
«السيبة.. قطع الرؤوس وتعليقها على أسوار المدن، ونهب قصور أثرياء المغرب وقواده وباشواته.. كلها ملامح من تاريخ مُقبر تحيط به الكثير من المبالغات. لكن هذا لا يمنع من التأكيد على أن ما وقع في زمن السيبة، كان أليما بكل المقاييس. انقسم المغرب إلى قبائل متمردة امتنعت عن أداء الضرائب للدولة، وأخرى تكابد لحماية حدودها وسكانها من الاعتداء. بعض الذين تزعموا هذه الهجومات في فترة السيبة صنفوا على أنهم قطاع طرق، وأصبحت رؤوسهم مطلوبة لتأديبهم، حتى يكونوا عبرة لغيرهم.
المغرب كما كان في فترة حرجة من التاريخ، لم يكن يخلو من حقائق مضيئة، لكن لم يُكتب لها أن تظهر وسط الصفحة الشاسعة من السواد القاتم الذي أحاط بهذه المرحلة».
يونس جنوحي
+++++++++++++++++++++++++++++++++
الانفلات الأمني سنة 1906 بعيني صحافي إيطالي زار فاس
اسمه «لويجي برزيني»، وهو صحافي إيطالي مرموق اشتغل مراسلا وغطى أحداث فارقة خلال بداية القرن العشرين. كان هذا الصحافي مدعوا باسم صحيفته، لكي يغطي وقائع مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906. لكنه بدل أن يعود أدراجه من هناك إلى إيطاليا، قرر أن يزور هذا المغرب – في عز زمن «السيبة»- الذي تداول الأوروبيون بشأنه، واجتمعوا للتخطيط لتقسيمه في ما بينهم. وهكذا، كتب لاحقا مذكراته التي كان عنوانها: «تحت الخيمة. انطباعات صحافي إيطالي بالمغرب سنة 1906». والتي ترجمها عن الإيطالية، الباحثان المغربيان د. مصطفى نشاط ود. رضوان ناصح.
ومن أقوى ما كتبه هذا الصحافي في تعريف فترة السيبة، وتوثيق أحداثها، ما يلي:
«إن قاطع الطريق بالمغرب ليس بالخارج عن القانون، بما أنه ليس ثمة قانون. العمق بوظيفة وهو يحارب فقط عندما يصبح مهددا لمصالح المخزن ويقوم في طبيعية. يمكن لكل شخص بالمغرب أن يكون قاطع طريق، حسب قدراته. ولهذا ينقصه عنصر رهيب هو أن يكره ممن يشعر بأنه يكرهه. وللمقارنة، فقاطع الطرق في ديارنا شخص شرس دون فائدة، كأنه بهيمة مهددة ومصطادة ومطاردة، ويخرج من جرائمه الحقد الدفين الكامن في الإنسان اليائس، ويصيب من خلال ضحيته كل المجتمع الذي يلاحقه، ويصب جام انتقامه بلا هوادة عليه. إنه يحتاج إلى فريسة ليعيش ودم يتلذذ به. أما قاطع الطريق المغربي، فإنه لا يحتاج إلى ذلك، ولا تستبد به المعاناة الفظيعة التي تجعله يشعر باللؤم. وهو مجرد محترف للنهب، يمارس القتل إن كان ذلك من مصلحته – مثل صانع بسيط لمواد غذائية فاسدة-. لكنه لا يفقد هدوء الإنسان الذي يحس بتأنيب الضمير. ونحن الذين أسميناه قاطع طريق، بذريعة أن أفعاله ببلادنا تستوجب المشنقة. لكنه هنا في المغرب، فهو سيد وسنكون عادلين إذا ما حكمنا على الأشياء بمعاييرنا.
وإذا ما تصفحنا التاريخ، وجب علينا أن نشرف بلقب قاطع طريق كل رجالاتنا الكبار بالعصر الوسيط، وإلى حدود عصر النهضة وبعض الشيء في وقت لاحق، فأي مجد إيطالي لم ينتبه إلى قانون زناردللي .
شاهدنا في الأفق قرية على السهل، من بين نباتات الصبار الكبيرة الإفريقية التي تبدو بعضلات العمالقة وملامحهم، كأنها نباتات في صورة إنسان. إنها مقر إقامة بوشعيب. توقفنا هناك وتقدم المخزني الشيخ الذي كان في خدمتي وحده، باعتباره معينا من أجل مهمة سلطانية عليا باتجاه المقر على حصانه الراكض. ورجع بعد نصف ساعة إلينا مستصدرا موافقة بوشعيب على ضيافتنا، وتقدمنا بذلك نحو مقر إقامته.
تحمل القرية اسم مؤسسها؛ أي بوشعيب. كان شكلها بئيسا، وتتكون في معظمها من خيام سوداء تحيط بها زرائب وكانت بها مجموعة واحدة من أكواخ بدائية. لكنها كانت واسعة ومغطاة بالتبن. وكان المقر متضمنا لمخازن وإسطبلات وبيوت السيد. وهناك كوخ يستخدم مسجدا تحيط به نباتات كثيفة، كما أحيطت القرية بحفر خندق عميق وطويل لحمايتها من هجوم الفرسان، وكان هناك خندق ثان لحماية منزل بوشعيب. كان الصمت يلقي بظلاله على كل شيء عند وصولنا إلى القرية، التي كانت تبدو كأنها مهجورة. أعتذر عما قلت، فقد كان بها طفلان نصف عاريين بوجهين مقطبين، تمنيا لي أن يُقطع رأسي».
مغالطات تاريخية لتقارير الاستعلامات الفرنسية عن مغرب ما قبل 1912
جل تقارير الاستعلامات الفرنسية التي سبقت توقيع معاهدة الحماية، تحدثت عن انفلات أمني أدى إلى ضرورة تدخل فرنسا عسكريا. لكن هذه التقارير، إذا قورنت مع شهادات ومذكرات بعض قادة الحركة الوطنية، يظهر مدى تناقضها مع الواقع المغربي.
جاء مثلا في أحد تقارير الاستعلامات الفرنسية في الدار البيضاء سنة 1912، بمجرد تعيين موظفي القطاع الأمني التابعين للإقامة العامة في الرباط، أن فاس كانت تستدعي تدخلا ملحا للقوات الفرنسية، وأن موظفي الاستعلامات رصدوا مخططا لاحتلال المدينة من طرف القبائل الغاضبة.
في حين أن أحد أشهر رواد الحركة الوطنية، العلامة عبد الله كنون، روى في مذكراته كيف أن علماء القرويين وبينهم والده شخصيا، كانوا رافضين فكرة وصول موظفين فرنسيين محفوفين بقوات عسكرية فرنسية، في أبريل 1912، إلى قلب فاس وجمعوا كل علماء القرويين وشرعوا في استنطاقهم واحدا واحدا. ولم يكن هاجس الفرنسيين استتباب الأمن، بقدر ما كانوا يركزون على جمع معلومات عن طريق اشتغال الجامع، ومجلس العلماء الذين يتولون القضاء لفض النزاعات بين المغاربة. ولو كان هناك مخطط لاحتلال المدينة من طرف القبائل الغاضبة الرافضة لتوقيع معاهدة الحماية في مارس من السنة نفسها، لما غامر الفرنسيون بإرسال موظفيهم إلى قلب أقدس بناية في فاس، وهي جامع القرويين، واستفزاز مشاعر العلماء الذين كانت كلمتهم مسموعة.
فقد حكى عبد الله كنون أن والده لم يتقبل أن يستنطقه ضابط فرنسي، كان يدخن سيجارة في حضرة علماء القرويين، وقرر أن يغادر فاس نهائيا ويهاجر إلى الشرق بمجرد ما انتهى التحقيق معه. ولو أن مضمون تقارير الاستعلامات كان صحيحا، لأشار عبد الله كنون إلى ثورة أو تمرد ضد وضع مدينة فاس، بعد توقيع الحماية.
حسب ما سجله مؤرخون مغاربة، فإن أعيان فاس تقبلوا على مضض فكرة وجود الفرنسيين في المدينة، خصوصا بعد ما شرعت فرنسا في تأسيس الإدارات التابعة للإقامة العامة في الرباط. بل إن بعض هؤلاء الأعيان غادروا صوب الرباط لبدء مشاريع في «المغرب الجديد»، وتركوا وراءهم مدينة فاس بكل ما تحمله من تاريخ. والثورات التي سجلها المؤرخون المغاربة التي كانت فاس مسرحا لها، وقعت كلها قبل 1912، وأشهرها عندما قرر بعض رجال قبائل منطقة الناظور الانتقام من إحراق مرسى الناظور، ووجهوا أصابع الاتهام إلى تجار فاس، وأرادوا الانتقام بإحراق فاس، لولا تدخل بعض العلماء لاحتواء الوضع، وتنبيه الغاضبين إلى ما يمكن أن ينتج عن إحراق بعض المتاجر التي تحوم حول أصحابها تهمة تدبير حريق مرسى الناظور.
فاس كانت هدفا للتمرد مرة أخرى عندما أراد «بوحمارة»، الذي كانت سنتا 1899 و1900 أوج فترات نشاطه المعادي للمخزن، دخولها ليعلن استيلاءه على العرش، لكنه لم ينجح في مسعاه، واعتُقل قبل أن يصل إليها. وبما أن أغلب الروايات التاريخية تقول إن وصول المولى عبد الحفيظ إلى السلطة في فاس قادما إليها من مراكش، محفوفا بأقوى القبائل التي تزعمها المدني الكلاوي، كان نهاية لاستهداف مدينة فاس، فإن الأكيد أن الرواية الفرنسية كانت تنطوي على تناقضات كثيرة، الغرض منها لم يكن سوى الركوب على «السيبة» وتضخيم بعض محطاتها.. فهل كان الوضع أسوأ مما صورته التقارير الفرنسية، أم أن «السيبة» كانت فعلا جرحا غائرا في ذاكرة قبائل المغرب؟
قصة «الحجر الصحي» المنسي في عز «السيبة» سنة 1897
لولا مذكرات الرحالة «أرثر كامبيل»، التي صدرت سنة 1897 بعنوان «A Ride in Morocco»، لضاع بالتأكيد جزء مهم من أرشيف مغرب ما بعد وفاة المولى الحسن الأول. إذ إن هذه الفترة جسدت عز «السيبة» والانفلات الأمني الذي عرفته البلاد، خصوصا ناحية مدينة فاس، ومنها إلى بقية مناطق المغرب الأخرى.
هنا ننقل مقطعا حصريا من هذه المذكرات، يتناول حقيقة صادمة، عن حجر صحي فرض في فترة السيبة، إذ إن الانفلات الأمني تعمق مع انتشار مرض الكوليرا. وبعض الأجانب الذين زاروا المغرب وقتها، كتبوا عن تعرض قرى بأكملها للنهب على يد رجال قبائل منافسة، مستغلين فترة انتشار المرض، والتي تزامنت بدورها مع المجاعة..
جاء في هذه الشهادة:
«الفرنسيون خلال فترة الكوليرا، قاموا بإرسال الأطباء لغاية علمية. حيث أفلحوا في علاج الأوروبيين في طنجة ونجحوا في هذا الأمر. لكن في أعين المغاربة، فإن تلقي هذا العلاج يعد شركا بالله. وأن الأطباء لا بد وأنهم يتعاونون مع الشيطان ويحاولون الاعتراض على مشيئة الله.
الرجل المسن في الجبل كان قد سمع من قبل بهذه الأمور، وأنا كنتُ «الكافر» الأول الذي مر بقربه منذ أن تم فرض الحجر الصحي. عندما رآني نهض من مكانه ووقف، وبدأ يسبني ويصرخ باسم الله والرسول.
قال «مورينو»:
– أخبرتُه أن 16 منا ماتوا. ومن قبيلته هو مات ثلاثة آلاف، وثلاثة آلاف أخرى في طنجة وفي تطوان. لأن الأطباء قالوا إنه يجب غلي الماء قبل شربه والاستحمام باستمرار، ونحن التزمنا بهذا الأمر وهم لا.
– وبماذا أجابك؟
– إنه رجل أحمق. لقد قال لي إن الله إذا أراد أن يموت شخص ما أو أن يعيش، فإن مشيئة الله هي التي سوف تكون. والأطباء والماء المغلي ليسوا إلا شرا».
هذا المغامر البريطاني، كتب في هذه المذكرات أنه رافق قنصل بلاده، أي القنصل البريطاني الذي كان يقيم في طنجة، لكي يتفقدا معا حالة بعض المناطق القريبة من المنطقة الدولية، ليقف القنصل بنفسه على حقائق تعرض بعض القرى التي أهلكها الوباء للسرقة على يد قبائل أخرى، كان هدفها تأمين قوت سكانها في عز المجاعة.
المخزن لم يقف مكتوف اليدين. ولم يغفل الكاتب هنا أن يشير في بعض مقاطع مذكراته إلى أن كبار موظفي المخزن والوزراء بذلوا جهدا كبيرا لفرض الأمن في بعض المناطق، وتخفيف ما نزل ببعض الأهالي، الذين فقدوا الكثير من الرجال بسبب الوباء، وهو ما جعلهم عرضة لهجوم قبائل أخرى، بسبب عداوات قديمة.
هذه العداوات، كان محركها الأبرز هو الصراع حول حدود النفوذ الترابي، والسيطرة على الطرق الرئيسية، خصوصا تلك التي كانت تربط إما فاس بمراكش، أو فاس بالصويرة والجديدة، حيث المنفذ البحري الذي أجج أطماع قبائل شهيرة، لكي تسيطر على العائدات المالية من وراء فرض إتاوات على العابرين.
وهكذا، فقد تدخل المخزن من خلال موظفيه، لفرض هيبة الدولة في كثير من المناسبات، وفرض عقوبات على القبائل، أو الزعماء الذين أعلنوا العصيان.
الشريف الريسوني يحكي كيف تساقطت الجثث بعد إعلانه العصيان
أحد أبرز وجوه مرحلة السيبة بلا مُنازع هو الشريف الريسوني. فقد كُتب عنه في الكتابات المحلية والأجنبية، ونُسبت إليه الكثير من أعمال العنف، واتهم باختطاف الأجانب وقتل المغاربة الذين كانوا ينتمون إلى المعسكر الآخر المعادي له، واتُهم أيضا بشن حروب على القبائل المجاورة له، من أجل «المال وحده».
لكن بالمقابل، أنصفته كتابات أخرى، بينها كتابات أجنبية، ووضعته إلى جانب الأسماء التي قاومت الاحتلالين الإسباني والفرنسي، بل واعتبر صحافيون إسبان أن وجود الريسوني كان ضروريا لفرض الهدنة بين بعض القبائل والحكومة الإسبانية، سيما في مرحلة عشرينيات القرن الماضي.
لكننا هنا، سوف نورد وجهة نظر الريسوني نفسه، كما سجلتها المغامرة «روزيتا فوربس» التي زارته بداية العشرينيات وسجلت قصة حياته كما حكاها لها بنفسه، وبطلب منه. «سلطان جبالة»، هو الاسم الذي اختارته هذه المغامرة التي توفيت في ستينيات القرن الماضي، في جزيرة معزولة وسط المحيط، تابعة لنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، عنوانا لهذه المذكرات التي انفردنا بنشر ترجمة حصرية لها في «الأخبار».
يقول في أحدث المقاطع مستعيدا ذكرياته في مرحلة السيبة:
«قلتُ لنفسي إنني يجب أن أكون أحمق لكي أصدق أي وعد من النصارى. ومنذ ذلك اليوم، لم أعد أثق في كلام الجنرالات والوزراء. فقد كنت أرى أنه في كل الدول، عندما يعقد الأوروبيون معاهدات مع السكان المحليين، فإنهم دائما يجعلون فيها تحفظات ويقولون مع أنفسهم:
– إن كان هذا يخدم مصلحتنا فسوف يبقى.
لكن عندما تكون هناك مشاكل بين قوتين من قواتكم، فإنه لا مواثيق ولا معاهدات تحفظ المغاربة من أن يُداس عليهم.
في ذلك الوقت، كانت لدي مْحْلّة في بني معيزة، وقد كانت مدعومة بأموال المخزن وكان الهدف منها الحفاظ على السلم في حدود منطقة أهل الشرْيف، التي كانت دائما قبيلة متمردة.
طلب مني سيلفستر أن أنهي التمرد، لأنه يجب أن تكون قوة واحدة فقط لحكم المنطقة. وقلت له:
– سوف أقوم بهذا الأمر بتروّ. حتى لا يعتقد سكان منطقة أهل الشريف أنني ضعيف أمامهم.
لكن الكولونيل مارس الضغط، وكان يرسل الرسائل يوميا من العرائش. وكنت دائما أجيبه:
– الوقت غير مناسب. هناك مشاكل كثيرة بين القبائل، ويجب عليك أن تدعمني لكي أحفظ السلم. لا تفسد طريقتي في القيام بهذه المهمة.
ظننت أنه فهم كلامي، لكنه فجأة وبدون أي سابق إنذار، انقض على المْحْلّة خاصتي وأرسل فرقتين ليلا لهزمي.
«حرام». كانت عملية إجرامية، لأن رجالي قُتلوا قبل أن يحظوا بفرصة الدفاع عن أنفسهم. وعندما رأى سكان منطقة أهل الشريف محنتهم. نزلوا من الخلف وذبحوا من تبقى من رجالي.
قائد جيشي كان دائما فظا مع القرويين الذين رفضوا أداء الضريبة. لذلك أخذ الثوار معهم رجالا إلى الجبال ودفنوا أجسادهم واقفين، بحيث لم تتبق منهم سوى أعناقهم ورؤوسهم بارزة، وتُركوا على تلك الحالة إلى أن ماتوا.
أكلت الطيور الجارحة أعينهم وأحرقتهم الشمس. لكن قتل رجل من رجال جْبالة يأخذ وقتا طويلا، لأنهم أقوياء.
لذلك انتظرهم رجال أهْل الشريف إلى أن ماتوا، وأحضروا أحصنتهم وشرعوا يجرون بها فوق رؤوسهم إلى أن سحقوها وحولوها إلى أشلاء.
عندما سمعتُ هذا الأمر أقسمت أن أنتقم».
«الكباص» والمنبهي.. وأسماء راهن عليها المخزن لإنهاء السيبة
عندما توفي السلطان الحسن الأول سنة 1894، عُهد إلى الوزير الكباص بوضع حد لتمرد منطقة جبالة، واكتسب شهرة واسعة في شمال المغرب، لأنه كان على رأس أول جيش عينه السلطان مولاي عبد العزيز لإنهاء الانفلات الأمني.
كان المخزن، بحسب ما وثقه مؤرخون مغاربة أولهم الضعيف الرباطي، يسجل يوميا حوادث اعتداء على قرى القواد الموالين للمولى عبد العزيز، ويزداد عدد القبائل المتمردة على المخزن. ليس فقط برفضها أداء الضرائب، وإنما أيضا بمحاولة فرض حدود جديدة لنفوذها، ومنع أي «رجل» غريبة من العبور.
حتى أن أولى رحلات المولى عبد العزيز، وهو سلطان جديد للمغرب، استوجبت أن يتنقل جيش بأمر من الوزير الكباص، ويسبقه أثناء الطريق لتأديب القبائل التي أعلنت التمرد على المخزن، وإخضاعها قبل مرور موكب السلطان منها. واكتسب الكباص شهرة كبيرة في أوساط القبائل ما بين فاس وجبالة، لأنه نجح فعلا في تأديب عدد من القبائل، وجر في الوقت نفسه عداوات كثيرة على نفسه.
نُهب عدد كبير من القواد الذين يمثلون سلطة المخزن، وهو ما جعل جلهم يكتبون إلى المولى عبد العزيز معلنين إفلاسهم، وهو الوضع الذي استمر إلى حدود 1908، السنة التي وصل فيها المولى عبد الحفيظ إلى العرش ودخل مدينة فاس وحاول هو الآخر فرض الهدنة، وإنهاء حالة السيبة التي غرقت فيها البلاد.
وكان وقتها الوزير الكباص قد غادر السلطة، وترك المجال لرجل آخر من عائلة الكباص، جاء بعد 1909، والذي اشتهر أكثر في وزارة الخارجية ومفاوضة القوى الأوروبية باسم المولى عبد الحفيظ في السنوات القليلة التي سبقت معاهدة الحماية.
لكن قبل ذلك، كان هناك وزير آخر، عوّض الكباص في البداية في وزارة الحرب، وهو المهدي المنبهي، وبسبب فشله في إنهاء تمرد الروكي، الشهير بـ«بوحمارة»، وإلى حدود 1901، خاض هذا الوزير حروبا باسم المخزن لإنهاء «السيبة»، لكنه فشل في معظمها. وبحسب روايات تاريخية متطابقة، فإن أحد أسباب فشل هذا الوزير في مواجهة انضمام قبائل أخرى إلى منطقة السيبة، انقطاع صرف أجور الجيش المغربي، بسبب الأزمة الاقتصادية التي عرفتها البلاد، ورفض المزيد من القبائل دفع ضرائبها للدولة.
حالة الإفلاس التي دخلتها البلاد، كانت السيبة سببها الرئيس، وهو ما سهل على فرنسا بسط نفوذها على المغرب، خصوصا بعد استغلال حالة السيبة في منطقة عبدة، وقصف الدار البيضاء سنة 1907. عمليا، لم يكن في ذلك الوقت للمخزن أي سلطة على القبائل المتمردة.
لم يفلح علماء «القرويين»، رغم سلطتهم الرمزية، في توحيد القبائل التي مارست «السيبة» في نفوذها، وفرضت ضرائب ورسوما مقابل السماح بالعبور عبر ترابها، وظلت قرى فاس وتاونات في اتجاه جبالة، مناطق لا ينصح المخزن أحدا بعبورها.
انتشرت مهنة «الزطاط» في تلك الفترة، وأصبح من يمارسون هذه المهنة، أكثر نفوذا من وزير الحرب المغربي نفسه، حتى أن المخزن نصح عددا من الدبلوماسيين الأجانب بضرورة عدم التنقل إلى فاس للقاء السلطان، أو أحد الوزراء، إلا إذا كان موكبه مخفورا تماما بوحدة كاملة من وحدات الجيش السلطاني.
«انفلات» قبائل الأطلس والمراقب العسكري الفرنسي يصنفها في خانة التمرد
جل قبائل الأطلس رفضت الانصياع للحملة التي عرفت تاريخيا بحملة الجنرال «دوغان»، والتي استهدفت منطقة الأطلس الشاسعة، بقراها في السهول والجبال.
انقسمت القبائل إلى فريقين، فريق مع المدني المزواري الكلاوي، حليف الجنرال، وفريق رافض لوجود الفرنسيين في المنطقة.
فرنسا اعتبرت القبائل المتمردة، في قلب «بلاد السيبة». رغم أن جل هذه القبائل خرجت عمليا من هذا التصنيف، قبل سنوات قليلة على وصول الفرنسيين، وبايعت المولى عبد الحفيظ وأعلنت إذعانها للمخزن، وفي الوقت نفسه، رفضها لفرنسا.
كان مع الجنرال دوغان موظف عسكري، لكنه كان في الأصل صحافيا مدنيا، قبل أن يخضع للتجنيد، اسمه غوستاف بابين. وهذا الأخير جمع مشاهداته في مذكرات أحدثت ضجة عندما صدرت في فرنسا مع بداية عشريينات القرن الماضي، وتناول فيها مرحلة «السيبة»، تزامنا مع تقدم القوات الفرنسية في الأطلس، والمقاومة الشرسة التي لاقتها في الطريق.
«في المسالك الشائكة للطريق نحو «واويزرت»، تبدأ فورا بلاد السيبة المُقلقة».
هذا القلق لم يستمر طويلا. وربما كانت القوات الفرنسية ستتعرض في ذلك التاريخ لواحدة من أعنف المواجهات بالبارود، لولا أنها وجدت الطريق سالكة للعبور عبر منطقة «السيبة». يقول بابين إن هؤلاء الناس، أي سكان منطقة السيبة، على قدر كبير من الصلابة، لكنهم كانوا يخضعون نوعا ما لقبيلة «آيت واكديد»، التي كانت لها اتفاقات سابقة مع الجنرال الفرنسي، وحدث أن اتصلوا بهم منذ 18 شتنبر، أي مع انطلاق مسير القوات الفرنسية، حتى يسهلوا مرورهم عبر تلك الأراضي في اتجاه الهدف: «واويزرت».
يصف «بابين» الطريق إلى الهدف قائلا: «الطريق التي سوف نسلكها كانت معدة سلفا لاستقبالنا، ولو أنها لم تكن مكتملة تماما، لكنها كانت سالكة على الأقل.
عند مدخل مخيم عسكري صغير تخترقه هذه الطريق، تنتصب إشارة من تلك التي تتوزع على طول الطرقات وتُنبئ باقتراب دخولنا إلى قبيلة معينة، عند كل تقاطع طريق أو أي مسلك، لإرشاد المسافرين. هذه العلامة المنتصبة هنا، كُتب عليها: «واويزرت 35 كيلومتر». إنها المرحلة التي يتوجب علينا الدخول إليها، أو «فتحها» على الأصح. لأن الطريق في الواقع تتوقف بعد 7 أو 8 كيلومترات بعد هذه النقطة العسكرية التي نحن فيها الآن، قرب منزل الشيخ «علي بوعدي».
ابتداء من هذه النقطة، يتوجب علينا التخلي عن العربات والقفز فوق الأرض. هذه الطريق الممتدة أحدثها السكان الأصليون للمنطقة المجاورة، بفضل «جائزة» حصلوا عليها، مقابل الاشتغال في تلك الطريق لمسافة لا تتعدى 15 مترا، بقيمة أربعة فرنكات للمتر الواحد.
يا له من بلد غارق في السعادة. لو أن «الأشغال العمومية» الفرنسية جاءت إلى هذا المكان، سوف ترى العجب.
يوم 19 شتنبر 1922، بعد الغداء، بدأنا المسير فوق هذه الطريق التي سوف تقودنا نحو الهدف.
بالموازاة مع تلك الطريق، حيث الغابات والوديان، شرعنا في مد الخط الهاتفي الذي كان مُخططا لربط الاتصال مستقبلا، مع إكمال الاتصال عبر التلغراف أو الطائرات.
يا لها من رعاية. هذا النشاط الذي كنا نقوم به كان مثيرا حقا. ذكرني بما وقع سنة 1911، وكنت وقتها في بداية سفري الأول إلى المغرب. وكانت وقتها أعمدة التلغراف الأولى من نوعها قد بدأت تُزرع في الأفق عند الخروج من منطقة النفوذ الإسباني. كان هناك فراغ قاتل وانعدام للحياة.
كان العمال يشتغلون على بُعد 200 أو 300 متر عن «آيت واكديد»، الذين سوف نُعلن معهم الهدنة».
هذه القبائل التي ذكرها هذا الصحافي في مشاهداته، كانت أغلبها معادية لفرنسا، واستمرت في مقاومتها إلى حدود سنة 1933، حيث خمدت السيبة وجُمد المصطلح رسميا في رف التاريخ، ولم يعد متداولا في الواقع السياسي المغربي.





