
يونس جنوحي
«رغم أنه لم تصدر توضيحات رسمية بشأن إعفاء والي مراكش آسفي، ووالي فاس مكناس، إلا أن ما يُقرأ بين السطور يفوق أحيانا ما قد تشرح البلاغات والخطابات الرسمية.
ذبح أضحية العيد في ظل خطاب ملكي واضح يُوجه المغاربة إلى عدم ذبح الأضاحي، سلوك رغم الرمزية التي كانت متوخاة منه، إلا أنه يعارض التوجيهات الملكية بشكل صريح.
إقالات الولاة والعمال والموظفين السامين وكبار المستشارين، تاريخ طويل عريض، لا يُذكر ربما تجنبا للفأل السيئ، لكنه موثق في وثائق الخزانة الملكية وكتب المؤرخين.. وهذه قصص إقالات قبل قرون خلت».
++++++++++++++++
أخطاء رجال الدولة.. قرون من «مزالق» وزلات لا تُغتفر
الإقالة، أخطر ما قد يهدد وجود مسؤول في منصب سيادي أو معنوي.
على امتداد قرون خلت، سقط كبار المسؤولين في فخاخ سوء تقدير بعض القرارات، أو تسرعهم باتخاذ قرارات أثارت سخطا شعبيا، أو أنها خالفت التعليمات الرسمية.. فكان مصيرهم الإبعاد عن كرسي المسؤولية.
تاريخ المغرب حافل بقصص من هذا النوع، جمعها مؤرخون وباحثون مغاربة، وأخرى لم تُجمع، لكنها بقيت حبيسة الوثائق المخزنية في انتظار من يُعيدها إلى الحياة، لكي تكون قصص أصحابها عبرة لمن يهمهم استنباط الدروس من وثائق التاريخ.
لعل السلطان المولى إسماعيل أشهر سلطان تشدد في عقاب المسؤولين وإقالتهم، جراء الهفوات وسوء تقدير المواقف. لكن بالمقابل، كان ملوك آخرون وراء اتخاذ قرارات اعتبرت حملات تطهيرية مبكرة، قبل أزيد من ثلاثة قرون.
من بين الذين كانوا شهودا على أكبر فترة إقالات لكبار المسؤولين، الصحافي البريطاني لاورنس هاريس الذي حاور المولى عبد الحفيظ سنة 1908، بقلب القصر الملكي في فاس.
هذا الصحافي عاش بعض الكواليس المتقدة، من بينها إقالة وزراء وإبعاد مستشارين، بسبب أخطاء ارتكبوها. منهم من أصبح صديقا أكثر من اللازم لبعض الدبلوماسيين الأوروبيين، ومنهم من اجتهدوا في بعض القرارات لإنهاء نفوذ بعض وجوه السلطة القديمة، التي تعود إلى أيام المولى الحسن الأول، فكان مصيرهم الإقالة.
لكن أكثر سبب جعل المولى عبد الحفيظ يُبعد أكبر مستشاريه، كان مستجدات الشأن الدولي، والسباق الأوروبي نحو المغرب. وهو ما لم يكن مستشارو السلطان – وأغلبهم فقهاء- يحيطون به، لأنهم ليسوا مكونين في الشأن السياسي ولا في العلاقات الدبلوماسية.
يحكي هذا الصحافي عن تلك الفترة، في مذكراته «مع المولى عبد الحفيظ في فاس، قائلا:
«جلس السلطان متأملا، وكنت أتأمله في صمت، وأتساءل عمّ يدور في رأسه. هل أقنعته حججي في التخلي عن فكرة اللجوء إلى ألمانيا؟ وعما يمكن أن تأتي به من حرب في أوروبا؟
أخيرا تكلم: «لقد أسعدت بكلمتك، أشكرك. ربما يكون كلامك صحيحا، لكنني لا أحب فرنسا ولا أثق في الفرنسيين»، توقف فجأة عن الكلام، ثم واصل: «بمن يمكنني أن أثق؟ لا، لن أقبل الاتفاق! لكن مهلا.. سأنظر في الأمر، اتركني الآن وعد مرة أخرى عندما أحتاجك».
صافحني بيده مودعا وسمح لي بالانصراف، عندما مررت قرب الخدم والوزراء المتجمهرين بخدمهم، لمحت الدكتور فاسيل ومعه بن غبريط ينتظران للدخول عند السلطان.
لقاءاتي اللاحقة مع السلطان، والتي لا أحتاج هنا كي أتفصل فيها، أعطتني نظرة عامة عن المؤامرات التي كانت تحيط بمولاي حفيظ.
الدكتور فاسيل وبن غبريط يزوران القصر يوميا، وكان السلطان يرسل في طلبي في الأمسيات، ويحكي لي أحداث اليوم كله.
مع مرور الوقت، حجج بن غبريط آتت أكلها، وأصبح مولاي حفيظ يتملص بشكل ودي من فرنسا، لكنه وحتى اللحظات الأخيرة، لم يتوفق في قبول الاتفاق في مجمله».
هكذا أُعفي الوزير المُقرب بسبب صورة في التلفزيون
سوء التقدير، بدون شك، ما جعل الوزير السابق عبد الله غرنيط، الذي توفي سنة 2014، بعد عقود من الابتعاد عن الأضواء، يسقط في المحظور.
هذا الوزير الذي درس مع الملك الراحل الحسن الثاني في المدرسة المولوية بالرباط أربعينيات القرن الماضي، وقاسمه الطاولة نفسها لسنوات، ونمت بينهما صداقة متينة جدا، كان موضوع سهام النقد كثيرا خلال أيام استوزاره، أو خلال فترات تولي مسؤوليات مثل إدارة التلفزة المغربية.
بدأت علاقة عبد الله غرنيط مع الملك الحسن الثاني، عندما كان ولي العهد يستعد لدخول المدرسة المولوية. في بداية الأربعينيات زار الملك الراحل محمد الخامس أسرة غرنيط في منزل العائلة، ولمح عبد الله صغيرا يلعب في حديقة المنزل، فاقترح على والده أن يسمح له بالذهاب إلى المدرسة المولوية، رفقة ولي العهد، وكذلك كان.
ومن أشد التجارب مرارة على عبد الله غرنيط، ما حدث له أثناء توليه مسؤولية التدبير في وزارة الداخلية. فقد نُظم له استقبال «مفخخ»، نُقلت صوره إلى الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا، وأصبح غرنيط محل غضب من طرف كبار المسؤولين، الذين أوّلوا حضوره نشاطا رسميا بأنه تطاول على اختصاصات الملك. وابتعد غرنيط بسبب الواقعة، التي حدثت في ثمانينيات القرن الماضي، عن الأضواء لفترة، قبل أن يعيده الملك الراحل.
حدث أيضا أن عبد الله غرنيط عندما خاض حملته الانتخابية، خلال استحقاقات سنة 1977، نُقل عنه أنه كان يستقوي على بقية المترشحين بصداقته مع الملك الراحل، وأنه صديق الدراسة. وهو ما جعل الملك الراحل يصدر تعليمات صارمة إلى وزارة الداخلية حتى لا يُقحم اسمه مرة أخرى في الانتخابات، خصوصا وأن المحجوبي أحرضان نفسه اتُهم باستغلال صورة الملك أثناء خوضه للانتخابات، وصار هو الآخر مغضوبا عليه، سيما في ثمانينيات القرن الماضي.
سيرة عبد الله غرنيط مع الإقالات تكررت أكثر من مرة، بسبب سوء تقدير بعض المواقف، أو تأويل تصرفاته وقراراته أثناء تقلده لمناصب سيادية، بدءا من الوزارة، مرورا بالإدارات العمومية التي ترأسها، وصولا إلى مناصب الداخلية.
عدد من الوزراء كانوا يتحاشون الظهور مع عبد الله غرنيط، عندما أبعد في نهاية الثمانينيات من المشهد السياسي، والتزم منزله، وبقي هناك مبتعدا عن حياة الرباط وصخبها. ولم يشفع له رصيده التاريخي، بحكم أنه حفيد المؤرخ محمد غرنيط، وسليل العائلة التي تربت في أحضان المخزن وتقلد أبناؤها مناصب سيادية.
++++++++++++++++
«مقنين» عائلة تجار تسببوا في إعفاء رجال دولة قبل قرنين
سيرة عائلة «مقنين» المغربية، تستحق أن يُسلط عليها المزيد من الضوء. اهتم بها الإنجليز، أو بالأحرى اهتموا بسيرة واحد من أبنائها، أكثر مما اهتم بها المغاربة. أما سيرتهم فتتضمن محطات صعود وهبوط، على شاكلة الحكايات الخيالية.
استعان بهم القصر لتنشيط التجارة في مدينة الصويرة في عهد المولى عبد الرحمن.
ظهر أول اهتمام بعائلة مقنين الأب، ثم ابنه «مايير»، سنة 1799، في سياق تنشيط التجارة بالمرافئ المغربية، وإحداث ثورة صادرات من ميناء الصويرة نحو بريطانيا.
لم يكن هناك أي رابط بين عائلة مقنين والسلطة المركزية، إلا أن أحد مستشاري السلطان في التجارة، وهو اليهودي المغربي صامويل سومبال، اقترح عائلة مقنين، بالإضافة إلى عائلة أخرى، لكي يحظيا بامتياز تصدير السلع المغربية إلى لندن، وتمثيل المغرب في الخارج.
وفعلا رحل أحد أبناء عائلة مقنين إلى بريطانيا في السنة ذاتها، لكي يبرم اتفاقيات باسم القصر مع شركات بريطانية، وسرعان ما شرعت العائلة في العمل.
منذ 1809، يوجد في أرشيف الرسائل المخزنية عدد مهم من الظهائر التي توثق لاستفادة عائلة مقنين من امتياز استيراد سلع بريطانية عبر ميناء الصويرة وبيعها في المغرب، بالإضافة إلى ظهائر تخول لها أيضا احتكار تصدير سلع مغربية إلى الخارج.
كانت هناك عائلات أخرى استفادت من تشجيع السلطان على تنمية الصادرات المغربية نحو بريطانيا، مثل عائلة الصباغ، وبوجناح.. إلى أن عائلة مقنين، كانت تحتكر صدارة هذه الأنشطة، وحظي أبناؤها بعناية خاصة من السلطان لما لمسه فيهم من تفان وإخلاص، واجتهاد.
لكن المشاكل سوف تبدأ عندما بدأ الابن مايير في سلوك طريق خاص به، بعيدا عن أنشطة إخوته التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود في خدمة الدولة.
إذ إن العقود التي كان يحملها الابن معه إلى لندن، أثناء زياراته التجارية إليها، جعلته ينتحل صفة ممثل السلطان، ويوقع على أنشطة لفائدته، دون علم الدولة المغربية، مع حكومات أجنبية. حتى أن هذا الابن «العاق» كما وصفه والده وإخوته في رسائل تظلم، استطاع إبرام صفقة شراء أسلحة من إيطاليا، وكاد أن يوقع عقد شراء سفينة حربية باسم السلطان، دون أن يدفع مقابل تلك المشتريات، إذ كان يخبر المسؤولين الحكوميين أن الأمر يتعلق بأوامر من السلطان، وأن القصر سوف يتكلف بدفع الفواتير.
في سنة 1826، بدأت أولى الشكايات بشأن مقنين تصل إلى المغرب. وقد اختار وقتها ألا يعود نهائيا، مخافة أن يلقى عليه القبض، وبقي مقيما في بريطانيا يترقب الأجواء.
وصل إلى علمه، في السنة نفسها، أن السلطان المولى عبد الرحمن اعترض على طلب اعتماد مقنين في منصب قنصلي في بريطانيا.
وبعد ذلك، ظهر أن السلطان عاقب أغلب المسؤولين المقربين منه، والذين كان لديهم اتصال مباشر بمقنين. والسبب أن موظفا مخزنيا بسيطا في ميناء الصويرة، قدم كشفا مضبوطا للسلطان، مرفوقا بتقارير أكد فيها أن مقنين يختلس أموال الدولة ولا يدفع مستحقات الخزينة، ويحتفظ بعائدات الصفقات والصادرات. ورغم أن هذا الموظف اشتكى إلى الوزراء وممثلي السلطان المولى عبد الرحمن، إلا أن الشكايات لم تصل أبدا إلى السلطان. وهو ما جعله يعفي كلا من كانوا على اتصال بمقنين، لتُطوى صفحته.
المثير أن مقنين لم يستقر بشكل نهائي في بريطانيا، وعاد إلى المغرب سنة 1833، لكن دون إثارة أي مشاكل أو اتصالات.. استقر في مراكش، التي وُلد فيها حوالي سنة 1760، وقضى آخر أيامه هناك قبل وفاته سنة 1835، بعد مرض ألم به.
«الخازن» المديوني يراسل السلطان لطلب الإعفاء خوفا من الحساب
بن التهامي المديوني كان في عهد السلطان الحسن الأول أمينا للضريبة، وأحد القلائل الذين تثق فيهم الدولة لحراسة الخزينة وإعداد الحسابات، وتحديد النفقات والمداخيل والمشتريات.
عندما أحس المديوني أن أيامه صارت معدودة سنة 1885، وأن هناك مسؤولين في الدولة يهمهم جدا أن يطير رأسه حتى يضعوا مسؤولا آخر مكانه، فكر في الكتابة رأسا إلى السلطان، لكي يشتكي إليه.
خصوصا وأنه كان رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، لكن بحكم انتمائه إلى الأعيان، وُضع اسمه في لائحة المستفيدين من التعيين، أثناء إحدى زيارات المولى الحسن الأول الرسمية. وفعلا جرى تعيينه بموجب ظهير شريف مع جملة من المسؤولين، وأوليت إليه مهمة مراقبة الضريبة، وقبل المنصب بصدر رحب. لكن مع ظهور المشاكل، واحتجاج المسؤولين على عدم أهليته، أدرك المديوني أنه سوف يغادر منصبه، وقد يطوله الانتقام من خصومه. واتخذ قرار الكتابة إلى السلطان، بنبرة اعتراف واستعطاف.
وقد جاء في نص رسالته التي جُمعت في أرشيف الرسائل المخزنية إلى السلطان المولى الحسن الأول:
« وبعدُ.. فإني أنهي إلى علم مولانا الشريف أني رجل وحداني ولي أولاد صغار لم يسعني التسوف عليهم، وما حضرت مجلس مولانا العالي بالله عند تعيين الأمناء والأشياخ لقبيلتنا، حتى وافاني الظهير بالخدمة الشريفة، مع جملة من تعيين الأمناء والأشياخ. فعليه، فقد بذلت مجهودي في خدمة مولانا وما قصرت في ما أمرت به من الجانب العالي بالله، حتى ضيعت أولادي في ما لا بد منه من المؤن والكسوة وغير ذلك، سيما أني رجل أمي لا أفقه في الكتابة والتقييد والحساب وما يحتاج إليه الكناش. ولا قدرت على الخدمة. وعليه، فنطلب من سيادة مولانا الإمام أن يريحني من هذه الخطة ويمنحني مقابلة أولادي وأنا في حرم الله والنبي.. (..) وأن تمتعني بالأمان دام الله عزك. وأطلب من مولانا الإمام أن يمن عليّ بظهير شريف فيه التوقير لي ولأخي عبد الفضيل، وبه وجب إعلام مولانا نصره الله».
لم تقف قصة المديوني هنا، فقد عطف عليه المولى الحسن الأول فعلا، وأوصى بعدم التعرض له. لكن السلطان تشدد أكثر في تحديد الأسماء المخزنية مستقبلا.
لكن أعداء عائلة المديوني لم يتركوه وشأنه، فقد تربصوا به لاحقا، ولم تكد تحل سنة 1842، حتى كان المديوني على موعد مع انتقام من طرف القائد الجديد الذي جرى تعيينه على إثر زيارة للمولى الحسن الأول إلى وسط المغرب. وقبل أن يصل السلطان إلى مراكش، مرورا من الجديدة، حتى وصل إليه خبر مقتل أحد أبناء المديوني، دفاعا عن والده وعمه. وأعطى المولى الحسن الأول أمره بعدم التعرض لأحد من الأعيان الذين جرى إعفاؤهم، وتوعد بعقاب من يسلكون طريق الانتقام من «المغادرين لمناصبهم».
خلال مساره في الحكم، أعفى السلطان الحسن الأول عددا من المسؤولين، أغلبهم كانوا ممن ورثهم عن المولى محمد الرابع، ولم يسلك هذا السلطان طريقة جده ولا والده في عقاب المسؤولين وسجنهم، واكتفى بإقالتهم. وكانت العادة وقتها تقتضي أن يلازم المسؤول المُقال بيته، وألا يغادره. وأغلب الذين أقيلوا بهذه الطريقة، توفوا في منازلهم، بسبب الضغط النفسي، وتنكر من كانوا يعتقدونهم أصدقاء لهم.
الغندافي.. أقيل بسبب استعماله توقيع الصدر الأعظم
اسمه صالح الغندافي، وهو موظف مخزني قديم مارس صلاحيات واسعة في القصر الملكي بفاس، إلى حدود سنة 1896.
عرف بصداقته المتينة مع الصدر الأعظم با حماد، بل وكان يشاع في صفوف الأجانب الأوائل الذين استقروا في فاس، أن الغندافي رفيق باحماد ومُعينه أيام حربه الأولى عندما وصل السلطان الحسن الأول إلى الحكم سنة 1872، لكي يُزيح أسرة الجامعي من المشهد. ومن يومها وباحماد مدين لصديقه ويفضله، ويغدق عليه.
كان الغندافي يشهر في وجه أحد العمال ورقة رسمية عليها خاتم القصر الملكي، وتحمل أوامر بتقديم هبات ومساعدات له من دار المخزن. وحدث مرة أن أحد الموظفين المخزنيين ضاق ذرعا به، فأرسل إلى باحماد يسأله في رسالة رسمية عن طلبات صديقه المتزايدة. وهكذا وبخ باحماد صديقه، وأخبره أنه سيؤدبه وسيخبر السلطان بتصرفاته. وبالمقابل قام الصدر الأعظم بمكافأة الموظف. حدث هذا في أيام المولى الحسن الأول، أي قبل سنة 1894.
شعر الموظف المخزني أنه أصبح يتمتع بسلطة عندما كانت رسالته وراء عزل الغندافي. وبلغ الأمر إلى علم باحماد عن طريق أحد الخدم، أخبره أن الموظف المخزني أصبح يعيد الواقعة على مسامع ضيوفه، ويدعي أنه أصبح يتحكم في هبات القصر ويحدد من يتمتع بها. وهكذا نادى عليه باحماد في أحد الأيام، وأمره أن يأتي إلى أحد أبواب القصر الملكي لأمر مهم، وهناك أمر الحراس بسجنه لأشهر لتأديبه، ولم يتذكره باحماد إلا عندما توسط أحد الوزراء، كان يعرفه، ليطلب من باحماد أن يصفح عنه، لكن باحماد بالغ في عقابه، وأخبر المولى الحسن الأول أن الموظف الذي عوقب كان قد راكم ثروة مالية كبيرة، بسبب صداقته مع آل الجامعي، الذين كانوا وزراء ومستشارين كبارا في الدولة، قبل أن يُنهي باحماد وجودهم في الساحة ويشردهم.
أما مصير الغندافي، فقد عانى كثيرا بعد وفاة باحماد. ولم تحل سنة 1901، حتى كان الغندافي ممن حوصروا في فاس، ولم يسمح له بمغادرة المدينة، إلا بعد أن صودرت ممتلكاته، بحجة أنه راكمها من وراء صداقته مع باحماد، وتوجه لاجئا إلى طنجة الدولية، المدينة التي كان يستقر فيها المهدي المنبهي، وزير الحرب، الذي هرب بدوره من فاس، واستقبل الغندافي الذي كان من جلسائه الدائمين، إلى أن توفي الأخير سنة 1906.
وزراء «أسطوريون» عيّنوا أصدقاءهم وعزلوهم بجرّة قلم
لا بأس هنا أن نذكر بقصة سبق أن تناولناها، تتعلق بصعود نجم وزير اسمه بلمختار، كان صديقا مقربا لعائلة بركاش الرباطية الشهيرة التي أنجبت وزراء وولاة أيام المولى الحسن الأول الذي توفي سنة 1894، وصولا إلى عهد المولى يوسف الذي توفي سنة 1927.
هذه العائلة المغربية كانت نافذة في عالم السلطة، خصوصا في الفترة ما بين سنتي 1840 و1912. رغم أن أبناء هذه العائلة نزلوا من مرتبة الوزراء، لكنهم لم يسقطوا من سُلم الأعيان وممثلي المخزن، سيما في أيام المولى يوسف، حيث بقي بعض أبناء العائلة من أعيان مدينة الرباط. إلى أن انتهى وجودهم في هرم السلطة بالتدريج.
أما في سنوات مجد هذه العائلة، فقد كان أحد أبنائها مرشحا لكي يجلس في كرسي الوزير الأول، لكن بعض دسائس الوزير القوي، المهدي المنبهي، والذي حكم المغرب فعليا ما بين سنتي 1894 و1901، حالت دون ذلك.
بالمقابل، كان هذا الوزير القوي وراء بروز نجم الوزير بلمختار. وهذا الرجل لوحده يستحق أن يكون موضوع رواية مشوقة، لأن قصته يختلط فيها نموذج النجاح المخزني، بمرارة الفشل. فقد كان الوزير بلمختار أحد المقربين من المخزن لسنوات. وكان يحلم دائما أن يجلس فوق كرسي الوزارة، خصوصا وأنه بدأ مساره «السياسي» كمقرب من تيار خريجي القرويين، الذين لم يكونوا يقبلون بينهم إلا المتعلمين.
لكن المحير في قصة الوزير المنبهي أنه لم يسع يوما إلى الوزارة الأولى، والتفسير الوحيد لهذا «اللغز» أنه كان أكبر من الوزير الأول، فقد كان وزيرا للحرب في وقت كانت فيه البلاد تعرف موجة عدم استقرار سياسي وتمردات كثيرة، بالإضافة إلى أنه كان يلازم المولى عبد العزيز في كل أوقاته وجلساته، وهو الأمر الذي لم يكن متاحا لأي وزير. وهكذا كان المهدي المنبهي يسعى إلى التحكم في الوزراء، رغم أنه كان يحتفظ بمنصب وزاري. وفور علمه بأن هناك مخططا وزاريا، يقوده الوزير الأول رفقة وزراء آخرين، يقضي برفع ملتمس إلى المولى عبد العزيز يطالبونه فيه بإقالة المهدي المنبهي من منصب وزير الحرب، بدليل أنه فشل في إخماد عدد من التمردات ومُني بهزائم في مواقع كثيرة، بل واتهامه باختلاسات مالية، سارع إلى قطع الطريق على الحكومة، وأشار إلى المولى عبد العزيز بضرورة إقالة الحكومة وتشكيل حكومة أخرى جديدة أكثر قوة لمواجهة الأزمات، وفعلا تأتى له مطلبه.
في ساحة القصر، التقى المنبهي بالوزير بلمختار، وأخبره أنه سيقترح اسمه ليصبح وزيرا أول. وهو الأمر الذي استقبله بلمختار بكثير من الفرح، لكنه لم يكن يعلم أن أيامه الأخيرة في الوزارة أصبحت قريبة.
ما وقع أن المنبهي دفع بالوزير بلمختار ليصبح وزيرا أول، لكن الأخير انقلب على المنبهي فور تعيينه من طرف المولى عبد العزيز ليكون على رأس الوزارة. ربما لم يكن بلمختار يعرف وقتها الحجم الحقيقي للمهدي المنبهي، فانتقم منه الأخير شر انتقام وأبعد بلمختار لاحقا عن الوزارة، بل وانتقم منه المنبهي، وورد في بعض النصوص، خصوصا التي تؤرخ لأرشيف الدبلوماسيين الأجانب بالمغرب، أن الوزير بقي معتكفا بداره، إلى أن سمع بنهاية المنبهي، بعد فشله في إلقاء القبض على «بوحمارة»، لينجح أخيرا انقلاب سياسي ضده، وافق عليه المولى عبد العزيز في ساحة القصر الملكي، ليصبح المهدي المنبهي رسميا خارج أسوار القصر الملكي، ويتنفس معارضوه الصعداء، بعد تأكيد رحيله نهائيا إلى مدينة طنجة التي قضى بها أيامه الأخيرة.
وقد ذكر مؤرخون أمثال عبد الرحمن بن زيدان، ومحمد بركاش أن المهدي المنبهي رغم أنه أقيل وعوقب، بسبب فشله في إخماد ثورة بوحمارة، إلا أنه ظل يعتقد أنه لا يزال وزيرا، بل إنه كان يراسل السلطان سيدي محمد بن يوسف، إلى حدود ثلاثينيات القرن الماضي، ويقترح عليه آراءه في الأحداث التي يعرفها المغرب في ظل الحماية، من منفاه الاختياري في طنجة الدولية.. لقد كان المنبهي يعتقد أن المغرب الذي مارس فيه الحكم لا يزال موجودا، وأن رسالة منه إلى السلطان، قد تُعين، وتُقيل.