شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

سجون سيئة السمعة أشهرها من إبداع القياد والاستعمار

يونس جنوحي

«هي فعلا سجون مغربية سيئة السمعة. بعضها ورثناه عبر التاريخ، وأخرى «أبدعها» أناس دخلوا التاريخ المغربي، وأخرى ورثناها عن الاستعمار بكل بساطة.

السجون القديمة كانت خليطا من حفر تحت الأرض أو قصور مصادرة من أصحابها عُذب داخلها أتباعهم.

فكرة السجن في المغرب، بدأت بفرض الإقامة على بعض الأشخاص داخل منازلهم والحكم عليهم بعدم مغادرتها إلا إلى المقبرة، ثم تطورت الفكرة في أزمنة عدم الاستقرار السياسي، لتصبح مقرات ينقل إليها هذا النوع من الناس، ويُتركوا داخلها إلى أن يفارقوا الحياة، ثم تطورت الأمور في ما بعد، خصوصا مع مجيء الاستعمار الفرنسي، لتصبح أسوأ، أو أكثر سوء بقليل..»

 

+++++++++++++++++++++++++++++

 

قصبات المغرب الشرقي وجنان بريشة بتطوان.. مراكز تعذيب «علنية»

تاريخ السجون في المغرب يبقى حافلا جدا، رغم أننا لا نعرف عنه إلا النزر القليل، وشهادات عما تبقى من أطلال المعتقلات القديمة التي تعود إلى مئات السنين مثل سجن «قارة» أو «قارا» في مكناس، والذي يؤرخ لابتكار أجدادنا المغاربة لسجن على الطريقة المغربية، في وقت لم تكن ثقافة السجن شائعة في المغرب. إذ أن مؤرخين مغاربة ومراجع شهيرة مثل «الاستقصا»، أظهرت أن السجناء المغاربة في زمن غابر كانوا يُجبرون على ملازمة منازلهم ولا يُسمح لهم نهائيا بمغادرتها، مثل ما وقع في الدولة المرابطية ثم نسبيا مع الدولة السعدية. ثم قامت هذه الأخيرة، بابتكار سجون قبل خمسة قرون تقريبا، لم تشيد وإنما حفرت نواحي مدينة تارودانت، عاصمة الدولة وقتها، لكي ينقل إليها الذين حكم عليهم القضاة بالسجن، إما بسبب معارضتهم لملوك الدولة السعدية وإما لقيامهم بمضايقة القوافل التي كانت تعبر إلى الصحراء الإفريقية.

مؤسف فعلا ألا توجد مراجع للتعريف بأشهر السجانين، إذ بدا واضحا أن تلك السجون صممت أساسا لتكون بدون حراس، حيث يودع داخلها المُدانون ولا يسأل عنهم أحد بعد ذلك إلى أن يفارقوا الحياة في تلك الأقبية.

مع مجيء عهد القياد والباشوات زمن السيبة، أي بعد سنة 1894، ظهرت السجون التي شيدت وسط القلاع والقصبات والقصور التابعة لهؤلاء القياد النافذين، أو القياد الذين صودرت ممتلكاتهم، وتحولت مقرات سكناهم السابقة إلى سجون يساق إليها الخارجون عن قوانين هؤلاء القياد.

وعلى إثر أحداث الستينيات من القرن الماضي، تحولت تلك القصبات إلى مراكز سرية للتعذيب واستنطاق المتهمين، وهي نفسها المقرات التي فضحتها تقارير هيئة الإنصاف والمصالحة والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، بداية الألفية. إذ تحدث المغاربة لأول مرة بشكل صريح عن دار المقري في الرباط، والتي كانت دارا للوزير الأول وصودرت منه بعد الاستقلال حيث نفي إلى فرنسا، وأصبحت إقامته الفخمة مقرا لتعذيب المعتقلين على خلفية الصراع الأمني الذي عرفه المغرب بعد الاستقلال.

ونفس الأمر ينطبق على معتقلات المغرب الشرقي في سبعينيات القرن الماضي، حيث عرفت قصبات أكدز وقلعة مكونة بكونها مقرات لتعذيب المنتسبين إلى التنظيمات السرية، على خلفية ما عرف وقتها بمؤامرة 1973.

أما جنان بريشة في تطوان، فقد كان سجنا سيئ السمعة في الشمال والمغرب ككل، عندما تحدث بعض الوطنيين لأول مرة في ثمانينيات القرن الماضي، قبل الإنصاف والمصالحة بأزيد من عشر سنوات، أبرزهم الحاج أحمد معنينو، عن هذا المعتقل السري الذي كان سجنا قضى به المعارضون لبعض قدماء المقاومة في الشمال، والذين كانوا تابعين لحزب الاستقلال سنوات تحت رحمة جلادين من قدماء المقاومة، اشتهروا لاحقا بالعمل في صفوف الأمن قبل أن يتم إعفاء أغلبهم بعد سنة 1960 عندما تم تجديد إدارة الأمن وتسريح بعض الأسماء خارجها.

دار بريشة، التي كانت سجنا غير نظامي سنة 1956 وبقيت كذلك إلى بداية الستينيات، استقبلت أشهر المعارضين السياسيين المغاربة أمثال الطود والعراقي  وغيرهم، حيث تعرضوا داخلها للتعذيب، وكان عدد الذين غادروها أحياء محدودا جدا.

 

سجون الاستعمار.. فظاعات لا تسقط بالتقادم

جزء كبير من التاريخ المتعلق بممارسات المستعمر الفرنسي في السجون التي أنشأها في المغرب، يبقى شفهيا للأسف. نعم، أمر مؤسف ألا يتم التوثيق لما مورس في سجون فرنسا في المغرب، والتي ورثنا بعضها بعد الاستقلال.

خلال زمن الحماية الفرنسية، أي قبل 1955، كان إرسال المعتقلين على خلفية الأنشطة الوطنية، إلى سجون مثل «اغبيلة» في الدار البيضاء أو السجن المركزي في القنيطرة، موجبا لإقامة الجنائز في منازل أسر المعتقلين، لأن الخروج من تلك السجون القاسية كان أشبه بمعجزة. وحتى الذين نجوا منها، تناقلوا شفهيا قصصا مرعبة عن التعذيب والاستنطاق الذي مورس على المعتقلين، حيث كانت الأشغال الشاقة، أشهر العقوبات التي فرضت على السجناء، ونال عبد السلام بناني، رغم قيمته الاعتبارية في الحزب وتكوينه الأكاديمي، نصيبه منها.

عبد السلام بناني، وهو واحد من الذين اشتغلوا في صفوف المقاومة بالدار البيضاء والرباط وأحد أعمدة تكوين المقاومين، كان على علاقة وطيدة بحزب الاستقلال وبالمهدي بنبركة ومحيطه. قام بناني بمحاولة لتوثيق تجربته في السجون الفرنسية التي اعتقل فيها أكثر من مرة بتهمة تهديد الأمن العام واستهداف الفرنسيين. هي عبارة عن مسودة مذكرات لم يكتب لها أن تنشر كاملة، لكن أقاربه، خصوصا بعد وفاته بعد كتابتها بسنوات قليلة، قرروا أن يعيدوا تنقيح ما تركه عبد السلام بناني، ويعيدوا نشره وفاء لطلبه الأخير.

هناك فقرة يتحدث فيها عبد السلام بناني في مذكراته التي نُشرت في كتاب متوسط يحمل اسم مذكرات «الأب الهادئ» ما يلي:

«صدرت الأحكام بالإعدام في حق عبد اللطيف بن قدور واثنين آخرين، فيما كان السجن المؤبد من نصيب الهاشمي فاتح. فيما تم إطلاق سراح اثنين هما عبد السلام بن محمد والعربي بن الحسن. التهمة هي قتل ثلاثة أوروبيين وهم: ريبيس- راماجوا- سبورا. وفي إحدى الليالي جاء الحراس ليأخذوا عبد اللطيف بن قدور والحسن بن يدار لينفذ فيهما الإعدام، فصار الأخ عبد اللطيف يصيح قائلا: إخواني إني سأموت شهيدا، أطلب منكم أن تبلغوا إخواننا في الخارج أنني سأموت..

وفي نونبر حكمت المحكمة العسكرية على آخرين بعشرين سنة سجنا. وعلى محمد بن قاسم بخمس سنوات. وكانت التهمة هي قتل اثنين من المخازنية في كاريار سنطرال.

في ماي 1954 وقعت محاكمة 22 متهما من أجدير وألقي عليهم القبض قبل ذلك بسنة. وكانت المحاكمة كلها ضد أعضاء في حزب الاستقلال لمحاولة إلصاق تهمة أحداث 1952 للحزب. وحكم على بعضهم بالسجن فيما طلب تسريح الآخرين نظرا لحداثة سنهم وقلة الحجج.

في ماي 1954 بدأت محاكمة 55 فردا من جماعة اليد السوداء من بينهم محمد الراشدي وأحمد اليوبي ومولاي الطاهر العلوي، ثم عبد السلام بناني».

كما أن أرشيف المقاومة المغربية، يحتفظ بمضامين التاريخ الشفهي الذي حكاه المقاومون أمثال صفي الدين والأعرج، وهما أحد أبرز الذين اشتغلوا في الخلايا السرية للمقاومة إلى جانب محمد الزرقطوني، بالإضافة إلى شهادة المقاوم منصور، الذي تحدث عن تعذيب المعتقلين على خلفية المظاهرات الرافضة لفرنسا، خصوصا في أحداث غشت 1953، حيث انتزعت أظافرهم أثناء التحقيق معهم وأجبروا على المشي حفاة فوق الزجاج، والذين كتبت لهم النجاة وغادروا السجن سنة 1955 حكوا عن تنفيذ الإعدام في زملائهم وحملوا معهم أثر التعذيب بعد الاستقلال.

 

 

 

+++++++++++++++++++++++++++++

 

عندما كان الحبس يعني «المؤبد».. هكذا كانت سجون «أغمات»

على عهد الشيخ أبي زيد عبد الرحمن الهزميري، وعلى عكس ما كان يروج بخصوص تنفيذ الحدود حسب الشريعة الإسلامية، خصوصا قطع يد السارق، كان مصير أحد الذين ضبطوا بتهمة السرقة، السجن. بعد أن قام بسرقة  ثمانين دينارا من الذهب وحجر من الياقوت وكرة من العنبر. وقد جاء ذكر قصته في واحدة من الإشارات التي قدمها ابن زيدان، المؤرخ السابق للمملكة، عن أقدم الإشارات في تاريخ المغرب لوجود السجون.

«السرقة لم تكن سهلة، وتعرض لها في تلك الفترة غني من أغنياء أغمات، وبالتالي فإن حاكم المدينة انتقم للغني وشدد على ضرورة إيجاد الفاعل وسجنه حتى يكون عبرة لمن يعتبر. أطلق رجاله بين أزقة أغمات وخيامها، وفتشت المنازل وسجن المشتبه فيهم، بحثا عن المسروقات. ورغم أن المتعارف عليه في تلك الفترة، إقامة حد السرقة على السارق بأن تقطع يده كما تنص الشريعة، فإن الحاكم ارتأى أن يقذف بالسارق في السجن مدى الحياة حتى يموت فيه». ولم يكن في الأمر أي تساهل. فالإشارات التاريخية المتوفرة في هذا الباب، كلها تتحدث عن السجن كوسيلة للعقاب، وتورد بعض الحالات التي أدت بالمذنبين إلى السجن، لكنها لم تقدم أي إشارة لاحتمال خروجهم منه بعد مدة، أو تحديد مدة العقاب على الأقل. كان أغلب المحكومين بالسجن، يدخلون زنازين أشبه بالقبور وربما أضيق. ولا يخرجون منها إلا إلى المقبرة.

 

من إقامة الحدود

يورد التاريخ قصة أخرى لدرجة التعذيب القصوى التي تتمثل في الموت البطيء داخل «الحبس»، وتتعلق بأحد المزورين للنقود كان يدعى «بريبر»، حيث عرف عنه ضرب الدراهم المزورة، وتقوت التهمة ضده بشكل كبير. نهايته كانت عندما جاءه فقيه فاس، وكان يدعى عيسى بن أحمد الماواسي البطيوي، وحكم عليه بالسجن المؤبد.. الفقيه الفاسي قاس حكمه، كما تتحدث المصادر التي تطرقت للواقعة في أكثر من كتاب، على فتوى ابن عرفة والذي أفتى بعقوبة قاسية في حق مزوري النقود وضاربي العملة ومروجيها، حيث قال في فتواه إن الذي يقدم على هذه الجنحة مصيره «أن يخلد في السجن حتى يموت».

كانت هناك أيضا تهمة أخرى كانت كفيلة بتغييب أصحابها في السجن لعقود طويلة، وتتعلق باستخلاص أموال «الخراج». فقد كان المتهربون من دفع الضريبة يلقون في السجون حتى يكونوا عبرة لمن يتهرب من دفع المال لخزينة الدولة. وشهدت فترة حكم المرينيين إلقاء الكثير ممن يتوجب عليهم أداء أموال متراكمة للدولة في غياهب السجون التي قلما يخرج منها أحدهم حيا.

وداخل السجن في الحالتين، كانت الزنزانة، كما جاء في أحد الأوصاف، عبارة عن فجوة ضيقة جدا بين جدارين، لا يستطيع السجين الجلوس فيها بشكل مريح، ويستحيل أن يمد رجليه داخلها، بالكاد يتسرب إليها الهواء، وفيها فجوة ضيقة يلقى منها الطعام لإبقائه على قيد الحياة. فيما بلغت العقوبة القصوى، أن يتم حفر حفرة عمودية في الأرض، وكأنها قبر عمودي، يلقى فيها السجين وتغلق فوق رأسه، مع الإبقاء على فتحة يُلقى منها الطعام، ويترك على ذلك الحال إلى أن يموت. لكن هذا النوع من التعذيب، كان يُمارس فقط في الفترات التي كان فيها عدم استقرار سياسي في المغرب القديم.

 

سجون مغربية بدون حراس تعود إلى 700 سنة وأكثر

لم يتبق منها إلا بعض العلامات القديمة. توزعت حسب الأدوار التي لعبتها المدن التاريخية في السياسة المغربية على امتداد القرون الماضية. عندما كانت تارودانت عاصمة للدولة السعدية، التي انتهى وجودها سنة 1659، كانت السجون أقسى ما يوجد في تلك الدولة. أماكن بُنيت خصيصا لمعاقبة الخارجين على نظام ملوك الدولة السعدية. إذ كانت تلك «الدور» أسوأ مكان قد يرغب أي أحد في الوصول إليه. ولا تزال آثار بعضها باقية إلى اليوم.

في منتصف تسعينيات القرن الماضي، نوقشت أطروحة للإجازة في تخصص التاريخ، وقعها الطالب محمد الشناوي، في جامعة ابن زهر بأكادير، كان موضوعها السجون والأقبية في منطقة سوس. وتطرق الطالب إلى مجموعة من الحقائق المنسية بخصوص هذه السجون التي كانت تشيد على طريقة تشييد «الخطارات»، أي نظام الصرف الصحي القديم، وكان يودع فيها بعض رجال القبائل الذين شكلوا خطرا على التجار الذين كانوا يفدون إلى تارودانت، عاصمة الدولة السعدية، والمعبر الأبرز نحو صحراء إفريقيا، حيث كانت الدولة السعدية، حسب ما أشار إليه الباحث، لا تتساهل في عقاب الذين يتعرضون للقوافل ويمارسون «الحرابة»، حيث يكون مصيرهم النفي إلى تلك السجون التي كانت تشبه السراديب، والتي كانت تقع خارج المدينة.

وبعد عهد الدولة السعدية، خصوصا خلال فترة حكم المولى إسماعيل، الذي حكم المغرب ما بين سنوات 1645 و1727، حيث كثرت في عهده حروب المغرب مع أوربا، كان يعيش في مدينة مكناس مئات الأسرى الأجانب، خصوصا الفرنسيين والبرتغال، وذكر بعضهم، مثل الأسير «موييط» الذي ألف مذكراته بعد نجاته من الأسر، أن السجون المغربية كانت الأسوأ مقارنة مع سجون أوربا. وكان وقتها سجن «قارا» في مكناس، أحد أسوأ السجون سمعة في تاريخ المغرب، حيث كان الداخل إليها مفقود والخارج منه، إن وُجد، مولود. مع الإشارة إلى أن تلك السجون كانت بدون حراس. ورغم أن الأجانب كانوا يعيشون في أماكن مخصصة لإيوائهم في ظروف صعبة للغاية، إلا أنهم كانوا محظوظين لأنهم لم يُرسلوا إلى سجن «قارا»، أو «قارة» كما سمي في بعض مراجع المؤرخين المغاربة.

كانت هندسة السجن، تعكس الرهبة التي أحاطت بسمعته طيلة قرون، خصوصا وأنه اشتهر في عهد المولى إسماعيل، حيث كانت الدولة المغربية لا تتساهل أبدا في عقاب الخارجين على سلطة المخزن، خصوصا القبائل المتمردة، حيث كان عدد من هؤلاء، خصوصا من منطقة عبدة ثم سوس لاحقا، من أوائل ضيوف سجن «قارا» سيء السمعة.

إذ كانت السجون قبل مجيء عهد المولى إسماعيل عبارة عن خنادق محاطة ومغلقة تُبنى في مخارج المدن والتجمعات البشرية، ويُنفى إليها المدانون بعد عرضهم على القضاء، ويكون الهدف من سجنهم إبعادهم عن الناس، وهناك حالات كثيرة أشار إليها مؤرخون، أبرزهم عبد الكريم الفيلالي ثم عبد الهادي التازي، أكدوا فيها أن جل حالات السجن الشهيرة، كانت وراءها التمردات السياسية وإثارة الفتن، وكان المُدانون فيها يُرسلون إلى السجن ليقضوا به ما تبقى من حياتهم، وتصل أخبار موتهم بعد سنوات على إحالتهم إلى تلك السجون. وكان هذا التقليد قد انتشر كثيرا في عهد المولى إسماعيل وبعده أيضا، بعد أن كان العرف قبل ذلك، خصوصا في عهد المرابطين أن يُسجن المُدانون في منازلهم بأمر من القاضي، حيث كانوا يُجبرون على قضاء ما تبقى من حياتهم داخل منازلهم، ولا يغادرونها نهائيا إلا إلى المقبرة، قبل أن تظهر السجون الأولى في المغرب، والتي كان يوم واحد داخلها، أقسى بكثير من الإقامة الجبرية داخل المنازل لسنوات.

 

سجون القياد.. عوالم مظلمة لمعاقبة معارضي باشوات الأربعينيات

عندما تسمع اسم الباشا البغدادي في فاس، والذي قتله المغاربة الغاضبون من الاستعمار في وسط شوارع الرباط سنة 1956، أو عن القايد العيادي، وحتى الباشا الكلاوي، فإن هؤلاء جميعا، وغيرهم كثير، كانت لديهم سجونهم الخاصة التي يرسلون إليها معارضيهم وكل من يخالفهم أو يشكل تهديدا لسياستهم.

تلك السجون كان يسيرها «الخدم» الذين عملوا في قصور هؤلاء القياد والباشوات، وكان سجن الكلاوي في مراكش، الأسوأ سمعة بشهادة قدماء المقاومة المنحدرين من المنطقة، مثل أيت إيدر وعبد السلام الجبلي، وامحمد بوستة، وغيرهم من الذين تأثروا بالحركة الوطنية. فالباشا الكلاوي كان معروفا بموقفه الرافض للحركة الوطنية ورموزها والمنخرطين فيها، وكان سجنه الذي أسسه في واحدة من الإقامات التابعة لعائلته والتي ورثها عن أخيه الأكبر المدني الكلاوي، الأسوأ سمعة على الإطلاق.

إذ كان يمارس فيه التعذيب ونزع الاعترافات بشأن تهم تافهة مثل السرقات البسيطة في زمن المجاعة، حيث أجبر الناس على البحث عن لقمة لهم ولأبنائهم. وكان هؤلاء الفقراء يدخلون السجن في وقت كان القياد يمارسون نهب الأراضي ويفرضون الضرائب على الناس باسم الدولة المغربية. وتوجد في أرشيف المراسلات الملكية، عدد من المراسلات التي وقعها السلطان سيدي محمد بن يوسف، والتي تعود إلى منتصف أربعينيات القرن الماضي والمتزامنة مع عام البون، وعممت على القياد والباشوات، تطلب منهم عدم معاقبة الذين يسرقون الحبوب لإطعام أسرهم خلال زمن المجاعات ويأمر فيها السلطان القياد بعدم فرض الضرائب في الأسواق الأسبوعية، لكن القياد التابعين للباشا الكلاوي لم يلتزموا بالتعليمات واستمرت عمليات الاعتقال وعقاب الذين لا يملكون المال للدفع.

سجون الكلاوي، سيئة السمعة، وصفها الوطنيون خصوصا رفاق الفقيه محمد البصري، بأنها مكان لتعذيب الرفاق الذين يرفضون الوجود الفرنسي في المغرب، حيث يتم جلد المعتقلين والذين كان أغلبهم تلاميذ في مدارس مراكش، وهي نفسها التجربة التي خاضها عبد الرحمن اليوسفي عندما درس في مراكش بداية الأربعينيات من القرن الماضي رفقة الزعيم الاستقلالي امحمد بوستة، حيث كان الاثنان معا يسمعان عن الفظائع التي ارتكبها الباشا الكلاوي في السجون التي يرسل إليها الوطنيين بدون رحمة بتهمة معاداة فرنسا. ويتفنن أعوانه في تعذيب المعتقلين وجلدهم ونزع أظافرهم، ويتم الاحتفاظ بهم في تلك السجون التي كانت عبارة عن أقبية أو محلات داخل القصبات المنتشرة نواحي مراكش، والتي كانت في ملكية الباشا الكلاوي أو في ملكية رجاله من القياد التابعين لمنطقة نفوذه. عمليات الاعتقال تلك كانت طبعا تتم خارج القانون، وبدون أحكام. إذ كان يقررها الباشا الكلاوي بصفته رئيسا للقضاة، وهو المنصب الذي خول له إصدار أوامر الاعتقال دون الرجوع إلى القضاة، حيث ذكر عدد من الوطنيين أنهم عرضوا في مناسبات كثيرة على الكلاوي شخصيا، وأمر أعوانه بنقلهم إلى المعتقلات لقضاء عقوبات طويلة يتخللها التعذيب، دون أن تعلم أسرهم مكانهم، ولا يتم إطلاق سراحهم إلا في حالات اكتظاظ السجون بالمعتقلين، حيث يتم إخلاء سبيلهم لترك المجال لسجناء جدد.

هذه السجون التي كانت خارج القانون، ولا تعلم الدولة المغربية بوجودها، ما بين أربعينيات ومنتصف خمسينيات القرن الماضي، كانت آخر نماذج هيمنة رجال السلطة على الدولة، أمثال الباشا الكلاوي ومن معه، إذ أن تلك القصبات التي كانت سجونا في السابق، صودرت وأصبحت من ممتلكات الدولة المغربية بعد مصادرة أملاك «الخونة» في إطار ما عرف وقتها بلائحة 1955، والتي كانت تضم أسماء مئات القياد الذين كانت قلاعهم سجونا لتعذيب الخارجين عن سلطة القبيلة.

 

عندما كتب القنصل الأمريكي بطنجة عن السجون المغربية سنة 1909

يتعلق الأمر هنا بالقنصل الأمريكي إدموند هولت، الذي نشر سنة 1909 مذكرات بعنوان «حياة في أرض الغروب»، حيث تطرق إلى سجن طنجة في تلك الفترة التي كانت فيها المدينة دولية، أي أن السجن وقتها كان يُحال عليه بموجب قرار قضائي، بعد جلسات في المحكمة وتملكه الفضول وحضر تلك الأجواء، وكتب عنها:

«لم أستطع فهم انطباعات الموظفين المغاربة، ولا تقديرهم للأمور، لذلك فضلت أن أحضر المحاكمة بنفسي. وبالتالي، فقد سمعت أطوارها في قاعة المحكمة. وزير الحرب، والمسؤول عن الشؤون الخارجية يزكيان التهمة ضد الأمريكي، عن طريق أحد عبيدهم، واسمه علي.

كانت الجلسة مفتوحة. وسمعت التهم، وتم استدعاء 20 شاهدا من بين شهود القضية. عشرة من هؤلاء الشهود أقسموا أن علي محمد كان سكرانا ولم يكن واعيا بتصرفاته. والعشرة الآخرون أقسموا أنه فقط كان غاضبا.

المثير في القضية أن المحكمة هي التي أحضرت العشرة الذين أقسموا أن علي لم يكن سكرانا. بينما أحضر علي نفسه أصدقاءه لكي يشهدوا أنه كان في وضعية غير طبيعية قبل اعتقاله.

قد يبدو هذا الأمر غريبا لكم. لقد بدا لي أيضا كذلك. لكن هناك قوانين في الكتاب المقدس عند المغاربة، تنص على أن الإنسان لا يمكن أن يُحاسب على تصرفاته إن كان تحت تأثير الكحول. والقضاة المغاربة فضلوا أن يأتوا بالشهود على أن علي لم يكن سكرانا أصلا، وذلك حتى يستطيعوا إنزال عقاب شديد عليه وتعذيبه لأنه سب السلطان وسب الله.

علي كان يحاول تبرير تصرفه بتحمل أخف العقوبات وهي تعاطي الخمر. وتسقط عنه تهمة سب المقدسات.

لم أستوعب أن يأتي عشرة من الرجال لكي يشهدوا أن علي لم يكن سكرانا. بينما عشرة من أصدقائه، بينهما أمريكيان قطعا معه البحر من جبل طارق وجاء معه إلى المغرب في نفس اليوم الذي ارتكب فيه المخالفة، وشهدا مثلما شهد المغاربة أن علي كان في وضع غير طبيعي، وفي حالة لم يكن ممكنا له فيها أن يتعرف على والده.

لقد كان الأمر سرياليا ومضحكا. حُكم على علي محمد بستين يوما في السجن المحلي. يوما واحدا فقط بعد إطلاق سراحه عاد لنفس الفعل والإساءات.

في هذه المرة، جاؤوا به إلي، وحاول أن يسلم علي وفقد توازنه. لقد بدا لي بالواضح أن تهمته ثابتة. مرة أخرى، ذهب إلى السجن لستين يوما.

كان أمره محيرا. وشدني الفضول تجاهه. وبقيت أتابع حالته، وفي اليوم الذي أطلق فيه سراحه طلبت أن يأتوا به إلي لأتحدث معه فور إطلاق سراحه.

قلت له: -علي. لقد طلبت منهم أن يأتوا بك إلي هنا لكي أحذرك. في المرة المقبلة قد يحكمون عليك بفترة سجن أطول وغيرت نبرة صوتي لتبدو أكثر جدية، رغبة في أن تؤثر فيه.

تبسم علي، وبدأ في السعال.

قلت له آمرا: -أخبرني عن هذا الأمر يا علي.

رد علي: -في المرة الأولى تعرفت على صديق هناك في السجن، هذا الرجل هو الذي يحتفظ بمفاتيح السجن.

حاولت إخفاء ضحكتي قدر الإمكان. فقد فهمت أن علي طيلة أشهر وجوده في السجن كان يعمل مساعدا للحارس.

علي: – ثم.. هذا صديقي، يا سيدي القنصل، طلب مني أن أهتم بوضعية السجن. كانت زوجته مريضة، وكان يتركني في السجن ويسلمني المفاتيح لأقوم بالمراقبة مكانه. لقد قضيت أوقاتا ممتعة هناك. نعم.

قلت له: -علي، نعم، لقد سمعت أنك قضيت وقتا ممتعا في السجن. كم ربحت من المال في السجن؟

هذه المرة لم يستطع علي كبح نفسه وإخفاء ضحكته. وقال:

-هل تعلم بهذا الأمر؟ طيب.. لقد جنيت بعض المال. هذا صحيح. لقد كان الأمر بهذه الطريقة يا سيدي القنصل. عندما كان صديقي يسلمني المفاتيح ويخرج لرعاية زوجته المريضة، كنت أراقب المساجين وأقول لنفسي: ماذا ستربح يا علي من مراقبة كل هؤلاء المجرمين؟ وهكذا فكرت في الأمر بعض الشيء. وهكذا توجهت لرؤية الخليفة وتوصلت معه إلى اتفاق. كل سجين يأتي إلى السجن يدفع لي أربعة ريالات، أي 10 سنتات أمريكية. بطبيعة الحال كنت أسلم نصفها للخليفة. لقد جاء مساجين كثر إلى السجن يا سيدي القنصل. الكثيرون.. وكلهم دفعوا 10 سنتات أمريكية.

فجأة اختفت الابتسامة من وجه علي، وحاول التظاهر بالجدية هذه المرة: -لكنني يا سيدي القنصل حارس أمين. لا أدع أحدا يغادر السجن ولا أغادره. كلهم يريدون عودتي إلى السجن. عندما أغادر يقولون لي: علي، أنت رجل صالح، عليك أن تعود إلى السجن. هل تريدني أن أعود إلى السجن يا سيدي القنصل؟

أجبته: -لا يا علي. أظن أن الحكومة سجنتك ما يكفي من المرات. ربما إذا قضيت ثلاثة أشهر أخرى في السجن، ستصبح هذه المرة باشا المدينة. وربما قد تكون لدي مشاكل معك.

مازحته بعبارات عامية حماسية على الطريقة الأمريكية، أحثه على المضي بحياته، وأدخلت على قلبه الفرحة، خصوصا وأنه كان طباخا في فندق بنيويورك.

رد علي: -نعم سيدي القنصل. سأفعل.

تردد للحظات وكأنه يبحث في ذاكرته عن شيء ما. وبعدها ألقى علي التحية ببطء وقال:

-سيدي القنصل، وداعا، وشكرا لك.

عاد علي إلى مكان نشأته، إلى مكان ربما يستطيع فيه أن يسب الحكومة دون أن يعاقبه أحد، وربما سيكرمونه هناك إذا انتقد المسؤولين.

«تستطيع دائما أن تحكم المسلم بإخباره الحقيقة. وأن تعامله بصدق وباحترام زوجته ودينه». قولة لريشارد بورتون. لكن هذه القولة قد تشمل بعض المسيحيين أيضا».

انتهت شهادة «هولت» بخصوص واقع السجن في المدينة التي عاش فيها لسنوات، وقد تحدث في هذه المذكرات عن اندهاشه للخصوصية المغربية في هذا الباب، بعد أن سمع الكثير عن السجون المغربية القديمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى