
يسرا طارق
أبانت أزمة جائحة كورونا، وما حدث فيها من قرصنة لطائرات محملة بالكمامات واللقاحات، وما شهدته من تمييز بين الدول في المبادلات التجارية، وخصوصا المواد الغذائية والأدوية واللقاحات، بأن النظام العالمي هش جدا، ويمكن الانقلاب عليه في كل لحظة، كما أبانت بأن هذا العالم تحكمه القوة، والقوة فقط، وأن القانون الدولي قشة تتلاعب بها مصالح القوى العظمى، وهو في أحسن الأحوال، سلطة تعاقب بها، بل تدمر بها الدول الصغيرة، مثلما حدث للعراق، وتحاصر بها، وتمنع من التطور والرقي وامتلاك وسائل الغلبة. لم يجد القانون الدولي حلا لأغلب القضايا التي تسمم منذ عقود العلاقات الدولية، مثل القضية الفلسطينية، وغيرها من القضايا المزمنة، التي يحتفظ بها في ثلاجة الأمم المتحدة، للتلهي وللاستعمال المغرض والابتزاز..
الجميع يعرف هذا، والثقة في المؤسسات الدولية، وخصوصا لدى سكان العالم الثالث، شبه منعدمة. العالم ظالم وجشع ومتوحش، ويرضى بترك ملايين يموتون بالجوع والحروب الأهلية، بينما يأكل الأمريكي يوميا، ويرمي في صندوق الفضلات ما بإمكانه أن يؤمن القوت لـ28 بلدا إفريقيا محروما. لكل هذا لا ينبغي الانخداع بالظاهر، ولا بالحديث المتكرر عن قانون دولي، ولا بالنزعة الإنسانية التي يزين بها ساسة الدول القوية خطاباتهم. هذا العالم المنافق كان في حاجة إلى رجل مثل ترامب ليفضحه، في حاجة إلى رجل يعمل بلا قفازات، ليكشف بأن القوة الغاشمة ما زال لها مستقبل مشرق في العلاقات الدولية.
لأول مرة في التاريخ، يهنئ رئيس دولة قوية رئيس دولة ثانية، بالاستيلاء على دولة ثالثة. لأول مرة يشن رئيس دولة حربا تجارية على جميع الدول، بما فيها الحليفة، ويحدث رجة اقتصادية هائلة في البورصات العالمية. لأول مرة، وبقرار سياسي، يربح أتباع الرئيس من الأثرياء مليارات الدولارات، لأنهم كانوا يعرفون، بأنه سيعلن عن فرض رسوم جمركية مرتفعة على بعض الدول، ثم سيتراجع بعد أن تكون البورصات قد ابتلعت الطعم..
يريد ترامب، الذي يتظاهر بأنه ينتقم، لعقود من الطيبة والسذاجة الأمريكيتين في معاملات أمريكا التجارية مع الدول الأخرى، وكذا لإنفاقها العسكري السخي على حلفائها، أن يظهر للعالم بأن ولايات متحدة أمريكية جديدة قيد التشكل، ولايات لا تفرط في دولار واحد، ولا تنفقه إلا حين تكون على يقين بأنها ستسترد وبواسطته عشرات الدولارات. ولايات لا تخجل من عرض جبروتها، وجشعها، وعدم اكتراثها بأزمات العالم.. لكن ألا يخفي كل هذا إحساسا بالخطر، وبأن العالم يتغير بسرعة جنونية، وأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد هي القوة الأولى في العالم، وحتى إن كانت كذلك فإلى وقت قريب قادم. ألا تشير حروب ترامب التجارية إلى صورة ذلك الثري الذي كان يبدد ثروته بلا حساب، وحين أحس بدنو الإفلاس، فتح دفتر حساب مع الجميع ليسترد ثروته؟