
في أغلب الجرائم البشعة، ابحث عن “الذهني”، وفي قضية سفاح ابن أحمد كشفت التحقيقات الأولية التي باشرتها المصالح الأمنية، أن السفاح يعاني من اضطرابات نفسية عميقة، وسبق أن أحالته سلطات المدينة على مستشفى الأمراض النفسية والعقلية ببرشيد، عدة مرات على متن سيارة إسعاف، مصحوبا بعناصر القوات المساعدة، وبناء على توجيهات ومراسلات مسجلة، إلا أنه سرعان ما يخلى سبيله بعد أن يتبين للقائمين على المستشفى أن الرجل المحال عليه لا يحمل أعراض “الحمق”، خاصة وأنه من حفظة القرآن الكريم، على الرغم من سوابقه في السلوك العدواني تجاه الجيران والأصدقاء والعديد من أبناء المنطقة، وهو ما جعل السلطات المحلية تلجأ في أكثر من مناسبة إلى مستشفى برشيد لجس نبض طبيعة اضطراباته الذهنية، لكنه يكتفي تارة بتناول أقراص مهدئة أو يخلى سبيله ويعود على متن نفس سيارة الإسعاف إلى قواعده سالما.
جريمة ما يعرف بسفاح ابن أحمد، كشفت أيضا عن سوء تدبير ملف الجنوح الذهني، خاصة في ظل مقاربة التهجير، حيث تعمد السلطات أحيانا إلى إجلاء الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية حادة أو مزمنة إلى هوامش المدن أو إلى مدن مجاورة، كأنها تتخلص من كائنات غير مرغوب فيها أو نفايات “بشرية” مقلقة وخادشة للمشهد العام للمدن.
في ظل هذا الوضع يتجدد الحديث عن الصحة النفسية خاصة أمام تنامي الجرائم البشعة التي تتعدى التصفية الجسدية إلى التنكيل بالجثث. بل إن هذا النوع من الجرائم التي يكون أبطالها من “خريجي” أوعابري المصحات النفسية تسائلنا من جديد حول ضرورة “أنسنة” الصحة الذهنية وإعادة النظر في التعاطي مع هذا الموضوع بالجدية المفروضة بعيدا عن الاستخفاف الذي تتولد عنه الكثير من المواجع.
يختفي مستشفى الأمراض العقلية ببرشيد من الأذهان، لكنه يظهر فجأة في صفحات الأخبار وعلى منصات التواصل الاجتماعي، بهروب نزيل أو غياب طبيب أو جرم يقترفه عابر سبيل في هذا المرفق.
في الملف الأسبوعي لـ”الأخبار” نتوقف عند مستشفى غمر مدينة وقام بطلائها بصباغة القلق الذهني، فقط لأن المستعمر الفرنسي اختارها لتكون أرض علاج المختلين ذهنيا، حين كان أولياء الله الصالحين ملاذا لمن اختلت عقارب أذهانهم.
سيدي فرج قبل برشيد.. حكاية مرفق يعالج مرضاه بالأغلال
يرجع تاريخ الطب الذهني في المغرب إلى عهد الوطاسيين، وفي زمن السلطان أبو يوسف يعقوب، تم إنشاء “ماريستان” سيدي فرج بفاس في حدود سنة 1480، ثم قام أبو عنان المريني بتجديده وإحداثه ليتمكن المرضى النفسانيون من تجاوز حالات الانفلات الذهني التي تنتابهم.
لكن الطبيب الفرنسي روجيه لو تورنو، في دراسة حول “الاعتقال والمرض الذهني” يقارن بين السجن ومارستان سيدي فرج، فيقول: “مستشفى فاس الذي يسمى المارستان، كان يطلق عليه اسم سيدي فرج، وكان يتألف من غرف صغيرة تدور بعرصة. وكانت سلاسل الحديد مثبتة في سقف الغرف تربط هؤلاء المرضى ليظلوا هادئين، كانوا، في أول الأمر على الأقل، يتمتعون بشيء من قوتهم، يقضون بعض الوقت في الصراخ”. وهو الطرح ذاته الذي أشار إليه أبو علي الحسن الوزان الفاسي والذي عين عدلا بمستشفى سيدي فرج على عهد الوطاسيين وعمره لا يتجاوز العشرين سنة.. حين تحدث عن المارستان وعما أسماه “العلاج بالأغلال” حيث يقول: “قد يحدث أن يقترب أحيانا أحد الغرباء من هذه الغرف، فيناديه المجانين ويشكون له استمرار احتجازهم في السجن، رغم شفائهم من مرضهم”.
وفي السياق نفسه، ومثلما فعل لو تورنو من قبله، يتحدث المؤرخ العبدي، عن المقاربة الأمنية في العلاج، في مستشفى مكناسة الزيتون، ويقارن بين “المعتوهين” والمساجين، كما يتحدث عن مارستان مراكش الذي كان جناحا من السجن، “في القرن السادس عشر، بنى مارستان في مراكش قرب سجن، وسرعان ما صار السجن جزءا من المرستان”.
وقد جرى تعزيز هذه الوضعية التي تشير إليها النصوص التاريخية المختلفة، مع دخول الاستعمار إلى المغرب، حيث بدأت التقارير المختلفة تؤكد ما ناقشته النصوص القديمة، وجرى الحديث على نحو مباشر وصريح عن كون المارستانات مجرد سجون للمرضى، دون أن تكون على شكل مؤسسات استشفائية. ولعل تقرير سالومون لفوف وبول سيريو حول مستشفى سيدي فرج يؤكد ذلك: “بصريح العبارة هو سجن للحمقى، أكثر منه مشفى، إذ لا يتلقى المرضى النازلون فيه أي علاج، هناك أغلال تربطهم من الأعناق، وإلى جانبهم ينطرح مرضى من مختلف الأعمار يعانون قلة اللباس والأكل وهم مكبلون”.
لكن بعض الروايات تشير إلى أن “ماريستان سيدي فرج الذي يعد من أقدم المستشفيات بالعالم العربي، مكن العديد من المرضى من العلاج بطريقة جديدة، تمثلت في العلاج بالموسيقى والطيور التي كانت تبني أعشاشها وسط شجر حديقة المستشفى”. اليوم لا أثر لهذه المصحة التي كانت تتواجد بالمدينة القديمة لفاس على بعد أمتار من القرويين، وتم تحويلها إلى قيسارية وسوق للحناء.
حين كان مستشفى الأمراض الذهنية يحتل نصف مدينة برشيد
يرجع تأسيس مستشفى “الرازي” للأمراض العقلية ببرشيد، إلى سنة 1918، أي بعد عشر سنوات على احتلال برشيد، من طرف القوات الفرنسية في إطار التوسع خارج الدار البيضاء.
ارتبط اسم مدينة برشيد بهذا المستشفى الكبير الذي كان يحتل المرتبة الأولى إفريقيا، إذ بلغت طاقته الاستيعابية حوالي 2000 سرير، وحقق عبر سنوات إشعاعا جهويا ووطنيا وقاريا، وكانت مساحته تضم أكثر من 52 هكتارا، تتسع لـ27 جناحا، وكل جناح يؤوي ما يقارب المائة نزيل ينحدرون من جل المدن المغربية، وكان من بين النزلاء كذلك بعض العرب من الجزائر ومصر والعراق. وقد لقي هذا المستشفى شهرة وطنية ودولية، حين كان يعمل به مئات الموظفين والمستخدمين وطاقم طبي جله من فرنسا. بل إن جزءا من اقتصاد المدينة كان يعتمد على هذا المستشفى.
لم يكن “الرازي” مجرد مأوى للذين اختلت عقارب دماغهم، بل كانت به مختبرات للتحليلات والتشريحات الطبية المتطورة. وكان مجهزا بجميع التجهيزات والآليات اللازمة، أما النزلاء فكان الاعتناء بهم من أولويات الإدارة، “صيفا كانت لهم بذلة خاصة تقيهم الحر وشتاء لهم بذلة تجلب لهم الدفء. وكانت بالمستشفى تدفئة مركزية تتيح الماء الساخن من أجل الاستحمام، وفرن لطهي الخبز من أكبر الأفران بالمدينة، أما المطبخ فمساحته كانت شاسعة وبه أحسن المأكولات، كما كان يوجد بالمستشفى ثلاثة أقفاص كبيرة لتربية مختلف أنواع الطيور. وكانت توجد كذلك سينما يلجها النزلاء المرضى من أجل الترفيه عن النفس، ومقصف خاص بالنزيلات وحجرة للخياطة والحياكة. كما كان يوجد داخل المستشفى مسبح ونهر اصطناعي به العديد من الأسماك الملونة، التي جلبها الدكتور المصري سعد راغب الإسكندري من ألمانيا.
كان المستشفى معلمة حقيقية بالمدينة وقد كان يشتغل به ما يناهز 500 موظف وموظفة وكان يشكل سابقة في عمل المرأة المغربية آنذاك في قطاع الطب النفسي، كما كان يتواجد به على الأقل خمسة أطباء نفسانيين تنوعت جنسياتهم مثل الدكاترة الفرنسيين بواترو وامالام وبيرتي وكليما والطبيب الإسباني الدكتور إربانو والألماني ديرمان، والمصري سعد راغب فضلا عن طبيب يهودي يدعى سلطان وآخرون.
برشيد يداوي.. حين ارتبط العلاج النفسي بحاضرة أولاد احريز
يقول الجيلالي طهير الباحث في تاريخ منطقة أولاد احريز، إن حاضرة المذاكرة وأولاد احريز برشيد، ظهرت انطلاقا من القصبة التي اتخذها قواد أولاد احريز من أسرة برشيد مقرا لسكناهم، ومنها كانوا يحكمون ثلاث قبائل هي قبيلة أولاد احريز، حيث توجد المدينة، وقبيلة المذاكرة، وقبيلة أولاد علي.
“قصبة برشيد، التي لاتزال قائمة، خلفت قصبة أخرى شهيرة بأولاد احريز، هي قصبة مرجانة التي بناها القائد كريران الحريزي، الذي كان يحكم كل بلاد تامسنا في عهد مولاي سليمان”، وكما ذكر الناصري في “الاستقصا”، فإن محمد بن الطيب العلوي الذي ولاه السلطان مولاي عبد الرحمن على تامسنا ودكالة حوالي سنة 1240هـ هو الذي هدم قصبة مرجانة، وهو الذي ولى أحد أجداد أسرة آل برشيد قائدا على إخوانه كما جاء في كتابه: “مدن وقبائل المغرب: الدار البيضاء والشاوية”.
كانت قصبة برشيد في الأصل عبارة عن حصن، يحيط به سور مرتفع مستطيل الشكل، مبني بالتراب، يوجد بداخل السور سكنى القائد، وتعتبر قصبة برشيد واسعة بالمقارنة مع القصبات الأخرى بحيث تحتوي على مسجد بداخلها.
وقد عرفت مدينة برشيد نموا واضحا في أواخر القرن التاسع عشر، حيث وصل عدد سكانها قبيل الاحتلال الفرنسي إلى حوالي 2000 نسمة، وشكلت بهذا العدد مع قصبة سطات وقصبة بن احمد أهم المراكز الحضرية بالشاوية بعد مدينة الدار البيضاء.
تأثرت مدينة برشيد بأحداث وتقلبات عديدة، ففي سنة 1905 تمكن ثوار الشاوية من اقتحامها وتخريب أجزائها، وفي صيف 1907 رابطت بها محلات المجاهدين المحاصرة للفرنسيين بالدار البيضاء، “وبعد قتال دام حوالي خمسة أشهر تمكن جيش الاحتلال الفرنسي من دخول مدينة برشيد واحتلالها بدون قتال صباح 13 يناير 1907، إذ كان سكان القصبة والمجاهدون قد انسحبوا منها قبل وصول جيش الاحتلال”، كما جاء في نفس المصدر السابق.
لقد شهدت هذه المدينة في مرحلة التأسيس تحولا باحتضانها لأكبر مستشفى للأمراض العقلية على المستوى الوطني وأضحت مدينة غير عادية، حتى أصبحت دلالتها الاسمية تحمل في مضمونها شيئا من الجنون. حيث ارتبطت في تطورها الاقتصادي والاجتماعي بمستشفى الأمراض النفسية والعصبية ما جعل الكثيرين يعتقدون أن “برشيد” اسم مستشفى وليس اسم مدينة.
ثكنة تأديب الجنود المتمردين تتحول إلى مستشفى ذهني
خلال تواجد القوات العسكرية الفرنسية في برشيد طرحت إشكالية التطبيب، فتم إحداث مستشفى قروي متنقل بعين المكان، لمعالجة المصابين والمرضى من الجنود والضباط، في انتظار نقلهم للعلاج بمستشفيات فرنسا.
وبعد مرور سنتين، أي خلال سنة 1910، كلفت الحكومة الفرنسية طبيبين مختصين في الطب العقلي، وهما لوروف وسيرو، بزيارة ميدانية لأهم المدن المغربية وسجونها لإعداد تقرير عن المجانين بالمغرب، فتأكد لهما بأن خدمة المرضى وعلاجهم بالمعنى الطبي منعدمان تماما بالمغرب. وقد عاين الطبيبان خلال البحث وجود ثلاثة أنواع من المجانين، وتم تصنيفهم كالتالي: الحمقى المهادنون الذين يعيشون على التسول في الهواء الطلق، ويعتبرهم العامة أولياء صالحين، الحمقى المزعجون المحروسون في المنازل والمهددون عادة بالاغتيال من طرف محيطهم، ثم الحمقى الخطيرون المحتجزون في المارستانات والسجون.
يتحدث الباحث طهير عن البدايات الأولى للمستشفى فيقول إنه في سنة 1926، أصبحت برشيد بسكانها البالغ عددهم 718 نسمة، منهم 343 أوروبي، 171 يهوديا و 98 مسلما، تضم أول بناية عصرية لإيواء المستشفى الوحيد من نوعه المتخصص في علاج الأمراض النفسية والعصبية بالقارة الإفريقية، يغطي حوالي 43 هكتار بينما المدار الحضري للمدينة لا يتجاوز في مجموعه 48 هكتار تقريبا. “منذ البداية، عهد بإدارة المستشفى لرائد الطب العقلي بالمغرب الدكتور دي مازل، واقتصرت الخدمات الاستشفائية على مداواة المرضى الأوروبيين دون سواهم. كانت النواة الأولى للمستشفى تتكون من خمسة عنابر وغرفة عمليات قبل إحداث جناح خاص بالنساء الأوروبيات، ثم شيدت دور سكنية لفائدة الطبيب رئيس المستشفى، والمدير المقتصد، والممرضين والممرضات الأوروبيات. وفي سنة 1931، أصبح المستشفى يتمتع بصفة المؤسسة العمومية ذات الشخصية المعنوية والاستقلال المالي، ويتوفر على ميزانية ملحقة بلغت مداخيلها سنة 1952 حوالي 130 مليون فرنك فرنسي”.
في تلك الفترة، شيدت عنابر جديدة مكنت من رفع القدرة الاستيعابية للمستشفى إلى 1000 سرير، قبل أن تصبح 2000 سرير، الشيء الذي مكن من توفير الخدمات الاستشفائية للمرضى الأوروبيين والمغاربة دون تمييز، فأصبح المستشفى يستقطب المرضى الذهنيين من كل ربوع المملكة.
كان يتردد على المستشفى مرضى من كل الديانات يقول صالح الإدريسي، “الماجور” الذي قضى أزيد من 42 سنة في خدمة نزلاء مستشفى الأمراض العقلية لبرشيد، الذي كان حسبه الأكبر والوحيد على مستوى تراب المملكة، مضيفا أن أسباب النزول ترجع لوجود أفراد من الجيش الفرنسي تم تجنيدهم من جنسيات مختلفة، عانوا من القهر النفسي ولم يتمكنوا من التأقلم مع الوضع الجديد فانتابتهم الرغبة في التمرد على الوضع. يقول الإدريسي وهو يعيد شريط الذكريات إلى الوراء: “أصل التأسيس عسكري قبل أن يتحول إلى فضاء يشمل جميع المواطنين بخدماته”.
أطباء من مختلف الجنسيات لعلاج مرضى من كل الأقاليم
كانت أغلب الحالات المرضية المعروضة على أطباء هذا المستشفى قد فشلت في التداوي بالطب الشعبي وزيارة الأولياء الصالحين، قبل أن يصبح علاج الإدمان على المخدرات، من أولويات هذا المرفق الصحي، حيث بلغت 7323 حالة مسجلة خلال الفترة الممتدة من 1936 إلى 1956. تم التصدي لها بواسطة طاقم طبي أجنبي على مستوى عال من الكفاءة والخبرة، مكن المستشفى من نيل شهرة عالمية وجعل منه فضاء حقيقيا للراحة والاستجمام والتداوي. على رأس هؤلاء الأطباء المختصين دوناديو أندري، بيرسون أنتوان، روبير بواترو، لاندري روني، برناردي جاكلين، اسكندر سعد راغب، سلطان آلان، مولان جون بول، راينو ادموند، كما “استورد” المغرب أطباء من رومانيا، في السبعينات، فالتحقت طبية رومانية تدعى مرينا أيلينا بيرت هاتو، للعمل رفقة زوجها بمستشفى الأمراض العقلية ببرشيد، وألفت كتابا تسرد فيه ذكرياتها.
كان المستشفى يتوفر على صيدلية، ومكتبة، وقاعة لعرض الأفلام السينمائية. وكان يسمح للنزلاء المسالمين بمشاهدة الأفلام التي يتولى عرضها المصور الخاص بالمستشفى، ومن مهام هذا الأخير أيضا إنجاز الصور الفتوغرافية التي تلصق بالملفات الطبية للمرضى.
وفي هذا الصدد يقول الأديب المغربي أحمد المديني: “حين ألتقي مع أصدقاء عرب، أفاخر بأن برشيد في فترة من الفترات كانت تضم أهم مستشفى للأمراض العقلية بالقارة الإفريقية، مما يعني أننا نتوفر على عبقرية من نوع خاص”. لكن الطبيب النفسي المغربي الدكتور عبد الله زيوزيو الذي اشتغل طويلا في هذا المستشفى وكانت زوجته مدرسة بإحدى ثانويات المدينة، لاسيما تجربته الرائدة في توظيف الفن في خدمة الطب النفسي في مستشفى برشيد، والتي ساهمت في تعزيز فهم المرضى لأنفسهم وتحسين حالتهم النفسية، مما أضفى إضافة على عمله الطبي المتميز.
مستشفى برشيد بؤرة علاج أقلقت الفرنسيين قبل المغاربة
لا يخلو السجل الذهبي لمستشفى الأمراض العصبية ببرشيد من غيوم شوشت عليه في مرحلة التأسيس، والسلطات الفرنسية وقتها منشغلة بالتوسع الاستعماري وحرب الريف. ففي سنة 1925 كتبت جريد “لومانيتي” الفرنسية أن “المستشفى الشهير لبرشيد لا يزال يثير ردود الأفعال. المرضى لم يستبدلوا ملابسهم منذ شهر ونصف، وآخرون لم تغير لهم شراشف الأسرة منذ شهرين ونصف، في الوقت الذي يمنح فيه الطبيب رئيس المستشفى أولوياته لخدمة الزبناء من المدنيين، بحثا عن الربح المادي”. وبدورها طلبت جريدة “لتريبين دي صولدا إيدي ماران” من الجنرال ليوطي وضع حد للحالة المتدنية التي يعيشها مستشفى برشيد قبل التفكير في القضاء على الثائر عبد الكريم الخطابي، وكتبت في هذا الخصوص: “لا يمكن مقارنة الخدمات الصحية بالمغرب بمثيلاتها بفرنسا. الممرض الميجور أندري فيولون يهتم أكثر بمطعمه الخاص على حساب المرضى، ومهام التمريض متروكة لجنديين فرنسيين وسينغاليين ليس لهما أية دراية بالطب”.
وفي المغرب المعاصر، تعتبر سنة 1973 محطة مفصلية في تاريخ المستشفى، أفقدته امتياز المؤسسة العامة وصفة الشخصية المعنوية المستقلة. منذ تلك الحقبة وصولا إلى لحظة سقوط الجدران واغتيال العنابر بواسطة الجرافات، ظل الشعور بالقرف ينتاب أبناء برشيد الذين يحبون مدينتهم دون مقابل تجاه الحال التعس لهذا الفضاء الذي يرمز لجزء من تاريخهم. ففي سنة 1986 توفي 26 نزيلا بالمستشفى في ظرف 23 يوما بسب البرد ونتيجة الإهمال واللامبالاة. وكانت فترات عصيبة ومرهقة بالنسبة للفقيه السي ميلود الأشهب رحمه الله، وهو الذي كان يتولى دفن أموات المستشفى على الطريقة الإسلامية. وأما اليوم، فلم يبق من مستشفى برشيد إلا الذكرى التي تقفز إلى مخيلة كبار السن في هذه المدينة التي تعبق بالتاريخ.
يقول الكاتب محمد فكار: “لقد تقلصت المساحة السالفة الذكر إلى 10 هكتارات نتيجة تقسيم الأرض إلى بقع وتخصيصها لفائدة إدارات أخرى، واقتطع منها ملعب لكرة القدم ومصالح أخرى. وأضحى الفضاء مخصصا للنزلاء المودعين من طرف المحاكم، بعد أن تآكلت التجهيزات وظهرت التصدعات والشقوق التي طالت الجدران، بينما غزت أسراب طيور الفينق المكان واحتلت الأسراب الأجنحة المخصصة للنزلاء”.
البعد الإنساني للاجئين إلى “الرازي” بغاية الاستشفاء
للمستشفى انعكاساته على الحياة داخل “الرازي” وخارجه، إذ يشير الباحث الجيلالي طهير إلى طبيعة العلاقات الإنسانية التي شكلها هذا المرفق: “نالت بعض العائلات شهرة خاصة بفضل المجانين الذين كانوا يؤدون لها خدمات منزلية، مثل عنتر بالنسبة لعائلة الريحاني، إدريس البركادي وعلي الجيكي عند الإخوة بوكريزية، مولاي ادريس عند الحطاب ولد السطاتية، خدوج عند إدريس زهير، بزيز الوجدي عند الجيلالي العثماني، لوبيز عند حميدو لمطاعي، عبد الرحمان عند المصطفى الزوراري، إلخ. ناهيك عن المجانين المتجولين صباح مساء بفضاء القيسارية، والذين كانوا أصدقاء الجميع، مثل قونوفو، البهجة، حميدة حلال العقادي، رحال، حسن الكمانجة، الرحيميني، مكتوب، المعيطيطي، علي الشيكي، بنداود وهو رجل مثقف كان من رواد مقهى بلفقيه”..
لكن لا يخلو السجل التاريخي لـ”مجانيين” برشيد من الخطورة وأحيانا من الطرافة التي تشبه النبوءة. “في مطلع الستينات قام مجنون طليق بطعن الجزار عبد السلام بن صالح الحبشي، بداخل متجره بالقيسارية وأصابه بجروح خطيرة. وفي منتصف الستينات، أعطت ممرضة يهودية، كانت زوجة طبيب يهودي يدعى إيدوار ساسان، كانت تملك سيارة صغيرة نوع “دوفين”، عبد الرحمان صاحب المصطفى الزوراري علبة سجائر أمريكية، وهو الذي اعتاد على تدخين أعقاب السجائر المرمية في الشوارع، فرفع يديه إلى السماء وقال لها شاكرا: “سيري يامدام الله يجعل راية اليهود فوق من راية المسلمين”. بعد أيام حل شهر يونيو 1967، وحصلت النكسة العربية” حسب نفس المصدر.
كان آخر نزيل أجنبي بالمستشفى، فرنسي الجنسية، يسمى “لويز. ” رجل ثقة، فريد من نوعه ولا يمكن تعويضه”، تقول صاحبة الكتاب. كان يشتغل ميكانيكي سيارات قبل دخوله المستشفى، ولما جاءت عائلته لترحيله إلى فرنسا، رفض السفر معها، وفضل البقاء في المستشفى. كان لويس يعتني بالحديقة، ويحرس الفيلا. وأثناء الليل، كان يسرح في آفاق بعيدة، ويتكلم مع القطط والكلاب، زاعما بأن قطه الأحمر له علاقة مع البيت الأبيض الأمريكي. كان لويز يربي 20 دجاجة، سقطت منها 14 دجاجة فريسة الناهبين ، فأخد فأسا وحطم شجرة التين، وهو يقول بأن اللصوص يسكنون جذور الشجرة. وأمام هذه السرقات، وزعت إدارة المستشفى 12 بندقية على الأطر الأجنبية بالمستشفى من أجل حماية ممتلكاتهم، ولم تطلب منهم في مقابل ذلك غير التوقيع على مطبوع خاص بسلم السلاح. لما توفي لويس سنة 1977، وعمره 74 سنة، كانت كنيسة برشيد مغلقة، فبقيت جثته محفوظة في مستودع الأموات إلى أن سمح قس كنيسة مدينة الدار البيضاء بدفنها بالمقبرة الأوروبية ببرشيد.
مسح بويا عمر وترحيل برشيد ومشروع الوردي يتحول إلى سراب
في يوم الأربعاء 26 يونيو 2013 بوجدة، تقدم وزير الصحة آنذاك، الحسين الوردي، أمام الملك محمد السادس، بعرض مشروع المخطط الوطني للصحة النفسية والعقلية، ويشمل هذا المخطط الوطني، بناء وتجهيز أربعة مستشفيات للأمراض النفسية والعقلية بكل من أكادير والقنيطرة وبني ملال وقلعة السراغنة، بطاقة استيعاب تصل إلى 120 سريرا لكل مؤسسة استشفائية وبمواصفات عالمية.
ويشير المشروع إلى استمرار الوزارة في إنشاء مصالح استشفائية مندمجة داخل المستشفيات، بطاقة استيعابية تصل إلى 30 سريرا بكل مصلحة. وقد بدأ العمل بأربع مصالح مندمجة بمدن بوعرفة، شفشاون، العروي وتزنيت. كما يشمل هذا المخطط إعادة تهيئة مستشفى الأمراض النفسية لبرشيد.
“يندرج هذا المشروع في إطار مبادرة “كرامة” التي أطلقتها وزارة الصحة لإخلاء بويا عمر من المرضى المحتجزين، وقالت إنها ستضع الحجر الأساس قبل متم تلك السنة لبناء وتجهيز مركب طبي واجتماعي بمنطقة بوياعمر، لاستقبال وإيواء المرضى النفسانيين والتكفل الطبي والاجتماعي بهم، كما سيستقبل هذا المركب عائلات المرضى وتقديم الدعم النفسي لهم خلال فترة إيوائهم لمدة معينة، ومن جهة أخرى سيوفر هذا المركب خدمات التأهيل وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحتضنين وتوفير فرص الشغل لهم وذلك مراعاة لظروفهم الاقتصادية والاجتماعية”. تحولت هذه الوعود إلى سراب.
في نهاية التسعينات، طرحت قضية ترحيل المستشفى من برشيد إلى منطقة الخيايطة بساحل أولاد حريز. وقتها اقترحت السلطة الإقليمية على المجلس البلدي الاتحادي المصادقة على الترحيل، غير أن المنتخبين عبروا عن رفضهم التخلص من المستشفى الذي اعتبروه جزءا من تراث برشيد. وما هي إلا أيام قليلة حتى عادوا للاجتماع من جديد في دورة استثنائية وتراجعوا عن القرار المتخذ، بعدما تبين لهم أنهم صادقوا من قبل على تصميم التهيئة الذي يلغي وجود المستشفى من الجذور. واتضح في الأخير أن العقار المرشح لإيواء المستشفى بجماعة الخيايطة غير جاهز وخارج سلطة الإقليم.
بعد فاجعة سفاح ابن أحمد سيعلن وزير الصحة والحماية الاجتماعية، أمين التهراوي، خلال جلسة الأسئلة الشفوية بمجلس المستشارين يوم الثلاثاء 29 أبريل 2025، عن انطلاق “إعداد استراتيجية وطنية جديدة للصحة النفسية والعقلية، ترتكز على بلورة برنامج شامل يأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والمؤسساتية المحيطة بالملف”.
الوزير كشف عن أرقام تعكس الواقع الصعب، إذ لا يتجاوز عدد الأسرة المخصصة للطب النفسي 2260 سريرا على المستوى الوطني، أي بمعدل لا يتعدى 6.64 أسرة لكل 100 ألف نسمة. “لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين 655، بينهم فقط 37 يشتغلون في القطاع العام. وهو رقم غير كاف إطلاقا لتلبية حاجيات السكان، خاصة مع ارتفاع نسبة الاضطرابات النفسية في السنوات الأخيرة”.