كلمة «فلاح» أو «مزارع»، مع أنه كان لدينا عامل يُسمى في القرية «مرابع» يأخذ ربع ما يجنيه من الأرض التي يحرثها ويزرعها ويحصدها، أو من الأشجار المثمرة التي يقطفها، وبخاصة الزيتون. ولم تكن لدينا أرض كثيرة تستحق أن يشرف عليها «مرابع». إنّما كان لأبي وضع معنويٌّ كبير ومتميز، بسبب علمه وكرمه. فقد شُيِّخ، مثلاً، مع أنه لا ينحدر من عائلة شيوخ. شيِّخ تكريمًا وتقديرًا. هذا الوضع هو الذي استدعى أن ينوبَ عنه عاملٌ للعناية بما كان يملكه، على قِلَّته. أذكر أنه لم يكن يفرض عليَّ شيئًا. كان يترك لي حرية التصرف إلا في ما يتعلَّق بالحرص على التعلم. ولم تكن عندنا آنذاك مدرسة. كنت أذهب إلى «الكُتَّاب» نهارًا، وفي المساء كان هو نفسه يعلِّمني قراءة الشعر العربي، ويحاول أن يجعلني، في الوقت نفسه، أحفظ القرآن عن ظهر قلب.
–هل كنت ابنه شبه المدلل؟
كنتُ ابنه البكر. غير أنّه كان يهتم كثيرًا بإخوتي: محمد، وحسن وحسين وليلى وفاطمة التي كانت طفلة عندما توفي. في هذا كلّه، أكتشف الآن مدى تفتُّحه وصداقته. وكيف كان يحرص على تربيتنا، منمِّيًا فينا روح الحرية والاستقلال. كان يأخذني معه في بعض زياراته إلى أصدقائه خارج قريتنا، في قرىً أخرى مجاورة أو بعيدة. ويقدّمني إليهم بشيء من الفخر والزهو. غير أنّه، كما أتذكر الآن، كان يشعر بالمرارة عندما كان يرى بعض أصدقائه يرسلون أولادهم إلى التعلُّم في مدارس المدينة، بينما لا يقدر هو، لضعف إمكاناته المادية، أن يرسلني إلى المدينة للتعلم مثلهم. هكذا بقيتُ في القرية حتى الثانية عشرة من عمري، دون مدرسة. وحتّى هذه السن لم أعرف سيارة، ولم أر الهاتف أو الكهرباء… ثم حدثت المفاجأة/ الأعجوبة. ففي سنة 1943، أخذت سورية استقلالها عن فرنسا، وسمِّيت الجمهورية السورية، وانتخبتْ رئيسها الأول: شكري القوتلي. وانتشر خبر قراره بزيارة المناطق السورية للتعرُّف إليها، ومن ضمنها منطقة جبلة. ولا أعرف كيف خطرَ لي أن أكتب له قصيدة، وأن ألقيها أمامه، وكيف خُيِّل إلي أنها ستعجبه، وأنه بناءً على ذلك، سيدعوني لرؤيته، وأنه سيسألني: ماذا أقدر أن أقدِّم لك، وأنني سأجيبه: أريد أن أتعلَّم، وأنّه سيُلبي هذه الرغبة.
وفعلاً، تمَّ هذا كله كما تخيلته، وحرفيًا تقريبًا. وكانت المدرسة الأولى التي دخلتها، المدرسة الفرنسية الأخيرة في سورية أو مدرسة اللائيك، للبعثة العلمانية الفرنسية في طرطوس. طبعًا، كانت هناك أهوالٌ دون إلقاء القصيدة أمام رئيس الجمهورية. يلقيها قروي طفلٌ في الثانية عشرة من عمره، فقيرٌ، وليس له أي سند. لكنها تفاصيل يطول الدخول فيها، ولذلك أرجئ الخوض فيها، وإن كانت ممتعة وعظيمة الدلالة.
–لكن، صورة الأب غير موجودة لديك، على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الرمزي أو الشعري..
ربّما، على المستوى الشخصي، إلا في مقطوعتين صغيرتين كتبتهما تحية ورثاء. أمّا على المستوى الرمزي، فأعتقد أنّه عميق الحضور في شعري، لكن على نحو معقَّد أختصره في هذه الصيغة: ضد الأبوَّة مع الأب.
رف الكتب
مقتطفات
سيكولوجية الملل
يتناول عالما النفس جيمس دانكيرت وجون إيستوود، في كتابهما (رأسي يتصدّع، سيكولوجية الملل)، بطريقة تحليلية ووصفية، موضوع الملل المُحير من خلال مقاربة نفسية، حيث يعتبران الملل خبرةً تحدث داخل عقولنا. إضافة إلى ذلك، يقدمان إطاراً تنظيمياً لما ظل طويلا مجال دراسة يتّسم بالكتابات المتفرقة. يتطرق الدارسان في البداية إلى تحديد مفهوم الملل: «… الملل هو الألم المُصاحب لذِهْنٍ غير منشغلٍ، وهو كذلك الألم المرتبط بما نطلق عليه معضلة الرغبة. فالأشخاص المصابون بالملل مُثقلون بإحساس مُريح لأنّهم غير منشغلين ذهنيا. ومهما كان ما يقومون به، أو يفكرون فيه، أو يحسّون به، أو يتخيلونه فهو غير كافٍ لاستخدام طاقاتهم الذهنية. وفي الوقت نفسه، هؤلاء الأشخاص يرغبون في القيام بشيء ما، ولكن لا يستطيع البدء في أيّ شيء، وهو ما يمثل نوعا من الإخفاق في الانطلاق للبدء في شيء. ويخلق ذلك مأزقا مُقلقا يتمثل في الرغبة في القيام بشيء ما، ولكن مع الإخفاق في ربط هذه الرغبة بأيّ شيء يمكن القيام به في هذه اللحظة. الملل إذاً هو رغبة غير محددة فاقدة للوجهة، أو كما يقول الروائي الروسي ليو تولستوي «الرغبة في الرغبات». ويُشبه الملل في بعض النواحي ظاهرة «على طرف اللسان»، تلك اللحظة التي لا تتذكر فيها جيّدا اسم الممثل الذي قام بدور البطولة في أحد الأفلام… يتكوّن هذا الإحساس من قوتين مزدوجتين: غياب شيء ما والدافع لملء هذا الغياب. على الأقلّ في ظاهرة «على طرف اللسان» لديك إحساس بأنّ الاسم قريب المنال بعد عناء، وسوف تجده في نهاية الأمر. ولكن مع الملل لا يوجد مثل هذا التفاؤل. وبدلا من ذلك، هناك بحث محموم للعثور على شيء ما لملء الفراغ وتخفيف الضغط. شيء شبيه إلى حد ما بتجريب ارتداء معاطف مختلفة حتّى نعثر على المقاس المناسب، فالشخص المصاب بالملل يتوقّع من العالم (أو من الآخرين الموجودين به، كما هو الحال مع الأطفال الذين يتوسلون إلى آبائهم لمعالجة الملل لديهم) أن يوضح لنا ما نريد أن نقوم به. وتنشأ حلقة ممتدة من الملل حتّى عندما نخفق في إيجاد هدف لمهاراتنا ومواهبنا».
يسعى الكاتبان إلى الفصل بين الحرمان والإحباط من جهة والملل من جهة أخرى: «… ولقد تُقيدنا المواقف إلى درجة أنّ رغباتنا تصير محظورة. فأحيانا، لا نستطيع أن نفعل ما نريد القيام به… إنّ الإحباط أو الحرمان من الارتباط بالعالم بالطريقة التي نُريدها يمكن أن يؤديا إلى الملل في نهاية المطاف، لكنّهما لا يسببان الملل بالضرورة… لذلك، فإنّ الملل يختلف عن الإحباط. يحدث الإحباط عندما نُحرم من تحقيق هدف محدد بوضوح… أمّا الملل فإنّه يحدث عندما يكون الهدف الأكثر إلحاحا لدينا هو الحصول على هدف، ورغم ذلك لا أهداف تُتاح لنا. إنّ الشخص المصاب بالملل يتعذب بسبب حاجة وهو لا يعرف الشروط التي تُشبع تلك الحاجة».
ويستشهد المؤلفان، أخيرا، لتأكيد مفهومهما للملل وسيكولوجيته المميزة عن غيرها من المشاعر والسلوك الإنساني، بقولة الفيلسوف شوبنهاور: «… تتحوّل الرغبة بصورة دائمة إلى إشباع، ويتحوّل الإشباع إلى رغبة جديدة، فإذا كانت وتيرة هذا التحوّل سريعة، نُسمّي هذا السعادة، وإذا كانت بطيئة، فهو الحزن». بل يذهبان أكثر من ذلك اعتمادا على شوبنهاور أيضا: «هذا هو المصدر الحقيقي للملل، اللهاث المستمر خلف الإثارة، من أجل الحصول على ذريعة لإعطاء العقل شيئًا يشغله»، إلى افتراض أنّ الملل في بعده السياسي، وبوصفه شعورا بعدم وجود معنى للحياة، قد يصبح قوة دافعة محتملة لكراهية الأجانب أو تصويت ناخبين، يشعرون بالملل من عالم لا يحدث فيه ما يثير الاهتمام، على منتخبين بداعي التسلية والإثارة أكثر من الاقتناع، أو حتّى الانشغال المحموم بوسائل التواصل الاجتماعي باعتبار ذلك أحد مسكّنات الملل.
عدد جديد من مجلة «البيت»
ظهر العدد 44 من مجلة «البيت» التي يُصدرها بيت الشعر في المغرب. تصدّرَ العدد، بَعد الكلمة الافتتاحيّة، حوارٌ مع الأديبة الكوريّة الجنوبيّة هان كانغ الحاصلة على جائزة نوبل للآداب (2024) بعُنوان «معنى أنْ يتحوّل المَرءُ إلى نبتة»، أجْرَتهُ سابين بيشيل وترجمهُ فيصل أبو الطفيل.
في باب «أراض شعريّة» تضمّن العدد نماذج من الشعر الألمانيّ المُعاصر، مُمثّلة بقصائد للشعراء: كريستوف لايستين، وعلي الشلاه، وناتايه شميد، وآنه هوفمان ويورغين نيندزا. إلى جانب هذه النماذج، تضمّن البابُ نفسُهُ قصيدة «سبع لوحات» للشاعر السوريّ فؤاد آل عواد، وقصيدة «اعتياد» للشاعرة المصريّة حنين طارق، وقصيدة «تشرقُ من مَوتها لتلمسَني» للشاعر أحمد بلحاج أيت أورهام، وقصيدة «أيّها الرّزء.. كُن كيّسًا» للشاعر علال الحجّام، وقصيدة «مجرّات حائرة» للشاعرة لطيفة المسكيني. فيما تضمّن باب «مؤانسات الشعريّ» المقالات النقديّة والفكريّة الآتية: «في استحالة الترجمة» لجون برتْرانْد بونتاليس بترجمة حمزة فنين، وجورج تراكل: «أيقونة النمسا والشعر الكونيّ المُلتاع» لمحمد بودويك، وديوان «زمن الانتظار» أو «مديح لأزمنة المتاهة» لرشيد المومني، و«ضوء العتمة وتناغُم الإيقاع» لعبد الفتاح الشادلي، و«نشيد الماء» لنُهيلة عربان.
أمّا باب «مقيمون في البيت»، فخصّتهُ المجلّة للشاعر الفنزويلي رفائيل كاديناس، تحت عنوان: «وداع وغياب»، قدّمَ لهذا الباب وأنجزَ ترجمةَ قصائده الشاعر خالد الريسوني.
جدير بالذكر أن مجلة «البيت» التي يديرها الشاعر حسن نجمي ويرأس تحريرها الناقد خالد بلقاسم، تصدر بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل (قطاع الثقافة).
متوجون
جائزة المغرب للكتاب 2024
أسفرت نتائج الدورة 55 من جائزة المغرب للكتاب لسنة 2024 عن تتويج إدريس الملياني عن ديوانه «غمة الكمامة» ومحمد عزيز الحصيني عن ديوانه «كغيوم تحت القناطر» مناصفة بجائزة الشعر.
وأمّا جائزة السرد فآلت إلى سعيد منتسب عن روايته «حساء بمذاق الورد». في حين مُنحت جائزة العلوم الإنسانية مناصفة لكل من سمير أيت أومغار عن كتابه «الماء والمدينة بشمال أفريقيا في العهد الروماني»، وهشام الركيك عن كتابه «الملاح فضاء وعمران من وحي عقد الذمة». فيما نال جائزة الترجمة حسن الطالب عن ترجمته عن الفرنسية للغة العربية كتاب «شيطان النظرية، الأدب والحسّ المشترك» لمؤلفه أنطوان كامبنيون، في حين كانت جائزة الدراسات في مجال الثقافة الأمازيغية من نصيب العربي موموش عن كتابه الصادر بالفرنسية .La phrase complexe en amazighe, les circonstancielles وعادت جائزة الأدب الأمازيغي إلى فؤاد أزروال عن مجموعته القصصية «الأزهار لا تنمو في الشتاء».