شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

صنع في الصين

اجتاحت فرحة عالمية عارمة صفوف النساء من الطبقات المتوسطة والفقيرة، بعد أن خرج علينا، الأسبوع الماضي، عدد من التجار الصينيين عبر منصة تيكتوك ليؤكدوا لنا بالدليل والبرهان أن معظم الحقائب اليدوية الأوروبية الفاخرة وباهظة الثمن تتم صناعتها في المصانع الصينية بتكلفة لا تتجاوز الألف دولار أمريكي.

مقالات ذات صلة

انتشرت هذه الفيديوهات بشكل واسع بين رواد التيكتوك وغيرها من المنصات الرقمية، حيث أثلجت تلك الأخبار صدور النسوة الفقيرات اللواتي كن يشاهدن بحسرة شديدة كيف تحمل «لالياتهم» حقائب جلد التمساح الكونغولي المنقرض.

لقد ساهمت مواقع الفوحان الاجتماعي في الترويج لأساليب حياة تجاوزت الرفاهية لتتحول إلى مسخ بشع أو صورة كاريكاتورية مخزية عن ثقافة الاستهلاك الرأسمالية. اتخذ المؤثرون والمؤثرات من إنستغرام، على سبيل المثال، وسيلة للترويج لنموذج معيشي بمعايير خيالية، مما خلق نوعا من الاحتقان الاجتماعي بين صفوف العديد من المغاربة الذين سقطوا ضحية لفخ المقارنات اللامتناهي. لطالما صادفت مجموعة من التعاليق لمراهقات يتساءلن عن السبيل للحصول على آخر إصدارات الآيفون أو عن رحلة مدفوعة التكاليف لدبي. سؤال نعلم جميعا إجابته المخيفة. من الملاحظ أن المفارقات السوسيواقتصادية، التي أصبحت العنوان العريض لعصرنا الحالي، تعكس اهتزازا بنيويا مقلقا في ما يتعلق بنظرة الفرد لنفسه ولقيمته ودوره في المجتمع. لقد انقلبت موازين القوى لصالح البهرجة والضجيج والبوز، وأصبحت معايير النجاح والتفوق والحظوة الاجتماعية مرتبطة بآخر ما غنات أم كلثوم في السيارات والشقق الفاخرة والفيلات المطلة على البحار والمحيطات والأنهار..

أصبح المواطن العادي فريسة تطاردها إعلانات الفيسبوك وتستدرجها ستوريات إنستغرام للهلاك المحقق. لا يجب بتاتا الاستهانة بما نتعرض له يوميا من مظاهر البذخ والاستهلاكية المفرطة وهوس الماركات الإيطالية والساعات السويسرية والرحلات المالديفية، هذا الهوس المرعب كان سببا في وصول العديد من الأسر إلى مآس اجتماعية خطيرة كالطلاق والإفلاس والانتحار.

يجوز لنا القول إن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت تمارس علينا عنفا رمزيا واضحا تعمل من خلاله على تسويق مسوخ بشرية تتحرك بشكل آلي. لسوء الحظ أن بيير بورديو رحل عن عالمنا سنوات قليلة قبل دخولنا عصر السوشال ميديا. فلو عاصر الرجل المنتوجات الرقمية للرأسمالية وكيف بنت إمبراطورياتها على صراع الحقول الاجتماعية لربما كان ليفقد عقله. وفي هذا السياق لا بد أن نتساءل لماذا يصر أبناء الطبقة المتوسطة بالخصوص على أن «يتعلقو فاين يتفلقو»؟ ولماذا تلجأ بعض السيدات للقروض الاستهلاكية من أجل اقتناء حقيبة مصنوعة من جلد ديناصور عاش في العصر الجوراسي الأول؟ هل حقا نحن تافهون لهذه الدرجة؟ أو أن للأمر جذورا سيكولوجية واجتماعية وجب التوقف عندها؟

من الناحية النفسية يمكن أن يكون شراء الماركات الفاخرة بمثابة آلية للتكيف مع مشاعر عدم الكفاءة أو انخفاض احترام الذات. عندما يكبر الأفراد في بيئات حيث الندرة والضغوط المالية مستمرة، يمكن أن تصبح الممتلكات المادية رموزا للنجاح والمكانة والأمان. تمثل العلامات التجارية للمصممين، على وجه الخصوص، معيارا للنخبة – حيث أن امتلاكها، حتى لو كان من حين لآخر، يمنح شعورا عابرا بالإنجاز والانتماء. غالبا ما ترتبط هذه الظاهرة بـ«الشراء الطموح»، حيث يرمز المنتج إلى الحياة التي يريد الشخص أن يعيشها وليس الحياة التي يعيشها حاليا.

إضافة إلى ذلك، فإن هرمون الدوبامين المرتبط بالتسوق يمكن أن يخفف مؤقتا من مشاعر القلق أو الاكتئاب. بالنسبة لأولئك الذين يواجهون صعوبات اقتصادية، فإن لحظات الإشباع هذه قد تكون إدمانية للغاية، مما يعزز بشكل خفي فكرة أن السعادة الحقيقية والحياة المثالية مرتبطان بالثروة المادية. هذا الشعور الوهمي بالانتماء لطبقة اجتماعية معينة يلقي بصاحبه في دوامة لا متناهية من المشاكل والصراعات الداخلية. من حقنا جميعا أن نطمح إلى تسلق السلم الاجتماعي ونرتقي بأوضاعنا المادية وظروفنا الحياتية نحو الأفضل، لكن مع مراعاة شعرة معاوية التي تفصل بين الطموح البناء والانتحار الطبقي.

من الناحية الاجتماعية قد يكون امتلاك ساعة مرصعة بقطعة ألماس ملطخة بدماء طفل أنغولي بمثابة وسيلة لكسب الاحترام أو رأس المال الاجتماعي. في العديد من المجتمعات، وخاصة تلك التي يعتبر فيها الصراع الاقتصادي أمرا شائعا، فإن إظهار الثروة ــ حتى لو كان سطحياـ قد يغير من الطريقة التي ينظر بها الناس إلى الشخص. قد يتم التعامل مع الشخص الذي يحمل حقيبة «أوريجينال» باحترام أكبر أو يُنظر إليه على أنه ناجح بغض النظر عن وضعه المالي الحقيقي. وهذا يخلق حافزا قويا لإعطاء الأولوية للمظاهر على الحكمة المالية.

لقد فككت الصين كل هذه الجوانب السوسيوثقافية في حربها التجارية ضد ترامب، حيث بدا العالم عنصريا طبقيا نخبويا لا يحترم سوى المنتوجات الفكرية والسياسية والاقتصادية للمركزية الأوروبية البيضاء. ففي عالم يدفع مئات الآلاف من الدولارات ثمنا لحقيبة حاكتها سيدة إيطالية شقراء، بينما يحتقر الحقيبة نفسها المصنوعة من طرف عاملة صينية بسيطة. لا يسعنا إلا أن نحترم دار الأزياء الفرنسية التي اتخذت من هيرميس، «إله اللصوص»، اسما لعلامتها التجارية التي استولت على ملايير الدولارات من جيوب صحاب العياقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى