الرأي

تدشين مقبرة

حين تتلقى دعوة حضور مراسيم تدشين منشأة عمومية، تتراقص أمام عينيك لوازم التدشين، رجال بزي رسمي وتذكار من رخام وشريط ومقص ومصورون ومخبرون.. لكن حضور حفل افتتاح مقبرة يختلف في طقوسه عن تدشينات السلطة، خاصة حين يتعلق الأمر بمقبرة يرقد في جوفها ضحايا انتفاضة الدار البيضاء يوم 20 يونيو 1981.
ككل حفلات التدشين الرسمية، كان هناك أشخاص يقومون بآخر الرتوشات على المشهد، يتأكدون من حضور أسر الضحايا كما يتأكد مدرس من حضور تلاميذه قبل كل حصة. يقف ممون حفلات السلطة غير بعيد عن البوابة الرئيسية وهو يراقب تحركات فريق النادلين ويحصي أنفاسهم وعينه على الحلويات والمياه المعدنية، فيما يتأكد ابنه من سلامة التجهيزات الصوتية، ويتفحص هندام «المسمعين» ويطالبهم بأخذ مكانهم في الصفوف المتقدمة، ويختار لهم الآيات القرآنية التي سيتلونها في حضرة «المدشنين».
غاب عن المشهد الافتتاحي أشخاص ظلوا جزءا من المقابر، وانسحب المتسولون بعدما تبين لهم أن المقبرة «سياسية»، وغاب باعة المياه حين حضر الماء المعدني، ولم يظهر لحفاري القبور أثر، وكأن المقبرة لا تعنيهم، لأن قبورها بلا شواهد وفضاؤها لا يسع لموتى آخرين.
تناوب القادة الحقوقيون على منصة الخطابة، وقالوا لأهالي الضحايا، امسحوا دموعكم اليوم أصبح للمقبرة باب بعد أن بناها المقاول بدون بوابة، لكن من أين خرج البناؤون حين أنهوا أشغال البناء، إذا لم يكن للمقبرة باب؟.. لأول مرة تتاح للحاضرين فرصة سماع التصفيق على جنبات القبور، يا إلهي ماذا سيقول الموتى؟
حكايات الموت الغادر تتناسل بين أسر الضحايا الذين يعانون من جفاف منابع الدموع، وهم يروون قصة قناص لئيم وجه فوهة بندقيته نحو أطفال قتلوا وهم يلعبون «غميضة»، ونساء اغتيلوا حين خرجن يبحثن عن فلذات أكبادهن وسط هول الإضراب. في هذه المقبرة يمكنك أن تحكي قصة الرحيل دون أن يعكر صفو الحكي متسول محترف، لأنك في حماية السلطة.
يقف أفراد أسرة الملاكم الدولي محمد فازة طويلا أمام اسمه المنحوت على الجدار، بلا هوية بلا صفة، تتمنى زوجته التي أنهكها المرض اللعين أن تضع على قبره قفازي الراحل وميدالياته وعشرات شهادات التقدير، قبل أن يقدر له الموت بضربة قاضية من خليفة مقاطعة لئيم مارس أبشع أشكال القتل في حق الأبرياء باسم التعليمات.
في صباح يوم الانتفاضة تدرب «الشينوا» بمقر نادي الاتحاد البيضاوي بالحي المحمدي، وقرر الالتحاق بحي البرنوصي حيث تقطن أسرته الصغيرة. امتطى سيارة أجرة قبالة سينما «السعادة»، وتبين له أن الطاكسي يحمل راكبيه على جناح الندامة مباشرة إلى المقاطعة، بدل سينما «السلام». هناك كانت المحطة النهائية للراكبين، وهناك ينتظرهم رجل سلطة في حلبة الدم.
لم تنفع هويته كملاكم رفع العلم المغربي في المحافل الدولية، ولم تشفع له بطاقة ملاكم دولي، حتى شهادة المعتقلين قوبلت بالضرب المبرح، فتبين للجميع أن لهم موعدا قريبا مع الموت، فقرؤوا الشهادتين جهرا في مشهد لازال يذكره ما تبقى من مخازنية المقاطعة 46 المشؤومة.
عانى كثير من أبطال هذا البلد من الجحود والاختفاء القسريين طوعا أو كرها، منهم من لا زالت قبورهم مجهولة، ومنهم من هام على وجهه في أرض الله الواسعة بعدما ضاق ذرعا بهواية النميمة في مقاهي المدينة، ومنهم من اختار الموت وهو في التشكيلة الأساسية لتنظيم داعش.. وقس على ذلك من الأبطال الذين يكفيهم قبر للاسترخاء النهائي وهم الذين لم يكن العالم بأسره يكفيهم.
الآن لا يمكن الحديث عن الاختفاء القسري، في ظل وجود محرك البحث غوغل، الذي يتحول إلى مخبر بنقر على رابط بسيط، لا وجود إذن للعبث وللعابث وللمعبوث به، فالدولة فتحت باب المقبرة ورخصت للبكاء العلني في مكان عمومي، بل وأسست من حيث لا تدري تجمعا للموتى، قبالة مقبرة اليهود غير بعيد عن مقبرة المسيحيين وخلف مقبرة الشهداء، في ما يشبه مربع الموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى