قم بتنزيل تطبيق الأخبار بريس: App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةملف التاريخ

انفراد… برقية تكشف مخطط استقبال الخطابي في مصر

كواليس التنسيق مع الملك فاروق لإنزال الخطابي

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

هل هرب الخطابي من السفينة التي كانت تقله من «لارينيون» إلى الجنوب الفرنسي، عندما وصلت إلى مصر؟

لماذا ادعى الكثيرون وقوفهم وراء بطولة «تهريب» أسرة الخطابي؟

قصة استقرار الخطابي في مصر أيام الملك فاروق، عند وصوله إليها في آخر أيام شهر ماي 1947، أوحت للكثيرين بتأليف سيناريوهات عن «هروب» مفترض للخطابي، و«تهريب» سري هندسه الملك المصري فاروق للي ذراع فرنسا!

لكن الحقيقة، كل الحقيقة، بقيت حبيسة صدور أناس قلائل عاشوا الواقعة، ولم يدعوا فضل تنفيذها.. في هذا الملف ننشر الرسالة التي تؤكد ما وقع فعلا، عندما وصلت الباخرة الأسترالية التي تقل الخطابي وأسرته الكبيرة إلى المياه المصرية.

 

++++++++++++++++++++++++

 

النص الحصري لبرقية جاءت بفكرة «تهريب» الخطابي من السفينة «كاتومبا»

 

«26 ماي 1947

جلالة مولانا الملك المعظم

وردتني برقية من عدن بأنه قد مر بها الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، أمير الريف بمراكش، وأسير فرنسا بجزيرة ريونيون منذ عشرين سنة، وهو بطريقه إلى منفاه الجديد بجنوب فرنسا، وستصل به الباخرة «كاتومبا»، غدا الثلاثاء، إلى السويس، وإنقاذه معلق بإشارة كريمة من جلالتكم بدعوته إلى النزول، ولا سُلطة لفرنسا عليه سوى سلطة الخاطف على المخطوف. فهو ليس بفرنساوي، وما دامت الباخرة في مياهنا، فهي تحت سلطة محافظ السويس قانونا. إن مكارم جلالتكم التاريخية بنظر العالم الإسلامي هي التي أوحت إليّ برفع هذا الحادث لمقامكم السامي، مع الدعاء بحفظ الذات العلية.

التوقيع: محمد علي الطاهر – رئيس اللجنة الفلسطينية بمصر».

هذه البرقية التي ننشرها حصريا، تفند كل الروايات الأخرى التي ادعى أصحابها بطولة تهريب رمز مقاومة الريف للاستعمار الإسباني، محمد بن عبد الكريم الخطابي..

لا يتعلق الأمر إذن لا باختطاف السفينة، ولا بتواطؤ مسبق مع الخطابي للفرار.

فكرة مغادرة الجزيرة كانت فكرة الخطابي، كما تؤكد مراسلات الخارجية الفرنسية.. لكن بدا واضحا أن الخطابي عندما طلب أن يغادر الجزيرة التي نفي إليها في ماي 1926، بعد أن قضى فيها عقدين من الزمن، كان لدواع صحية خالصة.. فالرجل لم يعد قادرا على العيش في جزيرة معزولة، وارتأى أن عليه أن يقضي ما تبقى من حياته خارج الجزيرة، ما دامت العودة إلى بلاده مسألة لن تسمح بها فرنسا نهائيا.

وما يؤكد صحة الرسالة، أن كاتبها، وهو محمد علي الطاهر، كان يحتفظ بعلاقات واسعة مع مقاومين ومناضلين من مختلف الدول العربية والإسلامية. وكان مؤهلا لكي يعرف بخبر نقل أسرة الخطابي، خصوصا وأنه لم يدع معرفته بالخبر مسبقا، بل قال إنه لم يدر بالموضوع إلا عندما توصل برسالة من صديق له يقيم في اليمن، واسمه عبده حسين الأدهل، يخبره فيها أنه التقى بالخطابي في «عدن» صدفة، وعرف منه أن سلطات فرنسا تنقله من جزيرة «لارينيون» إلى منطقة أخرى في جنوب فرنسا، يستمر فيها منفاه..

وهنا تحرك ضمير الأدهل، وفكر في مخطط لإنقاذ الخطابي، والحيلولة دون وصوله إلى مصر. وكتب رسالة إلى رئيس اللجنة الفلسطينية في القاهرة، يطلب منه فيها أن يتدخل لدى الملك فاروق لكي ينقذ الخطابي عندما يصل إلى المياه المصرية، وبالضبط إلى «بور سعيد».

ادعت بعض الأوساط أنها تدخلت لإقناع الملك فاروق حتى يستقبل الخطابي.. لكن وثيقة علي الطاهر تضرب في عمق كل الروايات الأخرى، التي لم يقدم أصحابها أي دليل مادي يثبت تدخلهم في الموضوع.

كما أن أغلب الروايات المتداولة كان الغرض منها نسب فضل إقامة الخطابي في مصر إليها. في حين أن شهرة الخطابي نفسه، وعلاقاته مع شخصيات من العالم العربي والإسلامي، لعبت دورا كبيرا في اقتراح عملية استضافته على الملك فاروق.. وفعلا استجاب الملك فاروق للدعوة دون تأخير أو مماطلة، وأرسل إلى «بور سعيد» ممثلين عنه لاستقبال الخطابي فور رسو السفينة الأسترالية «كاتومبا»، ويقترحوا عليه أن ينزل أولا، ثم ألا يعود إلى السفينة نهائيا.. ولا توجد قوة تُجبر مصر على تسليمه إلى السفينة مجددا، لأنه لم يكن سجينا. وهذا ما تم بالفعل.

 

لماذا ينسب الكثيرون لأنفسهم بطولة «تهريب» الخطابي؟

كان حدث وصول الخطابي إلى المياه المصرية، يوم 27 ماي 1947، قنبلة وصلت شظاياها إلى كل الصحف.. أحس الفرنسيون بالإهانة، لأن عملية إنزال الخطابي في المياه المصرية تمت بهدوء شديد وبدون أي ضجيج يذكر..

ولم يكن ممكنا أن تطالب باريس بالخطابي، لأن الأمر لم يكن يتعلق بنقل سجين يقضي عقوبة من سجن إلى آخر.. وإنما كان الأمر يتعلق برجل قضى إحدى وعشرين سنة في المنفى، في قلب جزيرة تابعة لفرنسا، ووافقت باريس على طلب نقله إلى التراب الفرنسي، دون وجود أي نية لإنهاء محنته ومحنة عائلته.

كانت عملية نقل أسرة الخطابي غير خاضعة لقيود أمنية صارمة، فقد سُمح لأبنائه أن ينزلوا من السفينة الأسترالية «كاتومبا» ويترجلوا قليلا في محيط مرسى مدينة عدن..

وما وقع أن أحد رموز قيادات التحرير والدفاع عن القضية العربية والإسلامية، واسمه «عبده حسين الأدهل»، كان يتجول بالقرب من المرسى.. وبالصدفة فقط – وهذا أمر يؤكده محمد علي الطاهر، رئيس اللجنة الفلسطينية في مصر- دار وبينه وبين أبناء الخطابي حديث قصير، فهم منه أنهم أبناء محمد بن عبد الكريم الخطابي، وأنهم نزلوا من السفينة التي رست في عدن للتزود بالوقود، لكي يرتاحوا قليلا من وعثاء السفر.

لكي يتأكد الأدهل من هويات الأبناء، اقترح عليهم أن يرافقهم إلى الباخرة، ويلقي التحية بنفسه على الخطابي.. وهذا ما تم فعلا. تأكد لـ«الأدهل» أن الأمر يتعلق بنقل سري لأسرة الخطابي إلى جنوب فرنسا.

لم يهدأ الأدهل، وظل يفكر في طريقة لفضح عملية نقل أسرة الخطابي من المنفى المعروف – جزيرة لارينيون- إلى منفى آخر، قال الخطابي في حديثه معه إنه جنوب فرنسا.

كتب الأدهل البرقية التي نشرنا مضمونها أعلاه، وبعثها إلى محمد علي الطاهر.

لماذا الطاهر وليس شخص آخر؟ لقد كان الأدهل يدرك مكانة علي الطاهر عند الملك فاروق، واقترح عليه أن يطلب من الملك شخصيا أن يستقبل الخطابي ويوقف عملية نقله إلى فرنسا.

في بعض الروايات الأخرى، ذُكرت معلومات عن طلب الخطابي نفسه أن يتم تهريبه من السفينة. لكن هذه الروايات عارية من الصحة تماما، لأن الخطابي لم يكن يتوفر على أي وسيلة اتصال في السفينة، كما أنه لم يكن يرغب في إقحام دولة أخرى في مشاكل مع فرنسا، بسبب محنته.

وحتى الذين ادعوا التدخل لتهريب الخطابي، لم يقدموا أي دليل مادي على علمهم بخبر نقل الخطابي وأسرته، ولم يعلموا بالأمر إلا عندما نشرت الصحف المصرية أن الملك فاروق استقبل الخطابي ومنحه حق الإقامة في مصر.

وهناك روايات أخرى تقول إن الخطابي وضع السلطات المصرية أمام الأمر الواقع عندما غامر بمغادرة السفينة، ورفض العودة إليها. وهذه الرواية تكذبها رسالة علي الطاهر.

لم تدو رصاصة واحدة، ولم تحدث أي مواجهات أثناء استقبال الخطابي.. فالأمر لم يكن هروبا، بقدر ما كان خطة محكمة ومفاجئة.

إذ إن الخطابي لم ينزل مع أسرته من السفينة عندما وصلت إلى «بور سعيد»، وإنما صعد إليها مبعوث من الملك فاروق شخصيا، واقترح عليه النزول، أمام أنظار الفرنسيين المكلفين بمرافقة أسرة الخطابي في الرحلة. ولم يعد الخطابي نهائيا إلى السفينة، وبقي في بور سعيد لأيام، أدلى خلالها بتصريحات للصحافة المصرية والدولية، ولم يغادر في اتجاه القاهرة، إلا بعد أن أصبح خبر استقراره في مصر معروفا. وهذا يبعد شبهة «الفرار»، أو «التهريب» عن الخطابي وعن الملك فاروق أيضا.

لقد كان الأمر يتعلق بفراغ قانوني. المصريون لم يكونوا مجبرين على إعادة الخطابي إلى السفينة، وفرنسا كانت تدرك عواقب التدخل في الشأن المصري، وقررت ألا تطوي الموضوع، لكن أن تركب عليه، خصوصا وأن علاقتها بالسلطان سيدي محمد بن يوسف، بعد رحلة الأخير إلى طنجة في أبريل من السنة نفسها -1947- وخطابه هناك، جعلت العلاقة تزداد سوءا.

 

رسالة الطريس.. هكذا وصل للمغرب خبر حلول الخطابي بالقاهرة

يوم الرابع من يونيو 1947، بعث عبد الخالق الطريس، وهو أحد أهم مؤسسي الحركة الوطنية المغربية، وأدى ضريبة نشاطه السياسي باختيار مصر منفى له، رسالة من القاهرة إلى تطوان، يذكر فيها خبر وصول محمد عبد الكريم الخطابي.. ولم يكن قد مضى على وصول الخطابي وقتها إلى القاهرة، سوى أربعة أيام فقط.

ذكرت بعض المصادر أن الطريس قد تكون له يد في «تهريب» الخطابي إلى القاهرة، لكن الحقيقة أن الطريس لم يلعب أي دور تاريخي في العملية، لكنه كان أول من رحب، باعتباره مغربيا، بوصول الخطابي إلى مصر، في وقت كانت فيه العاصمة المصرية تؤوي عددا مهما من الشخصيات المغربية، بينها الطريس نفسه وعلال الفاسي، وعدد من الطلبة المغاربة في مختلف التخصصات.

ولضمان نجاح نزول الخطابي في هذا الجو، كان لا بد أن يتم الترحيب به أولا من الشخصيات المغربية المقيمة في مصر، وعلى رأسها الطريس.

ورسالة الطريس إلى عائلته وأهله من الوطنيين في النضال، جاءت في هذا السياق.

كان الطريس يعلم أن فرنسا سوف تتعامل بحساسية مع مغادرة الخطابي للسفينة في ميناء «بور سعيد»، إذ إن الأمر في النهاية يُعتبر فرارا من «الجبرية» التي فرضتها عليه فرنسا منذ ماي 1926.. لذلك ضَمَّنَ رسالته معلومة غاية في الأهمية.

وهذه المعلومة مفادها أن محمد بن عبد الكريم الخطابي، وهو لا يزال في السويس، ولم يغادرها بعد إلى القاهرة، أدلى بتصريح إلى الصحافة المصرية، وتناقلته صحف عربية أخرى على نطاق واسع. حدث هذا يوم 30 ماي 1947، وقال بالحرف:

«أؤيد سلطان المغرب في الموقف الذي اتخذه، وإني خادمه المطيع».

واللافت للانتباه أن أخ الخطابي الأصغر، واسمه مُحمد بن عبد الكريم أعاد الإدلاء بالتصريح نفسه للصحافة المصرية في اليوم الموالي، وأدلى لوكالة الأنباء المصرية بالتصريح التالي:

«وسوف نبقى مخلصين لاستقلال بلادنا، كما سوف نبقى مخلصين لجلالة السلطان، الذي اطلعنا على خطابه في طنجة بطريقة غير مباشرة».

هذه الجملة بالذات، نقلتها صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية عن الوكالة المصرية للأنباء، وترجمتها إلى الفرنسية، يوم 2 يونيو، وتسببت في أزمة «مدوية» في أوساط سياسيي فرنسا.. إذ يفهم منها أن الخطابي لا يمكن أبدا استعماله من طرف الفرنسيين لإضعاف السلطان سيدي محمد بن يوسف، الذي كان وقتها في قمة أزمته مع فرنسا، بسبب دعمه للحركة الوطنية.. وما زاد من تأزيم العلاقة بين السلطان وفرنسا، خطابه الأخير أثناء الزيارة الشهيرة إلى طنجة، في أبريل 1947، أي قبل مغادرة الخطابي لمنفاه الأول بجزيرة «لاريينيون».

رسالة الطريس إذن، أول إخبار يصل إلى المغرب بخصوص كواليس استقرار الخطابي في مصر، وترحيب الملك فاروق به.. لكن التفاصيل الأخرى، لم تظهر إلا بعد أن استقر الخطابي في القاهرة، وأحاط به جيل كامل من الطلبة العرب، والمعجبين بنضاله ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي.. واتُهمت مصر في فترة من الفترات، بسرقة هذا الرمز النضالي.. حتى أنه اعتُبر أحد رموز مقاومة الاستعمار في القرن العشرين.

 

وثيقة بريطانية: الخطابي لم يكن يعلم بمخطط «تحريره» من الفرنسيين

طالما تساءل المصريون الذين اهتموا بقضية إقامة محمد بن عبد الكريم الخطابي في القاهرة، عن كواليس وصوله إلى مصر..

وكان مصدر هذا الاهتمام أن الخطابي حظي بتقدير كبير من الملك فاروق، لكن عندما انقلب عليه الضباط الأحرار وأعلنوا قيام الجمهورية العربية المصرية، حظي الخطابي مجددا بالتقدير نفسه من جمال عبد الناصر..

كيف استطاع الخطابي أن يجمع بين تقدير الملك فاروق له، وعلاقته الودية مع جمال عبد الناصر؟ هذا هو السؤال الذي طالما ردده مثقفو مصر..

كان صيت بطولات الخطابي ضد الاستعمار الإسباني، ثم الفرنسي ما بين سنتي 1920 و1926، قد وصل إلى مصر، ومنها إلى الدول العربية.. لكن بعد قرار السلطات الفرنسية نفي الخطابي في ماي 1926، بعد استسلامه، جعل قضيته تحظى بتعاطف أكبر.

تقول المصادر الفرنسية الرسمية إن محمد بن عبد الكريم الخطابي تقدم إلى مصالحها بطلب رسمي، بداية 1947، يطلب فيه صراحة أن يتم السماح له بمغادرة جزيرة «لارينيون» التي قضى فيها عقدين من الزمن، وأن يُنقل إلى فرنسا..

لم يطلب الخطابي إذن أن يُطلق سراحه، ولم يستعطف فرنسا لكي ترفع عنه قرار نفيه من المغرب، كما ادعى بعض مثقفي فرنسا في نهاية الأربعينيات.

هل كان الخطابي يعرف بموضوع التخطيط لتهريبه عندما يصل إلى مصر؟

الجواب عند السفير البريطاني في القاهرة. فهذا الأخير كانت لديه شبكة علاقات واسعة. ومباشرة بعد انتشار خبر استقرار الخطابي في مصر، وعناية الملك فاروق به وبأسرته، تقصى السفير البريطاني الموضوع، وبعث برقية عاجلة إلى لندن جاء فيها ما مفاده أن «الأمير لم يكن في نيته أبدا النزول بمصر. ولكن ممثلين مصريين ومغاربة صعدوا إليه، وكانت النتيجة أن غادر الباخرة في بور سعيد».

لم يكن السفير يعرف أي تفاصيل أخرى عن القضية، وإلا لسجلها في المراسلة السرية إلى وزارة الخارجية البريطانية. لكن شهادته هذه، تؤكد أن الخطابي لم يعرف أي تفاصيل عن عملية تهريبه من قبضة الفرنسيين، الذين فرضوا عليه إقامة جبرية منذ استسلامه..

ادعى الكثيرون أنهم شاركوا في عملية تحرير الخطابي، أو أنهم لعبوا دور الوساطة بينه وبين الملك فاروق.. حتى أن هناك صحفا مصرية نشرت روايات كثيرة في الموضوع. وأغربها ما ادعاه أحد المصريين كان يوقع مقالاته باسم «أبو حمدين»، حيث قال إن مخططا قد وضع للتعرض للخطابي في السفينة، وإقناعه بالنزول منها عندما تصل إلى بور سعيد، وعن إقدام كاتب المقال على تقديم رشوة إلى أحد مسؤولي طاقم السفينة، لكي يؤخر انطلاقها إلى أن يغادرها الخطابي وأفراد عائلته.

كاتب المقال ادعى أنه كان يعرف بأمر نقل الخطابي، وتوقف السفينة «الفرنسية» في مصر. لكن الحقيقة أن السفينة لم تكن فرنسية، وإنما أسترالية، حجزت فيها السلطات الفرنسية لعائلة الخطابي، والموظفين المكلفين بتأمين نقلهم. ولم يتسرب خبر نقل الخطابي نهائيا إلى أي جهة. حتى أن مسؤولين فرنسيين كبارا لم يكن لديهم أي علم بالموضوع. ولم تكن هناك أي تمثيلية لمثقفي العالم العربي في جزيرة «لارينيون»، لكي ينقلوا خبر مغادرة الخطابي وأسرته للجزيرة. وهكذا فإن مسألة التصدي للسفينة، والتنسيق لاختراقها وإنزال الخطابي منها، يبقى مجرد ادعاء تاريخي لا أساس له.

 

 

فرنسا ركبت على «تحرير» الخطابي للتشويش على محمد الخامس

كان الأمر أشبه بفضيحة سياسية. ما معنى إذن أن يغادر شخص تفرض عليه فرنسا الإقامة الجبرية في منفى بعيد عن وطنه، سفينة تحرسها حكومة فرنسا لنقله من جزيرة «لارينيون» إلى التراب الفرنسي، في قناة السويس، ولا يعود إليها نهائيا!

لو أرادت فرنسا أن تُحدث أزمة سياسية مع الملك فاروق بسبب استقباله للخطابي، لحدث هذا.. لكن الواضح أن من كانوا يتخذون القرار في قصر الإليزيه، ارتأوا أن يتركوا الأمر على حاله، وأن يدعوا الخطابي يعيش في بيئة جديدة، وهو الذي انفصل عن محيطه منذ 1926، عندما خاض آخر معركة له مع جيش فرنسا، وأتعب الجيش الإسباني وألحق به الهزائم المتتالية خلال حرب الريف.

ادعى بعض المؤرخين أن الخطابي نزل في مصر بإذن من السلطات الفرنسية، لكن المعطيات التي نتوفر عليها في هذا الملف، تؤكد أن فرنسا تلقت مفاجأة صادمة عندما غادر الخطابي وأبناؤه السفينة ولم يعد إليها، وارتبكت القيادة الفرنسية لساعات، قبل أن تقرر عدم متابعة الموضوع..

لكن سياسيين فرنسيين كانوا يدركون مدى شعبية محمد بن عبد الكريم الخطابي، ومدى شهرته في الأوساط العربية.

كان المجتمع المصري، قد تابع خطاب السلطان محمد بن يوسف التاريخي من طنجة في أبريل 1947.. حتى أن مثقفين مصريين قد أبدوا إعجابهم بموقف السلطان، وبات معروفا في الأوساط المصرية أن سلطان المغرب يعارض الحماية الفرنسية، ويطالب باستقلال بلاده.. وهناك فريق آخر من مثقفي مصر، كانوا يعرفون مسبقا مواقف السلطان سيدي محمد بن يوسف، بفضل الدور الذي لعبه محمد بن الحسن الوزاني في القاهرة منذ 1942، لإثارة موضوع استقلال المغرب في اجتماعات جمعية الأمم المتحدة، وهو ما شكل إحراجا لفرنسا..

وهكذا فإن الخطابي جاء إلى مصر في سياق، كانت فيه شعبية السلطان سيدي محمد بن يوسف في قمتها، ولم يكن مطروحا لديه، ولا لدى الذين احتفوا به واستقبلوه، أن يشوش على القضية المغربية..

لكن فرنسا روجت فعلا لهذا التحليل، للإيقاع بين الخطابي والقصر، وبينه وبين الوطنيين الذين يعتبرون السلطان رمزا لوحدة الأمة واستقلالها.

ومن خلال ما كان يُنشر في الصحافة الفرنسية في تلك الفترة، فقد بدا واضحا أن الأمر يتعلق بحملة مضللة ضد المغرب، وضد السلطان محمد بن يوسف شخصيا.. إلا أن المثقفين الفرنسيين العارفين بخبايا القضية المغربية، كانوا مدركين أن علاقة الوطنيين بالقصر الملكي منفصلة تماما في سياقها عن علاقة الوطنيين المنفيين بالخطابي، الذي كان وقتها يحظى بشعبية كبيرة في أوساط مناصري التحرر في العالم الإسلامي..

والدليل أن إقامة الخطابي في القاهرة، سواء أيام الملك فاروق، أو أيام جمال عبد الناصر، لم تكن لتخلو نهائيا من أفواج المعجبين والمناصرين من مختلف الدول الإسلامية، فقد كان يأتي إليه ممثلو طلبة باكستان، وممثلو طلبة مصر، ويناقشون جميعا ضرورة مغادرة القوى الاستعمارية كافة الدول الإسلامية.. حتى أن صيت الخطابي وصل إلى «تشي غيفارا»، الذي اعتبر نفسه مُعجبا كبيرا بإنجازات حرب الريف والوقوف في وجه الآلة الاستعمارية الفرنسية والإسبانية.

 

ذكريات من زمن الوصول إلى مصر بعيني ابنة الخطابي

سبق أن انفردت «الأخبار»، بنشر مذكرات عائشة الخطابي، الابنة الصغرى لزعيم ثورة الريف، ضد الاستعمار الإسباني.

عائشة الخطابي وُلدت في جزيرة «لارينيون» التي نُفي إليها والدها المقاوم في ماي 1926، وفي ماي سنة 1947، عندما طلب والدها من السلطات الفرنسية نقله من الجزيرة إلى التراب الفرنسي – لدواع صحية كما أفادت بعض المصادر لـ«الأخبار»- لم يكن عمرها وقتها يتجاوز ست سنوات.. لكنها تتذكر تفاصيل وصول العائلة إلى «بور سعيد»، ونزوله ليلا من السفينة، ومشهد «العساكر» المصريين الذين طوقوا الباخرة بأمر من الملك فاروق، لتأمين نقل الخطابي وأفراد أسرته.

طلب أنصار قضية محمد عبد الكريم الخطابي، باعتباره رمزا للثورة ضد «الاحتلال الأجنبي للمنطقة العربية»، أن يوقف الملك فاروق عملية نقل الخطابي وأسرته، عندما تصل الباخرة التي تقله إلى مصر.

وفعلا هذا ما وقع. تحكي عائشة الخطابي في تسجيل، تنفرد به «الأخبار»: «عندما وصلنا إلى مصر، لن أنسى أبدا مشهدا لازمني طيلة حياتي. لم يكن سني وقتها تتجاوز خمس سنوات، وكنت أرى والدي على سطح السفينة، وذهبتُ قربه وأمسكتُ بطرف ثوب جلبابه، وكان وقتها يتحدث إلى جنود مصريين صعدوا إلى السفينة. لم أكن أفهم ما يدور بينهم، لكن والدي كان يأخذ بيدي ويحاول أن يأخذني معه لكي ننزل جميعا من الباخرة الفرنسية. لكنني كنت أبكي وأتوسل لكي نبقى في السفينة، إذ لم أكن أبدا أرغب في مغادرتها. والسبب هو الألعاب التي كنت أتوفر عليها هناك ولم أشأ التخلي عنها.

أتذكر والدي وهو يُقنعني بأن أنزل معهم من السفينة، وتلقيتُ وعودا بأنني سوف أحصل على المزيد من الألعاب عندما أرافقهم. لم أكن أعي وقتها أن حياتي الثانية كانت على وشك أن تبدأ. حياة في كنف المصريين، وبرعاية خاصة جدا من الملك فاروق».

وعن علاقة الخطابي بالملك فاروق، الذي أبان عن موقف شجاع، خاطر فيه بعلاقة بلاده مع مصر، عندما سمح للخطابي بالبقاء في مصر، وتغادر السفينة إلى فرنسا بدونه، تقول عائشة الخطابي:

«أتذكر جيدا في إحدى المرات، أن والدي طلب وجبة «البيصارة» على الغذاء. وهي وجبة ريفية متواضعة يتناولها فقراء الريف وأغنياؤه أيضا على السواء، لكنه لم يخبر العائلة نهائيا أنه سوف يستقبل الملك فاروق.

وما وقع أننا كنا نلعب، ونحن صغار، في حديقة المنزل، إلى أن لمحنا الملك فاروق يتمشى في الحديقة، متجها إلى مكان إقامة والدي. لكن الموقف الطريف حدث عندما جاء والدي لكي يتحدث مع والدتي وبقية النساء، عن الضيف. ولا أنسى كيف أن والدتي كانت غاضبة وبدأت تحتج، لأن الغذاء الذي تم إعداده لا يليق بمقام ملك مصر. لكن جواب والدي كان عجيبا، فقد قال لها: إن الملك فاروق لو كان يريد اللحم والمشوي والأطباق الفخمة لأكلها في قصره، لكنه ترك كل ذلك وجاء عندي. وأنا غذائي هو «البيصارة».

وانصرف والدي بعد أن حسم النقاش. أذكر أيضا أن تلك الزيارة لم تكن الوحيدة للملك فاروق، فقد كان يزور والدي بين الفينة والأخرى، كما أن سفراء وشخصيات مهمة كانوا يزورون والدي باستمرار، وكان محافظا دائما على فلسفته في الحياة. والدي لم يكن يحب الحياة المترفة والطاولات العريضة والوجبات الفخمة، حتى في لباسه كان دائما يميل إلى البساطة، بل إن بعض الهدايا الفخمة التي كانت تقدم إليه من بعض الدول أو الشخصيات المرموقة، كان لا يلمسها، ويتبرع بها للطلبة المسلمين الذين كانوا يتابعون دراستهم في القاهرة».

قم بتنزيل تطبيق الأخبار بريس: App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى