لم يكن يعلم «جواد كريم» وهو أحد مؤسسي موقع «يوتيوب»، أن أول فيديو سيشاركه على المنصة الرقمية سنة 2005 تحت عنوان «أنا في حديقة الحيوان»، سيتحول على يد المغاربة مستقبلا، من عنوان افتراضي، إلى واقع فعلي. لقد أصبحت نبوءة «جواد كريم» حقيقة ملموسة. نعيش اليوم في زريبة حيوانات إلكترونية شرسة. تتصارع للفتك بفريسة «الأدسنس». سيرك تمارس فيه جميع أنواع الألعاب البهلوانية الخطيرة، من طرف القردة السفلى وكائن الفقمة. أصبح «الويب» المغربي في السنوات الأخيرة، عبارة عن مستشفى مجانين مفتوح. يتردد في ردهاته صدى مخيف، لصراخ الحمقى والمتحولين والمشعوذين. جحافل من الزومبي تجتاح التطبيقات المختلفة. في عملية زحف أبوكاليبسية مرعبة.
تساعد المنصات الرقمية في الترويج للسلع التجارية، وتسهيل عمليات البيع والشراء، والوصول إلى قواعد أكبر من المستهلكين. لا أحد ينكر أن المغاربة «واكلين طرف د الخبز» من خلال التجارة الإلكترونية. رغم الحصار الضريبي المفروض عليهم من طرف «صحاب الحال». غير أن التاجر الرقمي تحول أخيرا، من المتاجرة في زيت الأركان، والصابون البلدي ومنتجات التسمين، إلى المتاجرة في الحب والزواج وليلة الدخلة. لقد تجاوزت الرغبة الملحة لصناع المحتوى في تحقيق الأرباح اليوتوبية الخيالية، عبر نشر غسيلهم العائلي القذر، وفضائحهم الشخصية. إلى ظاهرة أخطر من ذلك. أصبح الزواج آخر صيحات الحبكات الدرامية الانستغرامية لجلب المشاهدات، وزيادة الأصفار على يمين الحسابات البنكية. يقول المثل الشعبي المغربي البليغ: «كل ثور كيحرث مع كرينو». في إشارة ضمنية حكيمة لضرورة التوافق الطبقي والفكري والأخلاقي بين الراغبين في الارتباط. مثل يطبقه «المبعثرون» الرقميون بحذافره. إذ تطل علينا بين الفينة والأخرى أشكال عشوائية غريبة، تدعي زورا أنها «الكوبل المثالي». مجموعات ضخمة من العاطلين والعاطلات عن العمل. من أصحاب المهن الوهمية مثل «كوتش رياضي»، «خبيرة تجميل»، «مصممة أزياء»، «متذوق طعام»، «طباخ تيكتوكي». وما إلى ذلك من الحرف العجيبة. يطل علينا هؤلاء حاملين شعار الحب الأبدي والسعادة الخالدة. ليعلنوا أمام حشود المعجبين المغيبين عن خبر زواجهم. تتقاطر ستوريات عصافير الحب، وهم يروجون لصورة طوباوية عن مايجب أن تكون عليه العلاقات العاطفية. يغرق هؤلاء «النصابة» متابعيهم بصور ومقاطع عن سحر البدايات. هدايا ثمينة، وسفريات باذخة وكلمات غزل ونظرات عشق وهيام. تتحرك مشاعر المراهقات أملا في عريس مستقبلي رومانسي «هماوي» . وتتقد غيرة المتزوجات وسخطهن على واقع عاطفي ومادي جاف. لم يقتصر تحويل الزواج إلى بيزنيس ناجح في عصر «الأدسنس»، على استعراض الجانب المادي والعاطفي لهذا الطقس الانساني. بل تجاوزت المتاجرة الرقمية ذلك، إلى فراش الزوجية وأسرار ليلة الدخلة. لقد أصبح «السروال» محتوى من لا محتوى له.
إن التحولات الراديكالية التي تشهدها البنية السوسيولوجية للمجتمع المغربي، ليست بالهينة أو التافهة. إذ يجدر بنا التوقف والتأمل في العديد من الممارسات الفردية التي قد تبدو تلقائية أو اعتباطية. لكنها تحمل في ثناياها إحداثيات البوصلة الأخلاقية والاجتماعية والدينية لمغرب اليوم. تعتبر الثقافة الجنسية والمخاوف المتعلقة بالزواج في شقه الحميمي، من الطابوهات المسكوت عنها. فكيف تحولت المغربيات من تقديم النصائح الجنسية همسا لعروس جديدة. إلى خروج عروس انستغرامية «لايف» من على فراش الزوجية، للحديث بجرأة وأريحية، حول إحدى أكثر الطابوهات شيوعا؟. هل نستطيع تصنيف هذا الفعل الجريء تحت طائلة المعاول الحديثة لتحطيم المقدس الاجتماعي؟ يواجهنا تحول بنيوي آخر في شخصية الرجل المغربي المعاصر.
هذا الرجل الذي اتخذ على عاتقه في الماضي، مهمة تحرير الوطن من المستعمر، والسعي في الأرض لإعالة الزوجة والأبناء، من عرق جبينه و»حر ماله». كيف تحول هذا الرجل التقليدي الأبي إلى بهلوان يحمل كاميرا، ويلاحق مؤخرة زوجته لجذب المشاهدات؟ كيف أصبح الرجل المغربي يتاجر «بسخط الوالدين» رغبة في مضاعفة أرباح اليوتيوب؟ كيف فقد هذا الرجل القدرة الغريزية على حماية أبنائه، من مخاطر المتاجرة بحياتهم الشخصية طمعا في دراهم «الأدسنس»؟ وكيف انهزمت السلطة الأبوية الصارمة أمام دولارات الاعلانات والصفقات التجارية؟ هل تراجع سلطة الأب التقليدي المحافظ، يعتبر هو الآخر معولا حديثا لكسر المقدس الاجتماعي؟ قد يترفع البعض، على إعطاء أي أهمية تذكر لتأثير كائنات «الأدسنس» على بنية المجتمع المغربي.
غير أن هذا التعالي الأخلاقي على شرائح عريضة من المجتمع ليس حلا أو علاجا للبؤس. فهؤلاء المؤثرون هم أبناء بيئتهم ونتاج خالص للدينامية الفكرية لمحيطهم، لذا فالتساؤل حول الشروخ الأخلاقية التي يحدثها هؤلاء، في النسيج المجتمعي المغربي يظل تساؤلا مشروعا.
لقد وقعنا جميعا، وبدون استثناء، خلال مرحلة ما من مراحل حياتنا، في فخ المقارنات بين واقعنا المادي والعاطفي المتواضع، وبين بريق العلاقات العاطفية الرقمية، وبذخ أساليب عيش «الإنفلوانزا-رز». لا أنكر أنني مررت بلحظات، تحسرت فيها على حظي العاثر، أمام عقد ألماس، أو عطلة في الباهاماس، لمؤثرتي المفضلة، حسرة سرعان ما تتحول إلى شفقة، بعد أن يفجر «الكوبل المثالي» خبر الانفصال، لتبدأ بعدها مباشرة حرب «الستوريات». يتفنن عصافير الحب في نشر غسيلهم الحميمي القذر أمام الملأ. اتهامات بالخيانة، والبخل، ومعارك ضارية حول اقتسام مداخيل اليوتيوب. حرب رقمية شرسة تكشف مدى زيف شعارات الحب الطوباوي، وتفضح مسرحيات الثراء الفاحش. حيث يتبين لنا أن «كلشي كريدي».