القضاء في مواجهة الفساد المالي
مصادرة أموال وممتلكات المتورطين في اختلاس المال العام

عرفت السنوات الأخيرة تزايدا ملحوظا في عدد قضايا جرائم الأموال المعروضة على أنظار المحاكم المختصة، وكذلك عدد المسؤولين والمنتخبين المعتقلين في ملفات تبديد واختلاس أموال عمومية، ومنهم شخصيات معروفة. وتؤكد رئاسة النيابة العامة أنها تولي أهمية بالغة لملفات جرائم الأموال، إذ تروم التوجيهات الصادرة عنها في هذا الإطار حث النيابات العامة بالمحاكم المختصة على مواكبة الأبحاث القضائية وضمان إنجازها داخل أجل معقول، وفي نفس السياق أحالت النيابات بمحاكم الاستئناف المختصة في جرائم الأموال، عشرات الملفات على المحاكم المتخصصة في البت في جرائم غسل الأموال بكل من الرباط والدار البيضاء ومراكش وفاس، تخص مسؤولين وموظفين بمؤسسات عمومية ورؤساء جماعات ترابية تمت إدانتهم أو يتابعون أمام محاكم هذه المحاكم من أجل تبديد واختلاس أموال عمومية أو الارتشاء، وتتولى الشرطة القضائية بإجراء الأبحاث المالية الموازية، وذلك عبر جرد ممتلكات المتهمين العقارية والمنقولة وحساباتهم البنكية وعلاقة تلك الممتلكات بالجريمة الأصلية المتعلقة بتبديد واختلاس أموال عمومية، ومن جهتها تشتغل وزارة العدل على إخراج مشروع قانون يتعلق بإحداث الوكالة الوطنية لتدبير وتحصيل الأموال والممتلكات المحجوزة والمصادرة والغرامات، ويأتي هذا القرار في ظل ارتفاع أحكام مصادرة وحجز ممتلكات وأموال أشخاص تمت إدانتهم في ملفات الفساد المالي من طرف القضاء.
إعداد: محمد اليوبي – النعمان اليعلاوي
إحالة تقارير افتحاص الجماعات على محاكم جرائم الأموال
أعلنت زينب العدوي، الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، أن الوكيل العام للملك لدى المجلس قرر إحالة 16 ملفا تستوجب عقوبات جنائية على أنظار الحسن الداكي، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، قصد اتخاذ المتعين بشأنها، وذلك خلال الفترة ما بين سنة 2022 إلى متم شهر شتنبر 2024.
وأوضحت العدوي، في عرض قدمته في جلسة مشتركة عقدها مجلسا النواب والمستشارين، أن الأمر يتعلق بقرائن أفعال ذات صبغة جنائية مرتبطة بمجالي تنفيذ الصفقات والتعمير أو متعلقة بمنافع شخصية غير مبررة أو بالإدلاء بشواهد مرجعية للولوج لطلبيات عمومية تتضمن معطيات غير صحيحة.
وأفاد التقرير السنوي لرئاسة النيابة العامة بأن الوكيل العام لدى المجلس الأعلى للحسابات أحال على رئاسة النيابة العامة ما مجموعه 14 ملفا، خلال سنة 2023، تم تفعيل المساطر القضائية فيها جميعا بإحالتها على إجراءات البحث والتحقيق. وأفاد التقرير السنوي لرئاسة النيابة العامة بأن عدد الملفات المحالة من المجلس الأعلى للحسابات بلغ، خلال الفترة ما بين 2017 و2023، ما مجموعه 60 ملفا، منها 10 ملفات صدرت بشأنها قرارات قضائية نهائية بعد تحريك الدعوى العموميـة، فيما بلغت القضايا الرائجة أمام أقسام الجرائم المالية ما مجموعه 648 قضية.
وأكدت رئاسة النيابة العامة أنها تولي أهمية بالغة لملفات جرائم الأموال، إذ تروم التوجيهات الصادرة عنها في هذا الإطار حث النيابات العامة على مواكبة الأبحاث القضائية وضمان إنجازها داخل أجل معقول. ومن جهة أخرى، عرف عدد الشكايات المتعلقة بالجرائم المالية ارتفاعا، إذ انتقل من 691 شكاية خلال سنة 2022 إلى 707 شكايات خلال سنة 2023، تفاعلت معها النيابات العامة لدى أقسام الجرائم المالية بإحالتها على مصالح الشرطة القضائية لإنجاز الأبحاث بشأنها.
وبدوره أحال وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، تقارير أنجزتها المفتشية العامة للإدارة الترابية التابعة لوزارة الداخلية، على أنظار رئيس النيابة العامة، الحسن الداكي، والرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، زينب العدوي، من أجل اتخاذ المتعين بشأنها، وتتعلق هذه التقارير باختلالات رصدتها المفتشية في تدبير الجماعات الترابية، وتكتسي بعض الخروقات والاختلالات طابعا جنائيا يستدعي الإحالة على القضاء.
وتقوم المفتشية العامة لوزارة الداخلية بإنجاز عدد من مهام التفتيش تتمحور حول مراقبة التسيير الإداري والمالي والتقني لبعض الجماعات المحلية والهيئات التابعة لها، والبحث والتحري في تصرفات منسوبة لبعض رجال السلطة، ومراقبة ميدان التعمير، ومهام البحث في شأن شكايات أو مواضيع مختلفة، والمهام المتعلقة بعمليات تسليم السلط.
وبعد الانتهاء من جميع الأبحاث والتحريات بالجماعات الترابية المعنية، تقوم اللجن التابعة للمفتشية العامة للإدارة الترابية بإعداد تقارير التفتيش والمراقبة وفق المعايير المعمول بها في هذا الميدان، حيث يُراعى الاحترام التام لحق الدفاع باعتباره من الحقوق الكونية، إذ تتم، في إطار ما يصطلح عليه بالمسطرة التواجهية، إحالة النتائج المتوصل إليها، عقب الانتهاء من إعداد التقارير، على المنتخبين الجماعيين المعنيين حتى يتسنى لهم إبداء ملاحظاتهم وتقديم تعليلاتهم بخصوص مختلف التجاوزات والمخالفات المنسوبة إليهم، وتنجز هذه اللجن مهام تفتيش وتحرّ، تتعلق مواضيعها بالتسيير المالي والإداري للجماعات الترابية ومراقبة التعمير وتسليم السلط والبحث في التصرفات المنسوبة لبعض رجال السلطة وأعوانهم وبعض الموظفين والتحقيق في الشكايات المرفوعة ضد المنتخبين أو بميادين أخرى.
وسبق لوزير الداخلة التأكيد على أهمية الافتحاص الداخلي للجماعات، واعتبره ورش تكريس الافتحاص الداخلي بالجماعات يأتي في إطار تنزيل مقتضيات الدستور، كما يعد عنصرا مهما من عناصر تفعيل الحكامة الجيدة التي أفرد الدستور لها بابا خاصا، نص فيه على إخضاع المرافق العمومية للمراقبة والتقييم وربط المسؤولية بالمحاسبة. وأضاف الوزير أنه، في إطار تعزيز المسار الديمقراطي للمغرب وجعل الجهوية رافعة محورية للتنمية الترابية، تم توسيع اختصاصات الجماعات الترابية وتخفيض مستويات الوصاية والرقابة القبلية عليها، لذلك أصبح من اللازم اعتماد آليات الرقابة الداخلية كالافتحاص الداخلي الذي يعد أداة لمساعدة القائمين على التدبير المحلي على تقييم مدى استجابة البرامج للخدمات المقدمة للمواطنين، كما أكد على أن وزارة الداخلية، بكل مكوناتها، ستظل حريصة على مواكبة هذا الورش، خاصة عبر التكوين ودعم القدرات.
ومن بين الملاحظات المسجلة من طرف المفتشية العامة، رصد مجموعة من الاختلالات تتعلق بسوء تدبير قطاع المداخيل بالجماعات الترابية، وضعف تدابير المراقبة الداخلية، مما قد يؤثر سلبا على ممارسة شساعة المداخيل للاختصاصات الموكلة إليها، والإعفاءات غير المبررة للملزمين الخاضعين لبعض الرسوم المحلية واستخلاص الجماعات دون سند قانوني لبعض المداخيل، وعدم القيام بالإجراءات اللازمة لتحصيل بعض مداخيل الجماعات، كما هو الحال بالنسبة لواجبات الأكرية والرسم على استخراج مواد المقالع والرسم على عمليات تجزئة الأراضي والرسم المفروض على محال بيع المشروبات والرسم على محطات الوقوف والنقل العمومي والرسم المفروض على شغل الملك العمومي لأغراض تجارية أو صناعية أو مهنية ومداخيل النقل بواسطة سيارة الإسعاف ومنتوج استغلال المياه، إضافة إلى تراكم مبالغ «الباقي استخلاصه».
وعلى مستوى تدبير المصاريف، أظهرت مهام مراقبة التدبير المالي والإداري بالجماعات الترابية مجموعة من الاختلالات على مستوى تنفيذ النفقات العمومية، وأبانت كذلك عن العديد من النواقص طبعت إنجاز المشاريع الجماعية وتسببت في تعثر البعض منها. وتتلخص أهم الملاحظات في إنجاز الجماعات لمشاريع دون الاعتماد على دراسات تقنية مسبقة، وعدم مسك سجلات المحاسبة المتعلقة بالجماعات المحلية ومجموعاتها، سيما دفتر تسجيل حقوق الدائنين والدفتر اليومي لأوامر الأداء الصادرة، وعدم احترام الضوابط القانونية بتنفيذ الصفقات العمومية وخرق المساطر المعمول بها وعدم اعتماد المحاسبة المادية بالنسبة لمقتضيات الجماعة، فضلا عن إهمال مجموعة من الممتلكات المعطلة من أجهزة ومعدات وآليات بالمخزن الجماعي، رغم إمكانية إصلاحها، كما رصدت التقارير اختلالات تتعلق بسوء تدبير حظيرة السيارات.
وأظهرت مهام التفتيش، التي شملت جوانب مختلفة من التدبير المالي والإداري بالجماعات الترابية، كذلك، مجموعة من الاختلالات، خاصة على مستوى تنفيذ الطلبيات العمومية، وأبانت كذلك عن العديد من النواقص طبعت إنجاز بعض المشاريع وتسببت في تعثر البعض منها، ويتعلق الأمر بعدم احترام مقتضيات دفتر التحملات بخصوص إنجاز أشغال الصفقات، وأداء مبلغ عن خدمات لم تنجز، وأداء مبالغ متعلقة بسندات طلب دون الإنجاز الكامل للأشغال، واللجوء المتكرر إلى عدد محدود من الموردين، واللجوء إلى تسوية وضعية نفقات باللجوء لسندات الطلب، بالإضافة إلى تسليم أشغال صفقة بالرغم من عدم احترام المواصفات التقنية المنصوص عليها بدفتر الشروط الخاصة٠
المجلس الأعلى للحسابات.. نحو تخليق الحقل السياسي
يعتبر الفساد من أبرز التحديات التي تواجه الدول في سعيها لتحقيق التنمية المستدامة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة. في هذا السياق، يُشكل المجلس الأعلى للحسابات في المغرب إحدى أهم المؤسسات الدستورية المعنية بمراقبة المالية العامة وتعزيز النزاهة والشفافية. ويضطلع المجلس بمهمة التدقيق في الحسابات العمومية، ورصد الاختلالات المالية وتقديم التوصيات الرامية إلى تحسين الحكامة المالية والإدارية.
ويستمد المجلس الأعلى للحسابات صلاحياته من الدستور، حيث يُحدد القانون اختصاصاته وأدواره الرقابية. يُعتبر المجلس مؤسسة مستقلة تتولى التدقيق والرقابة على تنفيذ الميزانية العامة للدولة، والمحاسبة على الأموال العمومية، وفقًا لما ينص عليه القانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية. ويتولى المجلس عدة مهام رئيسية، منها الرقابة المالية على المؤسسات العمومية والجماعات الترابية، حيث يقوم بتدقيق الحسابات والتأكد من سلامة العمليات المالية، إضافة إلى تقييم الأداء لقياس مدى تحقيق الأهداف المحددة ومدى استخدام الموارد بكفاءة وفعالية، والبحث في المخالفات المالية والتأديبية واتخاذ الإجراءات اللازمة لمتابعة المسؤولين عن الاختلالات المالية، فضلًا عن إصدار تقارير دورية تشمل توصيات وملاحظات حول التدبير المالي والإداري للمؤسسات.
ويلعب المجلس الأعلى للحسابات دورًا محوريًا في التصدي للفساد من خلال الكشف عن التجاوزات المالية، إذ عبر عمليات التدقيق والمراقبة، يعمل المجلس على رصد أوجه القصور والممارسات غير المشروعة التي قد تؤدي إلى تبديد المال العام، كما يقوم بإحالة المخالفات إلى الجهات القضائية المختصة في حال اكتشاف تجاوزات جسيمة، حيث يُحيل الملفات إلى النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.
إلى جانب ذلك، يسهم المجلس في تعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة من خلال نشر تقارير مفصلة تُسلط الضوء على أوجه القصور، مما يُعزز الوعي العام بضرورة مكافحة الفساد، كما يقدم اقتراحات لإصلاحات قانونية وإدارية عبر تقديم توصيات تساعد في تطوير منظومة التدبير المالي والإداري وتعزيز الحوكمة الجيدة.
وتتمتع الأحكام الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات بقوة قانونية معتبرة، حيث تُعد تقاريره بمثابة وثائق رسمية يعتمد عليها في تقييم أداء المؤسسات العمومية وكشف الاختلالات المالية. ويتمتع المجلس بسلطة إصدار قرارات تأديبية في حق المسؤولين المتورطين في سوء التدبير المالي، حيث يمكن أن تشمل هذه العقوبات غرامات مالية أو فرض استرداد الأموال المختلسة. ناهيك عن أن الملفات التي يثبت فيها وجود خروقات جسيمة تُحال مباشرة إلى النيابة العامة، مما يُعطي لهذه الأحكام بعدًا زجريًا يُسهم في تعزيز الردع والحد من الممارسات الفاسدة. علاوة على ذلك، فإن نشر التقارير السنوية والتفصيلية يمنح لهذه الأحكام صدى واسعًا على المستوى الوطني، ما يزيد من الضغط العام والمساءلة السياسية والإدارية تجاه المتورطين في الفساد.
وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها المجلس الأعلى للحسابات، إلا أن هناك تحديات قد تُعيق عمله، من أبرزها غياب المتابعة القضائية الفعالة، حيث أن بعض الملفات التي يُحيلها المجلس قد لا تحظى بالإجراءات القانونية اللازمة بسرعة، إضافة إلى محدودية الموارد البشرية والمالية، ما قد يؤثر على قدرة المجلس على تغطية جميع المؤسسات الخاضعة للرقابة. فضلا عن أن ضعف التعاون بين المؤسسات الرقابية يمثل تحديًا كبيرًا، حيث أن تضافر الجهود بين مختلف الهيئات الرقابية والسلطات التنفيذية ضروري لتعزيز فعالية محاربة الفساد.
يظل المجلس الأعلى للحسابات إحدى الركائز الأساسية في منظومة الحكامة الجيدة بالمغرب، حيث يُشكل جدار حماية ضد الفساد المالي والإداري. ومع ذلك، فإن تعزيز دوره يتطلب تكاملًا مؤسساتيًا، ودعمًا قانونيًا وتنظيميًا، لضمان فعالية جهوده في كشف الفساد ومتابعة مرتكبيه. إن تعزيز الشفافية والمساءلة يظل مسؤولية جماعية، تتطلب إرادة سياسية حقيقية وتفاعلًا مجتمعيًا واسعًا لضمان ترسيخ مبادئ النزاهة والحكامة الرشيدة.
ووفقًا للتقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات برسم سنتي 2023-2024، أصدرت المحاكم المالية ما مجموعه 3,951 قرارًا وحكمًا في مجال التدقيق والبت في الحسابات. ومن بين هذه القرارات، تم إبراء ذمة المحاسبين في 3,190 حالة، بينما تم التصريح بعجز في 761 حالة بمبلغ إجمالي ناهز 54.9 مليون درهم، وفي مجال التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، أصدرت المحاكم المالية 86 قرارًا وحكمًا، منها 62 قضت بغرامات مجموعها حوالي 5.1 مليون درهم، مع إلزام المعنيين بإرجاع مبلغ إجمالي قدره 9.15 مليون درهم. كما تم البت في 24 ملفًا بعدم ثبوت المؤاخذات. بالإضافة إلى ذلك، أحال الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات، خلال الفترة نفسها، 16 ملفًا إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض – رئيس النيابة العامة – بشأن أفعال قد تستوجب عقوبة جنائية.
مشروع قانون لإحداث وكالة لاسترجاع الأموال العموميـة المختلسة
أفاد التقرير السنوي للوكالة القضائية للمملكة التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية، بأن الوكالة تمكنت، خلال سنة 2023، من استرجاع مبالغ تفوق 7 ملايير سنتيم من الأموال المختلسة. وأوضح التقرير إطار المهام الموكولة للوكالة من أجل حماية المال العام ومحاربة الجرائم المالية، تعمل على التنصيب في الدعاوى الجنائية نيابة عن الدولة المغربية كمطالبة بالحق المدني لاسترداد الأموال المختلسة، وقامت الوكالة بتقديم المطالب المدنية في قضايا الجرائم المالية نيابة عن الدولة المغربية بهدف استرداد الأموال المختلسة.
وكشف وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، أمام لجنة العدل والتشريع، أن وزارة العدل بصدد إخراج مشروع قانون يتعلق بإحداث الوكالة الوطنية لتدبير وتحصيل الأموال والممتلكات المحجوزة والمصادرة والغرامات، ويأتي هذا القرار في ظل ارتفاع أحكام مصادرة وحجز ممتلكات وأموال متابعين في ملفات الفساد من طرف الأقسام المتخصصة في جرائم غسل الأموال المحدثة بالمحاكم الابتدائية بكل من الرباط وفاس والدار البيضاء ومراكش.
وأوضح وهبي، أثناء تقديم الميزانية الفرعية لوزارة العدل، أنه وعيا من المملكة المغربية بخطورة الجريمة المنظمة التي تجاوزت الحدود الوطنية واتخذت صورا متنوعة باستغلالها للثورة الرقمية والمعلوماتية ومواصلة المسلسل التحول الديمقراطي وبناء دولة المؤسسات اللذين أطلقهما الملك محمد السادس، قامت الوزارة بإعداد مشروع قانون إحداث الوكالة الوطنية لتدبير وتحصيل الأموال والممتلكات المحجوزة والمصادرة والغرامات، الذي يندرج في إطار تطوير آليات العدالة الجنائية، ويهدف إلى توفير البنية المؤسساتية الكفيلة بتحقيق النجاعة والفعالية في تدبير وتحصيل المحجوز والمصادر وتجاوز النواقص التي تعتري الممارسة العملية الحالية على مستوى رصد وتتبع العائدات الإجرامية والأموال والممتلكات التي استخدمت أو أعدت للاستخدام في أفعال جرمية وحجزها وتدبيرها ومصادرتها، وتحقيق النجاعة القضائية عن طريق تخفيف العبء على السلطات القضائية.
وأفاد الوزير بأنه تم إعداد صيغة جديدة للمشروع تضمنت مجموعة من التعديلات على ضوء الملاحظات المتوصل بها من مختلف القطاعات المعنية، وتمت إضافة اختصاصات جديدة إلى الوكالة من قبيل تحصيل الغرامات، وقد تمت إحالة مشروع هذا القانون على وزارة المالية للحصول على تأشيرتها في الموضوع، كما قدمت الهيئة الوطنية للمعلومات المالية مجموعة من المقترحات لتضمينها في المشروع، خاصة تلك المتعلقة بجرائم غسل الأموال.
وكانت وزارة الاقتصاد والمالية قد تقدمت بمقترح لإخراج مشروع القانون المتعلق بإحداث الوكالة الوطنية لتدبير وتحصيل الأموال والممتلكات المحجوزة والمصادرة إلى حيز الوجود، وهي مؤسسة سيناط بها تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في جرائم الاختلاس والتبديد كما ستتولى حفظ وتدبير الممتلكات المحجوزة والمصادرة، كما دعت الوزارة إلى تهيئ مشروع قانون لإعادة هيكلة وتنظيم وظيفة الوكالة القضائية للمملكة وتوسيع اختصاصاتها لمسايرة التحديات الراهنة المتعلقة بحماية المال العام وتقوية دورها في الدفاع عن الدولة وإدارتها في قضايا الاختلاس والتبديد بالنظر إلى التجربة التي راكمتها في معالجة هذا النوع من القضايا وتقديم الدعم القانوني والتنسيق مع مختلف الإدارات العمومية وذلك من منطلق موقعها كعضو باللجنة المركزية واللجان الجهوية لاسترداد الأموال.
وتقدمت الوكالة القضائية للمملكة، التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية، بطلبات إلى الجهات القضائية المختصة من أجل الحجز على أموال وممتلكات أشخاص محكومين في ملفات جرائم الأموال، ضمنهم برلمانيون ورؤساء جماعات وموظفون كانوا يتحملون مسؤوليات التسيير بإدارات عمومية والجماعات الترابية.
وحسب وثيقة صادرة عن وزارة الاقتصاد والمالية، فقد بلغ عدد الحجوزات التي طلبتها الوكالة القضائية أكثر من 240 حجزا، تخص 119 ملفا في طور التنفيذ بمحاكم جرائم الأموال، حيث قامت الوكالة بأكثر من 100 حجز تحفظي على رسوم عقارية تخص 35 ملفا بمحكمة جرائم الأموال بالدار البيضاء، وأكثر من 70 حجزا تحفظيا على رسوم عقارية تخص 34 ملفا بمحكمة جرائم الأموال بالرباط، وأكثر من 50 حجزا تحفظيا على رسوم عقارية وأسهم تجارية تخص 22 ملفا بمحكمة جرائم الأموال بمراكش، وأكثر من 18 حجز تحفظي على رسوم عقارية تخص 28 ملفا بمحكمة جرائم الأموال بفاس.
وأكدت وزيرة الاقتصاد والمالية، نادية فتاح في جواب عن سؤال بالبرلمان، أن مسألة استرجاع الأموال العمومية المختلسة والمبددة ومكافحة الجرائم المالية تشكل أحد أهم أولويات الحكومة، باعتبارها قضية حيوية تساهم بشكل مباشر في بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات وتوطيد دعائم الأمن المالي والاجتماعي وعدم الإفلات من العقاب.
وتم إحداث لجنة مركزية على مستوى رئاسة النيابة العامة، يترأسها رئيس النيابة العامة، الحسن الداكي، ولجان جهوية على مستوى محاكم الاستئناف يشرف عليها الوكلاء العامون للملك بهذه المحاكم، وذلك بهدف تسهيل مأمورية استرجاع الأموال العمومية المختلسة، وتعتبر وزارة الاقتصاد والمالية عضوا رئيسيا بهذه اللجنة، من خلال الوكالة القضائية للمملكة والمديرية العامة لإدارة الجمارك والخزينة العامة للمملكة والمديرية العامة للضرائب ومديرية أملاك الدولة إلى جانب القطاعات المعنية باسترداد الأموال العامة والتي تفيد في البحث عن الممتلكات المنقولة والعقارية، وتهدف هذه اللجان إلى تذليل الصعاب إلى جانب البحث عن السبل الكفيلة بتنفيذ الأحكام الصادرة لفائدة الدولة.
وتتولى الوكالة القضائية مراقبة المسطرة و تنتصب في الوقت المناسب كمطالبة بالحق المدني نيابة عن الجهة المعنية، كما تقوم بمساطر احترازية موازية من قبيل البحث عن الذمة المالية للمتابعين بالاختلاس أو التبديد سواء كانت منقولات أو عقارات أو أسهما أو نقودا بالاستعانة بجميع المرافق الإدارية التي بإمكانها ضبط هذه الممتلكات بدءا بالمحافظات العقارية والسلطات المحلية وانتهاء بالأبناك والسجلات التجارية المحلية وأيضا السجل التجاري المركزي، وإن أثمر البحث يتم الحجـز على تلك الممتلكات حجزا تحفظيا أو حجز ما للمدين لدى الغير حسب الأحوال ضمانا لاسترجاع المبالغ المختلسة التي قد يحكم بها والحيلولة دون تفويتها من طرف المالك المختلس، ويتوخى في ذلك عنصر المباغتة والمفاجأة، وبعدما يصبح الحكم مكتسبا لقوة الشيء المقضي به تباشر الوكالة القضائية للمملكة مسطرة التنفيذ في الشق المدني من الحكم، فإن كانت هناك حجوزات تحفظية تحول إلى حجوزات تنفيذية تمهيدا لبيعها بالمزاد العلني واسترداد الأموال المختلسة والمبددة.
هيئة المعلومات المالية تحيل ملفات جرائم غسل الأموال على النيابة العامة
كشف التقرير السنوي للهيئة الوطنية للمعلومات المالية برسم سنة 2023، الذي سلمه جوهر النفيسي، رئيس الهيئة، إلى عزيز أخنوش، رئيس الحكومة، عن تزايد العمليات المشبوهة لغسل الأموال وتمويل الإرهاب، حيث توصلت الهيئة بأزيد من 5700 تصريح بالاشتباه، وأحالت 71 ملفا على النيابة العامة المختصة، من أجل متابعة المتورطين في هذه العمليات.
وأوضح التقرير أنه بناء على تحليل المعلومات التي تتوصل بها الهيئة، والتي تم إثراؤها بمعلومات إضافية واردة من الأشخاص الخاضعين والشركاء الوطنيين والدوليين، ووفقا لمقتضيات المادتين 18 و34 من القانون رقم 43.05 المتعلق بمكافحة غسل الأموال، تقوم الهيئة بإحالة الملفات على وكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية بالرباط والدار البيضاء وفاس ومراكش، عندما يتعلق الأمر بأفعال يشتبه في ارتباطها بغسل الأموال أو بالجرائم الأصلية، وإلى الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط، عندما يتعلق الأمر بأفعال يشتبه في ارتباطها بتمويل الإرهاب.
وخلال سنة 2023، يضيف التقرير، أحالت الهيئة ما مجموعه 71 ملفا على وكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية بالرباط والدار البيضاء وفاس ومراكش، وكذا على الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط، لوجود قرائن كافية بخصوص غسل الأموال أو تمويل الإرهاب، وبناء على هذه المعطيات، تقدر نسبة ارتفاع عدد الملفات المحالة على النيابة العامة خلال سنة 2023 مقارنة بسنة 2022 بـ31,48 في المائة، وتشكل الملفات التي قد ترتبط بأفعال التزوير، أو تزييف الكشوفات البنكية، أو وسائل الأداء، أو وثائق أخرى، حوالي 38 في المائة من القضايا المحالة على المحاكم الابتدائية المختصة، والنسبة نفسها في ما يخص حالات النصب والاحتيال، مع ظهور تصنيفات أخرى تتعلق بغسل الأموال، بما في ذلك الرهان الرياضي والبيع الهرمي والعملات المشفرة.
وتتوصل الهيئة بطلبات معلومات من سلطات إنفاذ القانون، لإجراء تحقيقات مالية موازية في ما يتعلق بقضايا غسل الأموال والجرائم الأصلية، فضلا عن الإرهاب وتمويله، حيث أصدرت رئاسة النيابة العامة دورية دعت من خلالها بشكل خاص الجهات القضائية المختصة إلى المساهمة الفعالة في تنفيذ خطة عمل مجموعة العمل المالي، سيما في ما يتعلق بالتحقيقات المالية الموازية والتعاون مع الهيئة، وقد صاحب تعميم هذه الدورية أنشطة تحسيسية وتدريبية لفائدة السلطات القضائية في هذا المجال.
وأفاد التقرير السنوي لرئاسة النيابة العامة بأن النيابات العامة لدى المحاكم المتخصصة في قضايا غسل الأموال، حققت خلال سنة 2023 تقدما في معالجة وتدبير الأبحاث المتعلقة بالجريمة المذكورة، انسجاما مع التوجهات الصادرة عن هذه الرئاسة، خاصة بعد تفعيل القانون رقم 12.18، الذي أدخل تعديلات جديدة على مجموعة القانون الجنائي والقانون رقم 43.05 المتعلق بمكافحة غسل الأموال، الذي نص على تعميم الاختصاص القضائي في جرائم غسل الأموال على محاكم الدار البيضاء وفاس ومراكش، إلى جانب المحكمة الابتدائية بالرباط، وقد كانت التوجيهات الصادرة في هذا الإطار منصبة على القضاء على المخلف من الأبحاث، والمساهمة الفعالة في تجهيز ملفات التحقيق والمحاكمة، لضمان البت فيها داخل أجل معقول.
وكنتاج للجهود المبذولة في هذا الإطار، يضيف التقرير، فقد تم إنهاء جميع الأبحاث بخصوص المحاضر المسجلة برسم سنة 2020 وما قبلها، وبالمقابل ما زال 1349 محضرا في طور البحث، من ضمنها 3 محاضر ترجع لسنة 2021، أما الباقي والمحدد في 1346 محضرا فهو يخص سنة 2022، وأشار التقرير إلى أن هذا المعطى يعتبر طبيعيا بالنظر إلى الخصوصية التي تقسم بين الأبحاث القضائية بخصوص جريمة غسل الأموال، والتي تتطلب القيام بمجموعة من الإجراءات وجمع المعلومات والمعطيات، فضلا عن اللجوء إلى بعض آليات التعاون الدولي، كالإنابات القضائية أو الشكاية الرسمية وتسليم المجرمين، بما يكفل إنجاز أبحاث متكاملة يمكن للهيئات القضائية أن تركن إلى نتائجها، وأن تأخذ بما جاء فيها، دون المساس بقرينة البراءة.
وأضاف التقرير أنه إذا كان عدد القضايا المتعلقة بجرائم غسل الأموال لم يتجاوز 59 قضية، خلال سنة 2018، فإن العدد المسجل خلال السنوات الموالية شهد منحا تصاعديا، حيث ارتفع ليصل إلى 229 قضية سنة 2019، و247 قضية خلال سنة 2020، و393 قضية خلال سنة 2021، لتبلغ 922 قضية خلال سنة 2022 و821 قضية خلال سنة 2023، ويؤشر هذا المنحى التصاعدي، حسب التقرير، على المجهودات المبذولة من قبل النيابات العامة ومصالح الشرطة القضائية المختصة، حيث أضحت كل جهة من الجهتين المذكورتين تقوم بالدور المنوط بها في ما يتصل بالتصدي لجريمة غسل الأموال، واعتبار الجرائم الأصلية مؤشرا عليها يوجب فتح الأبحاث الضرورية في مواجهة المشتبه فيهم وتعزيزها بالأبحاث المالية الموازية، كما ساهمت آليات التعاون المؤسساتي مع بعض المؤسسات والهيئات العمومية، كبنك المغرب والهيئة الوطنية للمعلومات المالية، في تيسير مهام البحث وجمع الأدلة المرتبطة بجريمة غسل الأموال، حيث كان للنتائج المحققة في هذا الإطار دور مهم في خروج بلادنا من المتابعة المعززة.
وبالموازاة مع التطور الذي عرفه عدد القضايا المتعلقة بغسل الأموال، والتي انتقلت من 59 قضية سنة 2018 إلى 922 قضية سنة 2022 و821 قضية خلال سنة 2023، فقد عرف عدد الأحكام الصادرة في هذه القضايا بدوره تطورا ملحوظا، ففي الوقت الذي لم يتجاوز فيه عدد الأحكام الصادرة ثمانية أحكام فقط خلال الفقرة الممتدة من سنة 2008 إلى غاية سنة 2017، فقد ارتفع هذا العدد تدريجيا ليبلغ 85 حكما سنة 2022، لتشهد سنة 2023 صدور أكبر عدد من الأحكام والتي بلغت 134 حكما.
ويرجع هذا التطور الملحوظ في عدد الأحكام الصادرة في قضايا غسل الأموال، حسب المصدر ذاته، إلى المجهودات التي بذلتها أجهزة العدالة الجنائية من نيابة عامة وهيئات قضائية، من أجل المساهمة في تنزيل خطة العمل المحددة، بغية تجاوز الملاحظات المسجلة من قبل مجموعة العمل المالي شمال إفريقيا والشرق الأوسط، الواردة في تقرير التقييم المتبادل، وهو الأمر الذي عزز من المجهودات الوطنية المبذولة من قبل مختلف القطاعات المعنية، والتي توجت بخروج المغرب من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي الدولية.
الداخلية تشدد الخناق على المنتخبين الفاسدين
في إطار جهودها المستمرة لمحاربة الفساد وتعزيز الشفافية في تدبير الشأن العام، أطلقت وزارة الداخلية حملة صارمة ضد عدد من المسؤولين المحليين المتورطين في تجاوزات مالية وإدارية جسيمة. فقد اتخذ وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، إجراءات قانونية حازمة شملت إحالة عدد من ملفات فساد إلى الوكيل القضائي للمملكة، بهدف الشروع في عزل رؤساء جماعات ومنتخبين بارزين من مناصبهم، وتقديمهم للمحاكم الإدارية للنظر في تورطهم في قضايا تتعلق بسوء التدبير والتلاعب بالمال العام.
وفي خطوة تعكس الجدية في التعامل مع هذه الملفات، قامت وزارة الداخلية بتفعيل المادة 64 من القانون التنظيمي للجماعات، والتي تتيح إمكانية عزل المسؤولين المنتخبين في حال ثبت تورطهم في خروقات قانونية وإدارية خطيرة. وبموجب هذه المادة، تلقى عدد من رؤساء الجماعات مراسلات رسمية من الولاة والعمال، تمهيدًا لإحالتهم على المحاكم المختصة. وكشفت التحقيقات الأولية عن قائمة جديدة تضم أكثر من 15 رئيس جماعة، تمت إحالتهم على محاكم جرائم الأموال في مختلف مناطق المملكة.
هذه الإجراءات الصارمة تأتي في سياق توجه حكومي واضح نحو تعزيز المساءلة ومكافحة الفساد المستشري في الإدارة المحلية، حيث شهدت الأشهر الأخيرة موجة من التحقيقات والمتابعات القضائية بحق عدد من المسؤولين الذين استغلوا مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية غير مشروعة.
ومن المنتظر أن تشهد المرحلة المقبلة، مع دنو الانتخابات في 2026، تفعيلًا أكبر لدور المفتشية العامة للإدارة الترابية، خاصة بعد التعيينات المرتقبة على رأس هذه المؤسسة الرقابية، والتي ستتولى مهمة تعميق التحقيقات في الملفات المثيرة للجدل، والتدقيق في مآل الأموال العمومية التي تم تبديدها. وتشير المصادر إلى أن عدداً من رؤساء الجماعات والمنتخبين المتورطين سيتم تقديمهم للمحاكمة بأثر رجعي، مما يعكس إصرار السلطات على عدم إفلات أي مسؤول من المحاسبة.
وإلى جانب قضايا الفساد المحلي، فتحت النيابة العامة تحقيقات موازية في ملفات تتعلق بغسل الأموال واختلاس الأموال العمومية، شملت برلمانيين ورؤساء جماعات، وذلك بعد تلقيها لائحة سوداء من الهيأة الوطنية للمعلومات المالية، تتضمن أسماء شخصيات يشتبه في تورطها في تحويل أموال مختلسة إلى حسابات داخل وخارج المغرب.
وتشير المعطيات إلى أن هذه اللائحة ستساعد على تنفيذ مقتضيات القانون رقم 12.18 المتعلق بمكافحة غسل الأموال، خاصة في ما يخص حجز وتجميد المتحصلات غير المشروعة. كما أن التنسيق مع هيئات دولية مكّن من تتبع أنشطة مالية مشبوهة مرتبطة بمسؤولين محليين، بعضهم قام بعمليات استيراد مشبوهة عبر شركات حديثة التأسيس لا تتناسب قدراتها المالية مع قيمة العمليات التي نفذتها.
وأظهرت التقارير الرسمية أن معظم التصريحات التلقائية بالاشتباه في عمليات غسل الأموال جاءت من أوروبا، بنسبة 80 في المائة، تليها آسيا بنسبة 15 في المائة. كما وجهت الهيأة الوطنية لمكافحة غسل الأموال 89 طلبًا للمعلومات إلى 27 وحدة نظيرة عبر العالم، معظمها في أوروبا، لتعزيز الملفات القضائية ضد المشتبه فيهم.
هذه الحملة غير المسبوقة تأتي في وقت حساس سياسيًا، حيث من المتوقع أن تكون لها تداعيات كبيرة على المشهد الانتخابي المقبل، خاصة أن العديد من المنتخبين المتورطين ينتمون إلى أحزاب سياسية بارزة. ويطرح هذا الوضع تساؤلات حول مدى تأثير هذه الإجراءات على إعادة بناء ثقة المواطنين في المؤسسات المنتخبة، وما إذا كانت ستساهم في إرساء ثقافة جديدة قوامها النزاهة والشفافية في تدبير الشأن المحلي.
تبقى هذه التطورات خطوة كبيرة نحو إصلاح الإدارة المحلية وضمان تدبير أفضل للمال العام، إلا أن نجاحها مرهون بقدرة الحكومة على الاستمرار في تطبيق القوانين بصرامة، وضمان عدم عودة الفاسدين إلى المشهد السياسي عبر طرق ملتوية.
عتيق السعيد *
«تقييم تنفيذ السياسات والاستراتيجيات الوطنية يدعم استدامة المنحى التنازلي للفساد»
ما تقييمك للسياسات المتبعة في إطار محاربة الفساد؟
لقد أكد جلالة الملك في العديد من الخطابات والرسائل الملكية أن آفة الفساد، التي ما فتئت تنخر كيان المجتمع، إحدى العقبات الرئيسية التي تنتصب في طريق التنمية، ولأن مشكلة الفساد لا يمكن اختزالها فقط في بعدها المعنوي أو الأخلاقي، فإن الفساد ينطوي أيضا على عبء اقتصادي، يُلقي بثقله على قدرة المواطنين الشرائية، سيما الأكثر فقرا منهم. فهو يمثل 10 بالمائة من كلفة الإنتاج في بعض القطاعات الاقتصادية، وعلاوة على ذلك، يساهم الفساد في الانحراف بقواعد الممارسة الديمقراطية، وفي تقويض سيادة الحق والقانون؛ كما يؤدي إلى تردي جودة العيش، وتفشي الجريمة المنظمة، وانعدام الأمن والإرهاب، بالإضافة إلى أن مكافحة الفساد تعزز بشكل كبير وملموس من ثقة المواطن، وتوطد ثقافة النزاهة في مجال الأعمال والاستثمار، وتخليق الحياة العامة، وحماية المال العام.
لقد عمل المغرب بقيادة جلالة الملك على مكافحة الفساد، إيمانا منه بما له من آثار مدمرة على التنمية في مختلف المجالات، من أجل ذلك لم يدخر المغرب جهدا في سبيل القضاء على الفساد، وسعيا إلى توحيد هذه الجهود وتنسيقها، اعتمد منذ سنة 2015، استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، حيث أحدثت لجنة وطنية أُسنِدت إليها مهمة السهر على تنزيل أهداف هذه الاستراتيجية، كما تهدف هذه الاستراتيجية في بعدها الوطني والتي يمتد تنفيذها على مدى عشر سنوات، إلى تغيير الوضع بشكل ملموس ولا رجعة فيه، في أفق 2025، وتعزيز ثقة المواطنين، وتوطيد ثقافة النزاهة في عالم الأعمال وتحسين مناخه، مع ترسيخ موقع المملكة على الصعيد الدولي. في ظل هاته الأهداف، بات من أولويات المرحلة تقييم حصيلة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، والوقوف على مدى مساهمتها في جعل الفساد في منحى تنازلي بشكل ملموس وبصفة مستمرة، وتعزيز ثقة المواطنين.
هذا وحينما نتحدث عن مكافحة الفساد لا بد من استحضار جهود بلادنا في هذا الشأن، حيث إن المغرب بقيادة جلالة الملك محمد السادس أطلق مجموعة من المبادرات والبرامج الوطنية لمكافحة الفساد، بالإضافة إلى الحرص على الوفاء بالتزاماته الإقليمية والدولية في مجال محاربة الفساد، بحيث سعى بجدية إلى الانضمام إلى عدة اتفاقيات، منها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، والاتفاقية العربية لمكافحة الفساد، واتفاقية الاتحاد الإفريقي بشأن الوقاية من الفساد ومحاربته. وارتباطا بالسياق ذاته، شكل دستور 2011 محطة بارزة في مسار دسترة مجموعة من المؤسسات الرقابية، والتزام الدولة بإرساء مبادئ الحكامة الجيدة والنزاهة والشفافية، وبعدما ارتقى الدستور بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها إلى مصاف المؤسسات الدستورية، تم أخيرا توسيع اختصاصاتها، وتعزيز مهمتها في مجال التتبع، وستساهم هذه المؤسسة، حسب نص قانونها الجديد، في تدعيم العمل متعدد الأبعاد، الذي تقوم به كل من الحكومة والسلطة القضائية في هذا المجال.
ماذا بخصوص تقارير المجلس الأعلى للحسابات في سياق المرحلة المقبلة، وسؤال محاربة الفساد؟
إن للحديث عن أهمية ودور تقارير المجلس الأعلى للحسابات، لا بد من الرجوع إلى ماهية هذه المؤسسة الدستورية، حيث إن دستور 2011 في الباب العاشر الموسوم بالمجلس الأعلى للحسابات، ينص الفصل 147 على أن المجلس هيأة عليا لمراقبة المالية العمومية بالمملكة، ويضمن الدستور استقلاليته، يمارس المجلس الأعلى للحسابات مھمة تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، بالنسبة إلى الدولة والأجهزة العمومية، يتولى ممارسة المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية، ويتحقق من سلامة العمليات المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون، ويقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، ويتخذ، عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة. أيضا تناط بالمجلس الأعلى للحسابات مھمة مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات، وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية، وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية.
أما في علاقته بالبرلمان أو الحكومة والهيآت القضائية، حسب الفصل 148 من الدستور، المجلس الأعلى للحسابات يقدم مساعدته للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العامة؛ ويجيب عن أسئلة الاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة، كما يقدم المجلس مساعدته للھيئات القضائية، أيضا يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للحكومة، في الميادين التي تدخل في نطاق اختصاصاته بمقتضى القانون. ينشر المجلس جميع أعماله، بما فيھا التقارير الخاصة والمقررات القضائية، ويرفع المجلس الأعلى للحسابات إلى جلالة الملك تقريرا سنويا، يتضمن بيانا عن جميع أعماله، ويوجھه أيضا إلى رئيس الحكومة، وإلى رئيسي مجلسي البرلمان، وينشر بالجريدة الرسمية للمملكة، كما يقدم الرئيس الأول للمجلس عرضا عن أعمال المجلس الأعلى للحسابات أمام البرلمان، ويكون متبوعا بمناقشة.
بناء على ما تقدم يمكن القول إن تقارير المجلس الأعلى للحسابات تعد آلية رقابية هامة، حيث يعمل ضمن اختصاصاته على التدقيق والبت في الحسابات، والتسيير بحكم الواقع، والتأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، ومراقبة التسيير، بالإضافة إلى أنه يراقب عن طريق المجالس الجهوية استخدام الأموال العمومية التي تتلقاها المقاولات والجمعيات وكل الأجهزة الأخرى، التي تستفيد من مساهمة في رأسمالها، أو من مساعدة من طرف جماعة محلية أو هيئة أو من أي جهاز آخر خاضع لرقابتها، بحيث تهدف هذه المراقبة إلى التأكد من مدى مطابقة استخدام الأموال العمومية التي تم تلقيها للأهداف المتوخاة من وراء المساهمة أو المساعدة.
ما هي التحديات التي تحيط بجهود محاربة الفساد؟
لقد حصل المغرب على معدل درجة 38/100 في مؤشر مدركات الفساد، قبل سنة ونصف السنة تقريبا، وحسب التقرير السنوي للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، يكون المغرب قد تراجع بخمس نقاط خلال السنوات الخمس الأخيرة، مكرسا مسلسل التراجع في هذا المؤشر، والذي انطلق منذ 2018، حين حصل على نقطة 100/43 وانعكس هذا التراجع أيضا على ترتيب المغرب؛ حيث انتقل من الرتبة 73 ضمن 180 دولة سنة 2018 إلى الرتبة 97 ضمن 180 دولة سنة 2023، متراجعا بـ24 رتبة خلال السنوات الخمس الأخيرة. كما أبرز التشخيص الذي قامت به الهيئة أن المغرب احتل على المستوى العربي الرتبة التاسعة ومتبوعا بـ12 دولة، ووقف على تراجع ترتيبه بدرجتين على المستوى الإفريقي، محتلا مرتبة وسطى ومسبوقا بـ16 دولة، أرقام تؤكد تراجع المغرب تدريجيا، لكن ما زال الطريق طويلا للعمل على مكافحتها.
إن المرحلة تستلزم تقييم شامل للسياسات والاستراتيجيات الوطنية لمكافحة الفساد، والتصور العام للتوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة في مجال الوقاية من الفساد ومحاربته وآليات تنفيذها، بالإضافة إلى تنفيذ توصيات المؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها المجلس الأعلى للحسابات، الذي باشر خلال سنة 2024 تتبعه استكمال تنزيل مجموعة من الأوراش، وذلك استكمالا للمهمة الموضوعاتية التي أنجزها بهذا الخصوص، في نونبر 2023، وتقييم برنامج الحد من الفوارق المجالية، وهي عملية غاية في الأهمية، لأنها ستتيح رصد الإشكالات والنواقص وسبل تجاوزها، تحقيقا للعدالة المجالية وتقليصا للفوارق الاجتماعية في بعض المناطق، خدمة لتحقيق أهداف التنمية الترابية ببلادنا.
*أستاذ القانون العام والعلوم السياسية بجامعة القاضي عياض مراكش – محلل سياسي