حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

طيور الظلام

في فيلم «طيور الظلام»، الذي أخرجه شريف عرفة وكتب نصه العبقري وحيد حامد، كان المشهد أشبه بمختبر سياسي واجتماعي، تتقاطع فيه كل تناقضات مصر والعالم العربي، المحامي الانتهازي، الإسلامي المتدين الذي يتاجر بالدين، ورجل الدولة العميقة الذي يعرف أن البقاء في السلطة أهم من أي مبدأ. ثلاثية صنعت ما يشبه لوحة كاريكاتورية ممتدة عن واقعٍ لم ينتهِ حتى الآن، بل ربما صار أكثر سخرية. والسؤال الذي يطرح نفسه، اليوم، هل كان «طيور الظلام» مجرد فيلم سياسي جريء في تسعينيات القاهرة أم قراءة استشرافية لمصير العالم العربي في العقدين الأخيرين؟

الجواب يبدو بديهياً حين نتأمل ما جرى بعد «الربيع العربي». الإسلام السياسي، الذي قُدم في الفيلم كقوة طموحة تلتهم الدولة من الداخل، لم يتأخر في الظهور على مسرح الأحداث، مدعوماً بقدرة فائقة على دغدغة مشاعر الجماهير.. لكن سرعان ما اكتشف الناس أن الشعارات الخضراء لا تختلف كثيراً عن الشعارات الحمراء أو الزرقاء، كلهم يصعدون إلى المنبر متوضئين بالوطنية والطهارة، ويهبطون من الكواليس غارقين في الصفقات. الدولة العميقة من جانبها لم تتقاعد، بل كانت كالعجوز الذي يجلس في الظل، لا يتعب من تذكير الجميع بأن اللعبة لها قواعدها، وأنه لا أحد يسمح له باللعب إلا بترخيص من الحارس الأبدي.

وحين يعيد المشاهد قراءة الفيلم، في ضوء ما يحدث اليوم، يجد أن الفارق بين شخصياته الثلاث مجرد ديكور لفظي. الإسلاميون تحدثوا عن الشريعة، والليبراليون عن الديمقراطية ورجال الدولة عن الاستقرار، لكن الجوهر واحد: البحث عن السلطة والثراء. هذا ما جعل مشهد «الصفقات تحت الطاولة» في الفيلم يبدو وكأنه تسجيل مسبق لاجتماعات حقيقية في برلمانات عربية خلال العقد الأخير. كلهم يدّعون الطهارة في النهار، ويتقاسمون الغنائم في الليل، أما الشعوب فتصحو كل صباح لتكتشف أن الحلم بالديمقراطية كان مجرد مزحة ثقيلة.

المفارقة العجيبة أن وحيد حامد كتب نصه قبل أن يتفجر الصراع بين «الإخوان» والعسكر في مصر، وقبل أن تنقسم المنطقة بين مشاريع دينية ومشاريع سلطوية. ومع ذلك كان قادرا على أن يلتقط جوهر اللعبة، أن الصراع ليس بين الإيمان والكفر، ولا بين الشرعية والانقلاب، بل بين مجموعات متنافسة على كعكة السلطة. هذه الرؤية تنطبق على ما نراه اليوم في أكثر من بلد عربي: في تونس مثلاً، حيث تحولت الثورة إلى تناوب بين الإسلاميين والبيروقراطيين على الكراسي نفسها؛ في السودان حيث انقسم المشهد بين العسكر والإسلاميين والميليشيات، لكن المحصلة واحدة: الخراب. وفي المغرب أو الجزائر أو غيرهما، نجد نسخة محلية من المسرحية ذاتها، مع تغيير أسماء الأبطال فقط.

وإذا كان «طيور الظلام» بدا في حينه فيلماً جريئاً يفضح فساد النخب، فإنه اليوم يبدو متواضعاً أمام فانتازيا الواقع. ففي زمن الفيلم كان السياسيون ما زالوا يحرصون على بعض المكياج: خطب رنانة، مؤتمرات مملة وادعاءات حول القيم.. أما اليوم، فالفساد صار يعلن عن نفسه في صفقات النفط والغاز والسلاح على الشاشات، بينما الشعوب تتابع ذلك كما لو كان مسلسلاً رمضانياً من 30 حلقة بلا نهاية. الإسلاميون، الذين رفعوا شعار «الإسلام هو الحل»، انتهوا إلى حل جيوبهم أولاً، ورجال الدولة، الذين تحدثوا عن «الأمن والاستقرار»، حولوا الاستقرار إلى جدار عازل ضد أي تغيير.. المشهد لم يتغير، بل صار أكثر وقاحة.

من الناحية النقدية، يمكن القول إن الفيلم لم يكن مجرد قراءة استشرافية، بل كان مرآة مبكرة لجوهر النظام العربي، فساد متجذر يتلون بألوان أيديولوجية مختلفة. ولو أعيد إنتاج «طيور الظلام» اليوم، لربما احتاج إلى تحديث في الديكور فقط، بدلاً من مكاتب المحامين والوزارات، سنشاهد استوديوهات الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي، حيث يستعرض الساسة قدراتهم على بيع الأوهام عبر تغريدة أو فيديو قصير. أما الجوهر فسيبقى نفسه، صفقة هنا، رشوة هناك وتواطؤ دائم بين «الطيور» أياً كان لون ريشها.

والسخرية الأشد أن الشعوب، رغم كل التجارب، ما زالت تبحث عن بطل نقي يخلصها من المستنقع، تماماً كما فعل جمهور الفيلم في صالات العرض. لكن الواقع أثبت أن النقاء الوحيد موجود في السينما، وأن السياسة العربية لا تنتج سوى طيور ظلام جديدة. لهذا فإن الإجابة عن السؤال واضحة، نعم، «طيور الظلام» كان قراءة استشرافية للواقع العربي، لكنه، للأسف، لم يكن نبوءة تحتاج إلى عبقرية؛ لأن التاريخ العربي يعيد نفسه بكسل مثير للشفقة. في النهاية، لا فرق بين إسلامي يرفع المصحف في البرلمان، وليبرالي يلوح بالدستور، أو رجل دولة يرفع عصا الأمن، كلهم يخرجون من العش نفسه، عش الفساد، ولا يتركون للشعوب سوى «الخيار» الديموقراطي وصناديق الاقتراع.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى