شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةملف التاريخ

العربي بن مهيدي أيقونة الثورة الجزائرية اختبأ عندي في تطوان وسُجنت بسبب استضافته

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

ما لا يعرفه الكثيرون أن جيش التحرير الجزائري، الذي يعتز به الجزائريون أيما اعتزاز وينسبون إليه فضل استقلال الجزائر وتحررها من الاستعمار، وقادته البارزين، كانوا يأتون عندنا إلى المنطقة الخليفية.. بل إن أهالي منطقة الشمال دعموا جيش التحرير الجزائري بدون قيد أو شرط.

 

قصتي مع العربي بن مهيدي

لم أكن أعرف أي شيء في البداية عن شخصية العربي بن مهيدي قبل أن يتم إرساله إلى تطوان وتكليفي باستضافته. لكن، بالمقابل، كنت أعرف محمد بوضياف، الذي عين في ما بعدُ رئيسا للجزائر، وجرى اغتياله مباشرة على الهواء بتلك الطريقة البشعة. وكانت بيني وبينه صداقة متينة، حتى أنه رحمه الله خصني بزيارة في بيتي خلال سفره الأخير إلى المغرب، مدة قصيرة قبل اغتياله في 29 يونيو 1992. وسوف أعود إلى مغامرتي معه بعد استقلال المغرب بفترة قصيرة.

التقيتُ بوضياف أول مرة في تطوان، عندما انطلق جيش التحرير. جاء إلينا قادما من الناظور، وبدأ يشتغل مع زملائه في تأسيس جيش التحرير الجزائري، الذي أرادوا له منذ البداية أن يكون جيشا «نظاميا»، يشتغل على أساس مواجهة مع الجيش الفرنسي.. بحكم أن أغلب أعضاء هذا الجيش سبق لهم الاشتغال في الجيش النظامي الفرنسي، وطبعا يحملون الجنسية الفرنسية، وخلفيتهم عسكرية، ومروا من مرحلة التجنيد الإجباري. بل إن بعضهم لم يكونوا يعرفون الكثير عن الحياة المدنية أو السياسية بقدر ما كان النظام العسكري يتملك كيانهم وفكرهم. وهكذا فإن فكرة أو فلسفة المقاومة، ببُعديها السياسي والنضالي، لم تكن واردة عند أغلبهم.

خلال اللقاءات التي كانت تجري بين المقاومين المغاربة وهؤلاء الجزائريين، كان النقاش في الغالب منصبا على هذا التوجه، وتقبّل الجزائريون نصائحنا بصدر رحب. وقال بوضياف إنهم يرغبون في الاستفادة من تجربة جيش التحرير والمقاومة المغربية لتطوير فكرة مقاومة جزائرية ينخرط فيها هؤلاء العسكريون.

ومن جملة الملاحظات التي أدلى بها الإخوان في تطوان لجماعة بوضياف، أنه يتعين عليهم البدء في استهداف الشخصيات الفرنسية الاستعمارية، بدل التفكير في المواجهات العسكرية مع الجيش الفرنسي. وقلنا لهم إن الحرب ضد جيش فرنسا لن تُجدي وأن مقتل جندي أو عسكري فرنسي يُقابل عند الفرنسيين بإرسال جنود آخرين إلى الميدان. أما استهداف الشخصيات السياسية أو المدنية المؤثرة سيُربك فرنسا.

هذه الثقة التي نمت بين جماعتنا في تطوان ومحمد بوضياف جعلت هذا الأخير يعهد إلينا بحماية المقاوم الجزائري الكبير العربي بن مهيدي، عندما كان الفرنسيون يطلبون رأسه.

ولا زلت أذكر أن العربي بن مهيدي، وهو جزائري معروف ويحظى بشعبية كبيرة في الجزائر، عندما جاء إلى تطوان، وقيل لي إنهم أرسلوه إليّ لكي أعتني به وأتولى إعداد جواز سفر له. والواضح أنه كان متورطا في أمر ما ويطلب الفرنسيون رأسه.

لم أكن المكلف بإعداد جوازات السفر التي تم إعدادها لعدد من المقاومين، لكني، بحكم مهمتي في استعلامات المقاومة، كانت لدي بعض العلاقات في تطوان تُسهل عملية الحصول على جوازات سفر في مثل هذه الظروف.

كان الجزائريون يلقبون العربي بن مهيدي بـ«الحكيم» وبعض الفرنسيين كانوا يلقبونه بـ«جان مولان الجزائري».

يعتبره الجزائريون إحدى أهم الشخصيات البارزة في ثورة التحرير الجزائرية. ولم يكن ينتمي إلى أسرة عريقة، بل كان، شأنه شأن أغلب المناضلين، ينتمي إلى أسرة جزائرية فقيرة. كان بن مهيدي مسؤولا عن الجناح العسكري في سطيف، وانضم إلى اللجنة الثورية ليصبح واحدا من أبرز قادتها ومفجريها إلى جانب محمد بوضياف وأحمد بن بلة والآخرين..

وفي سياق أنشطته الثورية، والتضييق الذي تعرض له في الجزائر، جرى إرساله إلينا في تطوان.

أخبرتُ العربي بن مهيدي ألا يتحرك خارج استوديو التصوير نهائيا، حتى لا يراه أحد المخبرين أو موظفي الاستعلامات العامة الفرنسية. وخرجتُ لأقضي بعض شؤوني اليومية.

وعندما كنتُ في طريق عودتي إلى الاستوديو، صادفت أحد الشبان، وقال لي إن صديقي الفدائي الذي يختبئ عندي في الاستوديو اعتُقل من طرف البوليس الإسباني.

نُقل بن مهيدي إلى «الكوميسارية» وأسرعتُ لكي أحاول إنقاذه قبل أن يتعرفوا على هويته الحقيقية، وقلتُ لرجال الشرطة الإسبانيين ما مفاده أن هذا الشاب مواطن مغربي وجاء من الدار البيضاء، وحاولت التمويه على هويته الحقيقية وقلتُ لهم إنه من العيب أن يعتقلوه ويزجوا به في الكوميسارية وذكّرتهم بأن بيننا وبينهم اتفاق تقديم يد المساعدة لهؤلاء اللاجئين.

كان هاجسي الوحيد ألا يتعرفوا على اسمه الحقيقي!

قضى بن مهيدي ليلته عندهم في الكوميسارية. بدا واضحا أن محاولاتي «التشويشية» لم تُؤت أكلها، لكني سعدتُ وأنا ألمحه في صباح اليوم الموالي قادما نحوي وقد أطلقوا سراحه، وحمدتُ الله أنهم لم يتعرفوا على اسمه الحقيقي ومدى أهميته ودوره في الثورة الجزائرية.

قال لي إنهم لم يحققوا معه نهائيا ولم يطرحوا عليه أي أسئلة.

بعد يومين وصلني جواز السفر الذي مُنح له لكي يستطيع العودة إلى الجزائر، وقدمته له وغادر لكي يعود إلى الجزائر على متن الطائرة. وكان ذلك آخر لقاء بيني وبينه رحمه الله.

كنا نتأمل في حال إخواننا الجزائريين، ونلومهم أحيانا على بعض الخطوات والقرارات التي يتخذونها، ومن بينها هذا القرار. إذ كيف يُعقل أن يسمحوا للعربي بن مهيدي بالعودة إلى البلاد، وعلى متن الطائرة، وهو مطلوب «فوق العادة» لدى الفرنسيين. كان سفره ذاك مقامرة غير محسوبة العواقب.

لاحقا وصلنا خبر أنه اعتُقل بمجرد وصوله إلى الجزائر.

اتصل بي «فيلدا»، مسؤول الاستعلامات العامة الإسبانية في تطوان، وكان متزوجا من مغربية ويتحدث العربية بطلاقة، بل ويمتاز بذكاء و«مكر» غير عاديين..

ما أن وصلتُ إلى مكتبه حتى قال لي:

-«اليوم سوف أرسلك إلى الحبس..».

-«هل تقبل مني أن أتقدم إليك بطلب خاص، ما دمتُ سوف أُسجن؟».

-«نعم».

-«أريد أن أسجن وحيدا، وأرجوك ألا تتصل بالشرطة، وسوف أذهب إلى السجن من تلقاء نفسي. وأعاهدك ألا أفرّ».

عندما أستحضر تلك اللحظات، رفقة بعض المقاومين من إخواننا الذين عاشوا معي في تطوان، لا نتمالك أنفسنا من الضحك. فقد قبل «فيلدا» طلبي وطلب من رجال البوليس ألا يعتقلوني وألا يضعوا الأصفاد في يدي.

وتقدمت في الطريق من مكتب «فيلدا» نحو السجن. مررتُ في طريقي بدكان صغير واشتريتُ منه فوطة صغيرة وآلة حلاقة.

لم يكن هدفي الحصول على تلك الأغراض البسيطة، وإنما ترك رسالة عند البقّال، لإخواني في المقاومة. كنتُ مدركا أن الأمر لا بد أن يكون متعلقا باستضافتي للمقاوم الجزائري العربي بن مهيدي في استوديو التصوير، وتضليلي للشرطة الإسبانية بخصوص هويته.

أخبرتُ البقال أن يخبر أول من يصادفه من الإخوان اللاجئين أنني في السجن.

وصلتُ باب السجن، وكان شرطيان إسبانيان يتبعانني من بعيد. طرقتُ الباب، وخرج عندي الحراس وقلتُ لهم إنني جئت إلى السجن بقدميّ. وصل الخبر إلى المدير وخرج غير مُصدق ما يسمع، وسألني عن حاجتي وحكيتُ له كل ما دار بيني و«فيلدا».

دخلتُ السجن فعلا وطلبتُ منه أن يودعني في مكاني «المعتاد»، فما أكثر المرات التي دخلت فيها سجن تطوان.

قضيتُ ثلاثة أيام هناك وأخرجوني في الأخير بعد أن شكرتهم على حسن استضافتهم.

كنت أنتظر أن يتم استدعائي من جديد، أو أمثل بين يدي الشرطة أو الاستعلامات.. لكن الحقيقة ألا أحد اتصل بي مرة أخرى بهذا الخصوص، نهائيا.

عرفنا لاحقا من الصحافة أن العربي بن مهيدي ألقي عليه القبض مرة أخرى في فبراير 1957، بعد أن داهم الجيش الفرنسي مخبأه، وتعرض للتعذيب بقصد انتزاع معلومات حيوية منه عن الثورة الجزائرية التي كانت في ذلك الوقت تتلقى دعما كبيرا من الشمال ومن ولي العهد الأمير مولاي الحسن والملك الراحل محمد الخامس.

قُتل العربي بن مهيدي تحت التعذيب، ولم تعترف فرنسا بمسؤوليتها عن استشهاده إلا مؤخرا عندما اعترف الرئيس ماكرون العام الماضي، في الذكرى السبعين لانطلاق الثورة الجزائرية، بأن وفاة هذا المناضل الجزائري كانت بسبب التعذيب على يد الفرنسيين.

ليت الجزائريين يعرفون هذا الجزء القاتم من التاريخ المشترك مع المغاربة، والذي نسيه الكثيرون منهم عمدا، بل وحاولوا طمسه من ذاكرة الجزائريين الجماعية.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى