
عقد رشيد التومي وخديجة بلحياح لقاء حواريا مع الكاتب لحسن ابن عزيزة. وفي حواره مع الأستاذين الباحثين، تحدث الأستاذ الجامعي عن مساره الأكاديمي وتجربته الجامعية داخل وخارج المملكة. ويأتي هذا الحوار، الذي احتضنته جامعة ابن زهر بأكادير، خلال شهر ماي الجاري، بمناسبة إصدار ابن عزيزة لرواية باللغة الإنجليزية عن دار النشر إفريقيا الشرق تحت عنوان الحياة الرائعة لمسافر دائم .(The Splendid Life of a Frequent Traveller)
خديجة بلحياح: لماذا اخترت الكتابة الروائية باللغة الإنجليزية، مع العلم أنه سبق لك نشر دراستين نقديتين باللغتين العربية والفرنسية؟
فعلا لدي بعض التجربة مع اللغتين وبعض المعرفة في الأدب العربي وخصوصا الفرنسي الذي كنت من عشاقه وعندي ما يكفي من الدراية بكلاسيكياته. لكن، بحكم دراستي بكندا الأنكلوفونية على مستوى الماجستير والدكتوراه وكذا اشتغالي بتدريس الأدب الإنجليزي بالجامعة الكندية ثم المغربية، تفرغت للأدب الإنجليزي وتعمقت فيه واكتسبت أدواته النقدية والروائية. وبحكم تخصصي فكرة كتابة رواية باللغة الإنجليزية كانت تراودني منذ زمان، وبدأت كتابة روايتي باللغة الإنجليزية في البداية فقط كتمرين لغوي باللغة التي درست بها. وواصلت الكتابة عندما بدأت تتدفق، بدون اكتراث بأبعاد الكتابة بلغة غير اللغة الأم الثقافية والإيديولوجية… ولا أخفي أنني عندما حسمت مسألة اللغة أردت أن أكتب بلغة إنجليزية كالناطقين بها، لأثبت، وبكل غرور، أنني، كمغربي، أستطيع أن أكتب رواية بلغتي الثالثة بجودة لغوية عالية. لكني، في الوقت ذاته، كنت حريصا على أن يلمس القارئ أن هذه الرواية مكتوبة من طرف روائي مغربي، نظرًا لاستعمال صيغ وتداخلات لغوية من الدارجة المغربية.
ما حسم اختيار لغة الكتابة هو أنني لحسن الحظ تتلمذتُ على يد أحد رواد النقد الأدبي جون فريزر (John Fraser) الذي كان يعتمد مقاربة جمالية استطيقية للعمل الإبداعي، وتعلمت منه أحسن درس في الذوق الأدبي. كان فريزر أحيانا يقدم لنا، في درسه النقدي الممتع المتذوق للأدب، مقطعين من نصين أدبيين حول التيمة نفسها (تيمة الحب مثلا)، مبقيا على اسمي كاتبيهما مجهولين حتى نهاية التمرين. كان المطلوب من الطالب أن يتفحص النصين ويقوم بإصدار حكم نقدي تقييمي لهما، تمرين يستهدف مهارة تطوير الذوق النقدي الأدبي لدى المتعلم لتعزيز قدرته على التمييز بين الكتابة الراقية والكتابة الأقل جودة فنيا. لذلك، فقد امتلكت أدوات الكتابة بهذه اللغة أكثر من غيرها، ولهذا كان من البديهي أن أكتب بها. للأسف، في المغرب، الذوق الأدبي مهمل في الدراسات الأدبية، إذ تعتمد عامة على التيمات. أما الطالب فلا يمتلك القدرة على الإدلاء بأسباب استطيقية معقولة للتقييم وإبداء رأي سلبي أو إيجابي تجاه النص الأدبي.
رشيد التومي: لك مسار نقدي مشرف بكتابات نقدية مهمة مكتوبة بثلاث لغات وتعتبر روايتك الحياة الرائعة لمسافر دائم أول تجربة روائية لك. هل يمكن أن تحدثنا أكثر عن هذا الانتقال من الكتابة النقدية إلى الكتابة الإبداعية؟
أفتخر بأعمالي النقدية رغم تواضعها وأفتخر أيضا بقدرتي على الكتابة بثلاث لغات، لكن افتخاري بروايتي التي كتبت أكبر (يضحك). مرة أخرى، كتابة الرواية كانت هاجسا لازمني طوال مساري الأكاديمي. وبشهادة لجنة مناقشة أطروحتي لنيل شهادة الدكتوراه في كندا، ما يميز رسالتي هو الجانب الإبداعي. فأطروحتي، التي تتناول تأثير كتاب ألف ليلة وليلة على الروائي الأمريكي ما بعد الحداثي جون بارث تدور، كلها حول مفهوم الحكي وأبعاده الجمالية والفلسفية (Storytelling). الكتابة الروائية مغامرة عظيمة وطريقها شائك، بل ومخاض عسير يواجه فيه الكاتب الكثير من المعاناة والألم. فعلى خلاف الدراسات النقدية التي كانت عامة لا تسبب لي الكثير من القلق لأن نسقها معروف ومنهجيتها تكون واضحة منذ البداية، فمع الرواية كنت أعيش القلق يوميا. علاوة على هذا، تبقى التجربة الإبداعية إنسانية مليئة بالتحديات، فمثلا حدث لي أن اضطررتُ إلى حذف عدة صفحات من مسودة روايتي، رغم أنني كنت أمضيتُ وقتًا غير هيّن في كتابتها، لأنها لم تكن تتوافق مع توجه السرد وبالتالي كان من شأنها أن تخلق تناقضا في بناء الرواية وسردها. لهذا زاد احترامي للكتاب وفهمت ما كان يقاسيه بعض الروائيين مثل غوستاف فلوبير (Gustave Flaubert) الذي كان معروفا بالدقة في اختيار الألفاظ حيث كان سعيه للعثور على الكلمة الصائبة (Le mot juste) والكمال اللغوي يأخذ منه الوقت الكثير. وتفهمت، أيضا، كيف عاش إرنست همينغوي (Ernest Hemingway)مخاض وألم الكتابة الإبداعية. التجربة الإبداعية إنسانية عميقة ومعقدة، وأيضا عجيبة وغريبة، تتداخل فيها عواطف متعددة ومتناقضة. فبقدر ما كنت، في مرحلة من كتابتي، أمر بأوقات عصيبة، كنت أيضا أعيش حالة انتشاء خصوصا بعد كتابة مقطع يعجبني. وفي بعض الأحيان كانت تسكنني شخصية أيوب، الشخصية الرئيسة في الرواية، لدرجة أنني كنت أتعاطف مع محنه في الحياة ومساره لدرجة البكاء.
خديجة بلحياح: تشكل بنسليمان إطارًا مكانيًا مهمًا في روايتك، أرجو توضيح هذا الاختيار.
في الحقيقة هناك مكانان مهمان في الرواية: بنسليمان في المغرب وهاليفاكس (Halifax) في كندا، وهناك أماكن أخرى تمثل مراحل في شخصية أيوب، لكن ليست لها الأهمية نفسها. بنسليمان هي المدينة التي ترعرعت فيها وقضيتُ فيها طفولتي ومرحلة مهمة من شبابي. عشتُ فيها الحلو والمر، أوقات السعادة وأوقات التعاسة والمعاناة. ورغم هذه المعاناة، تربطني بها علاقة وطيدة، وأشعر بأنها علاقة حب وكراهية .(a love-hate relationship) ولا أنكر أن الحنين يشدني إليها دوما، باعتبارها مدينة والديّ وعائلتي ونشأتي وصداقاتي، التي كانت من أعمق وأجمل الصداقات في حياتي. أهم من هذا أن بنسليمان هي، كذلك، المدينة التي تعرفت فيها على أستاذتي جوزيت بيد كارات . (Josette Bédécarrats) كان لهذه الأستاذة أثر مهم في حياتي وشخصيتي، حيث كانت مدخلي إلى عالم الأدب، ومن أجمل الأوقات التي قضيتها في طفولتي تلك الأوقات التي كانت جوزيت، رحمها الله، تستضيفني وأصدقائي في منزلها لقراءة الكتب، وكانت تحفزنا على فعل القراءة بالشوكولاته، حتى أنني أصبتُ بفيروس القراءة حتى عندما انقطع التحفيز. كنا نستمع في تلك البحبوحة الدافئة إلى الموسيقى الفرنسية، وخصوصًا رواد الأغنية الفرنسية الأصيلة (La Vieille chanson française) مثل إديث بياف (Edith Piaf)، مولودجي (Mouloudji)، جاك بريل (Jacques Brel) ، جورج براسنس (George Brassens)، سيرج ريجياني (Serge Reggiani)، باربرا (Barbara)، جون فيرا (Jean Ferrat) ، بالإضافة إلى أمريكيين مثل بوب ديلن (Bob Dylan) وجون باييز(Joan Baez) وبيلي هوليداي (Billie Holiday) وآخرين . لكل هذه الأسباب أنا سعيد، رغم المعاناة، بأن تكون بنسليمان إطارًا مكانيًا أساسيًا في روايتي.
ذ. رشيد التومي: في هذا السياق تحدثتم عن بنسليمان كإطار مكاني مهم في الرواية وعن تجربة أيوب بهذا الفضاء. أشرتم، كذلك، إلى أهمية كندا في هذا السياق. وأنتم تكتبون من موقع «الآخر»، ماذا تمثل كندا وشيريل بالنسبة لبطل الرواية أيوب، وما طبيعة العلاقة التي رسمتها روايتك للغرب والشرق وهل هذا التمثل متفائل أو متشائم؟ بعبارة أخرى هل هناك—طبقا لمنطق ورؤية روايتك—إمكانية التقارب بين الغرب والشرق؟ يبدو لي أن الرواية منقسمة حول ذاتها في ما يخص تجسيد العلاقة بين الغرب والشرق. من جهة هناك الوعي بالإرث الاستعماري ومن جهة أخرى هناك إمكانية بناء هوية جديدة للعلاقة بين الغرب والشرق في فترة ما بعد الاستعمار.
حسنًا، سبب التوظيف المكاني واضح، أليس كذلك؟ الفضاء في الرواية مزدوج، كما سبق أن قلت لزميلتك. لديك بنسليمان والمطار من هذه الجهة من المحيط الأطلسي ولديك هاليفاكس وجامعة دالهاوزي وكندا بشكل عام كفضاء من الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي. والمضامين هنا مهمة. من منظور الغيرية كما نظر لها إدوارد سعيد، إنه الفرق بين «نحن» و«هم»، إنها الفجوة بين الثقافة الشرقية والغربية، الفجوة بين القيم الشرقية والغربية وهكذا دواليك. لذا فإن نسج هذا النوع من العلاقة بين أيوب، الذي يمثل الشرق نوعًا ما، وشيريل، التي تمثل الغرب بطريقة ما، هو وسيلة لتجسيد جميع القضايا المتعلقة بالاختلاف بين الثقافات. لقد سمح لي بالتحدث عن وتطوير تلك القضايا، خاصة تلك المتعلقة بالاستشراق وقضايا ما بعد الكولونيالية.. تحدثت عن الوضع الراهن، ما الجيد وما السيئ فيه، الديناميات بين الشرق والغرب بجانبيها الجيد والسيئ. ركزت الرواية على كيفية استرداد أيوب لإرادته وسيادته كمستَعمَر سابق، لكن لا تنسَ أنه، في كل هذا، توفي كل من ممثل الشرق والغرب، أيوب وشيريل، في نهاية الرواية. وبقدر أن الاثنين توفيا في نهاية المطاف فالرؤية للعلاقة بين الغرب والشرق متشائمة إلى حد ما. من ناحية ثانية يمكنك، أيضًا، أن تقول إنه بقدرما أن الرواية التي نقرأ ليست إلا ترجمة للرواية التي كتبها أيوب بما يُعرف في ثقافتنا الشعبية بالدمياطي، وهذا هو افتراض السرد، إلى لغات أخرى مثل الإنجليزية، يمكن القول إنه انتصار «للآخر». في نهاية الرواية، يقف أيوب شامخًا على الرغم من موته الجسدي، ويقف شامخًا في مواجهته مع الغرب، حيث لم يعد ذلك الفتى الذي كان في طفولته يغير طريقه خوفا عند رؤية المُسْتَعْمِر في بنسليمان. الآن أصبحت لدى أيوب القدرة على تحليل الغرب وحتى على إصدار آرائه إن لم نقل أحكامه على الثقافة الغربية؛ إلى هذا الحد، إنه انتصار، ربما انتصار باهظ الثمن، إلا أنه انتصار رغم كل ذلك.
خديجة بلحياح: في رأيك هل هناك إقبال من طرف القراء المغاربة على قراءة الرواية المكتوبة باللغة الإنجليزية، إذ لا يخفى عليك أن أغلبية القراء ببلدنا يقرؤون باللغتين العربية والفرنسية؟ وهل يمكن مستقبلاً الحديث عن خلق أدب إنجليزي مغربي تتوفر فيه معايير الرواية العالمية؟ وهل من الممكن، مثلا، خلق أدب إنجليزي عميق في المغرب وبالمستوى اللغوي نفسه للدول الإفريقية الناطقة باللغة الإنجليزية مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا وكينيا التي أعطت أمثال وولي سوينكا (Wole Soyinka) وشينوا أشيبي (Chinua Achebe) وج.م. كوتزي(J.M. Coetzee) وشميماندا نكوزي أديتشي (Chimamanda Ngosi Adichie)؟
في الحقيقة، المسألة اللغوية في الكتابة الروائية مهمة وشائكة جدا، كما سبق أن قلت. وتبادرت إلى ذهني الآن مقولة الكاتب الجزائري كاتب ياسين—الذي يعتبر «فوكنر المغرب العربي» باللغة الفرنسية—والذي تُعد روايته نجمة ربما أهم رواية صدرت في المغرب الكبير، حيث كانت حاضرة في ذهني وضميري أثناء كتابتي لروايتي. حينما سُئل كاتب ياسين عن اختياره للكتابة بالفرنسية، وصفها بـ«غنيمة حرب» « Le Français est notre butin de guerre » يتم توظيفها واستعمالها سلاحا من نوع ما في الإبداع الأدبي. وفي هذا السياق، نعلم جميعًا أن المفكرين والمنظرين والمبدعين عموما، وفي مجال الدراسات ما بعد الكولونيالية خصوصا، استخدموا لغة المُستعمِر للرد على خطابه وتفكيكه.
لكن، رغم كل هذا، لدي بعض التحفظ في ما يخص الكتابة باللغة الإنجليزية، ولهذا إذا أتيحت لي تجربة إبداعية ثانية ليس من المستبعد أن تكون باللغة العربية أو الفرنسية. فكُتاب الرواية بالإنجليزية بالمغرب يُعدون على رؤوس الأصابع، ونخص هنا بالذكر، على سبيل المثال لا الحصر، أنور ماجد وليلى العلمي وخالد بكاوي ومهاني علوي، وفي الشعر حسن مكوار والحبيب الواعي. يتميز أسلوب هؤلاء الكتاب بجودة عالية وأنا فعلا أحترم تجاربهم، لكن عندي تحفظ في ما يخص هذا التوجه لأنني أظن، على العموم، أن الكتابة بلغة معينة تجربة حياة وتجربة لغوية نابعة من أعماق الذات منذ الطفولة. ومع كل احترامي لزملائي، يصعب في الوقت الراهن الحديث عن رواية مغربية بالإنجليزية تصل إلى مستوى الروائيين الأفارقة الأنكلوفونيين الذين ذكرتهم في سؤالك.
هناك مشكل آخر بالدرجة نفسها من الأهمية، هو مشكل الذوق الأدبي والتقييم النقدي الاستطيقي الذي أشرت إليه سابقا بالقول إن زرع وتكوين قدرة التمييز عند الطلبة بين نص يحتوي على جمالية وآخر يفتقر إليها لا وجود له عندنا. فالتكوين، على هذا النوع من التقييم الجمالي للأعمال الإبداعية، شبه منعدم في مدارسنا وجامعاتنا. فعلى العموم تُلقن الطالبة أو الطالب بطريقة أوتوماتيكية تحليل النص وموضوعاته ونسقه وكفى، بدون أي تفاعل استطيقي مع النص أو أي اعتبار للمقاييس الجمالية أو القدرة على تحديد ما إذا كان النص يستحق القراءة في المقام الأول. لازلت أتذكر أول درس ألقيته بكلية الآداب بأكادير ورد فعل طالب في السنة الثالثة أدب إنجليزي عندما سألت القسم سؤالا بديهيا اعتدت على طرحه في بداية التطرق لأي عمل أدبي في الجامعة الكندية. كان هذا السؤال «المشؤوم» يتعلق برواية برايتن روك لجراهام جرين (Brighton Rock by .Graham Greene) سؤالي كان بكل بساطة: «هل أعجبتكم الرواية؟»، بعد صمت رهيب استجمع طالب شجاعته وقال باستياء واضح: أستاذ، لماذا هذا السؤال غير اللائق؟ فالأستاذ هو من يفرض الرواية ويشرحها لنا ونحن مطالبون بفهمها والإجابة عن الأسئلة المتعلقة بها يوم الامتحان وكفى. هل أعجبتنا الرواية أم لا؟ هذا لا محل له من الإعراب. حاولت بكل برودة دم أن أقنع الطالب بعدم جدارة موقفه، وتأسفت على واقع تعليمنا الذي عوّد الطالب على التخلي عن الإدلاء برأيه حتى في الأدب الذي يقرؤه.
رشيد التومي: قمت بعمل استطيقي مثير للإعجاب على عدة مستويات في بناء نصك الإبداعي. من بين هذه المستويات الجمالية نجد «التناص» (intertextuality) الحاضر بقوة وغزارة في روايتك، بحيث يمكن أن نعتبر نسيجها الفني العنكبوتي بمثابة تكريم للأدب (homage to literature). الاقتباسات والإحالات الأدبية (citations and allusions) بروايتك المسافر الدائم، شملت لائحة طويلة من الكتاب العالمين... كل هذا في تناص دقيق مع سياقات السرد ما يمنح الرواية جمالية فنية خلاقة وعمقا أدبيا وفلسفيا.
طبعا هذا ليس «استعراضا للعضلات الذهنية»، لأن أغلب الاقتباسات الأدبية المستمدة من نصوص كلاسيكية مشهورة، مثل الأرض الخراب (The Waste Land) لـ ت. س. إليوت تنير كالمصابيح أحداث الرواية. بعبارة أخرى، إن هدف توظيف هذا العنصر الجمالي في روايتي، إضافة إلى العناصر الأخرى الجمالية المتداخلة في النص كالفلاش باك(flashback) وتقنية تيار الوعي (stream of consciousness) والتقعير (mise en abyme) هو محاولة كتابة رواية مغاربية عميقة وفسيحة على غرار الروايات الملحمية، مثل عناقيد الغضب لجون شتاينبك (John Steinbeck) والأخت كاري لثيودور درايزر (Theodore Dreiser) ومائة سنة من العزلة لماركيز (Marquez)، لكنها في الوقت نفسه تتماشى مع العصر في ما يخص التقنيات السردية. حاولت أن أبدع قالبا فنيا عميقا دون الغرق في طبقاته العمودية الاستعارية على حساب التسلسل الأفقي الميتونيمي لأحداث السرد.
رشيد التومي: كنت أفكر في انشغالك الأساسي وأنت تؤلف نصك الإبداعي. هل كان لديك انشغال معين أطر فعل الكتابة لديك؟
عندما بدأت كتابة هذه الرواية، كان لدي اهتمامان. كنت أريد أن تكون الرواية سلسة بما يكفي لجذب القارئ وإبقاء انتباهه ملتصقًا بها من خلال بناء وتدفق الأحداث.. لكني، في الوقت ذاته، لم أكن أرغب في كتابة رواية تقليدية. كنت أرغب في كتابة رواية ما بعد حداثية وفي الآن نفسه ما بعد كولونيالية تتناول اهتمامات ما بعد الحداثة ومابعد الكولونيالية. أعتقد أن قضايا ما بعد الكولونيالية تسير جنبًا إلى جنب مع قضايا ما بعد الحداثة. السمة الرئيسية للرواية الما بعد الكولونيالية هي الرد على النص الكولونيالي (الكتّاب الاستعماريون، الأدب الكولونيالي الكلاسيكي والنصوص الغربية المعيارية التي تعلمناها من النصوص التي أضفى عليها نقاد ومنظرو أدب الحداثة طابعا شبه مقدس .(الأدب الحداثي، رغم عظمته، لا زال يمجد المثل الغربية على الرغم من أنها تحطمت بسبب الحروب وبسبب روح العصر الرهيبة، والتشبث بهذه المثل العليا كان من مميزات هذه الحركة الأدبية الحداثية. كان يجب الوصول إليها، كان يجب تحقيقها، وكان من الصعب تحقيقها في ذلك الزمن، إلا أنها بقيت دائما تمثل أهدافا عليا وجب تحقيقها. وهذا ما يجعل الأدب ما بعد الحداثي أكثر ملاءمة للقضايا ما بعد الكولونيالية، حيث إن الأدب ما بعد الحداثي، والرواية ما بعد الحداثية بشكل خاص، ويمكنني أن أذكر العديد من الأسماء هنا —جون بارث (John Barth)، سلمان رشدي(Salman Rushdie) ، إيتالو كالفينو(Italo Calvino) والقائمة طويلة—… هؤلاء وأمثالهم شككوا حتى في تلك المثُل العليا التي كان الحداثيون يقدسونها، ولهذا السبب قاموا بتفكيك تلك المثُل بطريقة ما، تمامًا كما قام الأدب ما بعد الاستعماري بتفكيك مثُل الأدب الاستعماري.. هذا ما أردت فعله في روايتي. وكان من أهدافي أيضا، ربما يكون هذا طموحًا كبيرًا، أن تكون روايتي تجريبية. أعني أني لست الوحيد الذي كتب الرواية التجريبية. أستاذنا عبد الله العروي كتب روايات تجريبية بالعربية، وكذلك محمد برادة وآخرون.. لكنني أعتقد أنهم كانوا منشغلين جدًا بنظرية الرواية وبالعناصر التجريبية للرواية لدرجة أنهم غرقوا في العناصر النظرية للرواية، وبطريقة ما أهملوا الحبكة وسرد القصة. أردت أن أفعل كلا الأمرين ولهذا السبب، روايتي، إلى حد ما، تُقرأ كأنها رواية واقعية وفي الوقت نفسه تعتبر رواية تجريبية. كنت أرغب، نوعًا ما، في التوفيق بين الاثنين، السرد المتسلسل الذي يذكرنا بالأدب الواقعي في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وأردت، في الآن ذاته، أن يكون تجريبيًا. للقارئ أن يقرر ما إذا كنت نجحت في الجمع بين الاثنين أم لا.
رشيد التومي: قبل ختم هذا اللقاء الشيق، نود معرفة الانطباعات التي تركتها لديكم ردود أفعال قراء روايتكم وما نوع القارئ الذي كنتم تستحضرونه في ذهنكم وأنتم تؤلفون نصكم الإبداعي؟
في الحقيقة لست أنا من يجب أن يتحدث عن ردود أفعال القراء تجاه الرواية. كل ما يمكنني قوله—وهذا بكثير من التواضع والامتنان—أن أصداء هذه الردود كانت إيجابية جدا، وأجد هذا بالفعل مشجعا. بطبيعة الحال كنت أستحضر في ذهني القارئ وأنا بصدد كتابة روايتي. كما أشرت الى ذلك سابقا، أردت كتابة رواية تستهدف قراء مختلفين وعدة مستويات من القراءة. فالقارئ المعتاد على حبكة بسيطة سيجدها في علاقة أيوب بشيريل (Sheryl) وحياة أيوب بالمغرب وكذلك بكندا. يسمى هذا النوع الروائي «Bildungsroman»، أي رواية التشكيل التي تركز على تكوين أو نشأة بطل القصة؛ أو «Kunstlerroman» (تكوين ونشأة الفنان) إذا اعتبرت أيوب كاتبا أي فنانا (كلمةbildung بالألمانية تعني التكوين بينما تعني كلمة kunstler الفنان). إذن القارئ الذي كنت أفكر فيه وأنا أكتب الرواية ليس بالضرورة قارئا متمرسا في قراءة الأدب بل قارئ عادي يمكن أن تثير الرواية اهتمامه ويتمكن من فعل القراءة. من جهة أخرى هناك الجانب التجريبي والتقني في الرواية الذي يستهدف الذوق الفني لقارئ معتاد على قراءة سرديات معقدة. أتمنى أن أكون تمكنت من إرضاء قراء مختلفين بخلفيات متعددة دون الحياد عن أهدافي الأدبية والنقدية.
مؤطر:
لحسن ابن عزيزة في سطور:
من مواليد بنسليمان، المغرب، حاصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي (PhD) من جامعة دالهاوزي بكندا سنة 1991. درَّسَ مواد في تخصصات متعددة من الأدب الإنجليزي في كندا والمغرب في مستويات الإجازة والماجستير والدراسات العليا المعمقة والدكتوراه: الشعر، الرواية، المسرح، النقد الأدبي، الأدب الإفريقي المكتوب بالإنجليزية، الأدب الأفريقي-الأمريكي، الدراسات ما بعد الكولونيالية. من بين مؤلفاته المنشورة بالعربية والإنجليزية والفرنسية:
- Romancing Scheherazade: John Barth and the One Thousand and One Nights (FLSH, UIZ, Agadir, 2001).
- محاكاة جون بإرث لشهرزاد.. ألف ليلة وليلة في المتخيل الأمريكي ما بعد الحداثي
(الأردن: كنوز المعرفة، 2017).
- L’Influence de Jules Laforgue sur T.S. Eliot (L’Harmattan, 2021).
- The Splendid Life of a Frequent Traveller: A Novel (Afrique Orient, 2024).