شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

قانون الأمانة الزوجية

 

مقالات ذات صلة

 

بقلم: خالص جلبي

 

نتابع قصة انفجار مرض الزنا (الإفرنجي= الزهري= سيفليس =syphilisففي شتنبر من عام 1496م كتب الدكتور (سيباستيان برانت)، مؤلف كتاب (سفينة الحمقى)، ما يلي: «من فرنسا جاءت اللوثة اللئيمة وتسلل الزهري عبر الألب متجاوزا نهر الدانوب إلى ألمانيا، والآن يحصد في تراسيا وبوهيميا ووصل الذعر إلى بولونيا، حيث يسرع إليها»، ثم انفجر المرض في العالم برمته، وغلف بجناحيه السوداوين الكرة الأرضية، بحيث يزداد شدة، حيث تزداد شدة الفسوق والانحراف الأخلاقي. وبالطبع لم يتفطن العالم بادئ الأمر إلى مسبب هذا المرض، ولم تكن عنده فكرة عن عالم الجراثيم والطبيعة الإمراضية التي تحملها الجراثيم. لكن ما عرفه وبشكل واضح؛ هو ارتباطه بالفسق الأخلاقي والشذوذ الجنسي والخيانة الزوجية، ويمكن تجنب المرض وعدم الإصابة به بالأحادية الزوجية، والنظافة الأخلاقية، وتحديد الشيوعية الجنسية!

أصاب المرض شرائح واسعة من المجتمع الأوروبي قوادا وملوكا، شعراء ومفكرين، فلاسفة ونوابغ، فنانين وموسيقيين، وهكذا دُمر دماغ الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) بالصمغ الإفرنجي (1)، وتعفن النخاع الشوكي عند الشاعر المرموق (هاينة)، كما أصاب بيتهوفن بالصمم، وعطب ملك بريطانيا هنري الثامن، فلم تلد له زوجته ماريا الحولاء سوى أولاد أموات، بسبب انتقال المرض من زوجها إليها، فكان هذا سببا في زواج جديد له، بحيث نبذ الكنيسة الكاثوليكية ليتبنى المذهب البروتستانتي! وهكذا تصنع الأمراض التاريخ!

ومع استفحال مرض الزهري تدفق المشعوذون من كل حدب وصوب، واخترعت مئات الوصفات التي تزعم الشفاء من المرض، فلم يترك شيء غريب ومستهجن إلا وجرب للخلاص من هذا المرض، كل أنواع النباتات والطحالب، نقيع لحاء الشجر، غطس المرضى في دماء العجول المذبوحة حديثا، كتابة الرقى للأرواح والنجوم والكوكب، استخدام علم الفلك والجن والأرواح والأشباح، مركبات اليود والبزموت والزئبق، ضمادات الخردل والحشيش والأفيون. وباختصار لم تبق مادة مشكوكة إلا وجربت، ولا عصير أو مستقطر أو محلول أو نقاعة أو خلاصة أو مزيج إلا واستخدم، وكانت أكثر الأدوية والتي تقترب في تأثيرها من التأثير السام هي جرعة الزئبق بمقدار خمسة غرامات، وكانت تُظهر بعض التباطؤ في سير المرض (2). وبقي هذا المرض يحصد الأرواح بدون رحمة، وكان أمام البشرية للخلاص من هذا المرض انتظار التطور النوعي لكل من علم الطب والبيولوجيا وعلم الجراثيم والميكروسكوبات المُكَبِّرة بشكل كاف، وأهم من هذا كله اكتشاف الصادات الحيوية. ومع مطلع القرن العشرين في عام 1906 كُشف الغطاء أمام عيني (فريتز شاودين)، ليكشف اللثام عن المجرم الحقيقي المختبئ خلف المرض، وهو جرثومة (اللولبية الشاحبة= Treponema pallidum)، كما استطاع الطبيب (فاسرمان) الكشف عن وجود المرض من خلال تفاعل مصلي بأخذ عينة دم (3)، وأخيرا استطاع (فلمنغ) في عام 1928 م وبواسطة اكتشاف البنسلين وضع الحد النهائي للمرض في أي مرحلة من مراحله.

هذه القصة ذات أهمية قصوى لمعرفة علاقة البيولوجيا بالأخلاق، وأن الانحراف الجنسي يعادل تماما الانحراف في تطبيق قانون الجاذبية؛ كأن يقع فرد من الطابق الخامس عشر فتدق عنقه، أو اختراق قانون الاحتراق فيكتوي الإنسان بالنار، أو الصدمة الكهربية فيتدمر القلب، أو نقص الأنسولين فيصاب بالغيبوبة، أو هبوط الضغط فيقع مغشيا عليه، أو رجفة الأرض بالزلازل فتتساقط البنايات وتنهار الجسور؛ فكلها قوانين من قوانين الوجود.

عمد الفيلسوف الهولندي (سبينوزا) في كتابه (الأخلاق مبرهنة بالدليل الهندسي) إلى محاولة إثبات الناظم الأخلاقي كما يُبرهن على السطوح والخطوط والنقاط الرياضية، وهو ما أحاول فعله الآن من خلال البيولوجيا. وحينما ناقش عالم النفس (ج. ا. هادفيلد) موضوع الأمانة الزوجية، فإنه وضعه تحت (قانون الأمانة الزوجية)، ووجهة نظره أنه يخالف أولئك الذين يرون أن (القانون الطبيعي مضاد للقانون الخلقي، الذي يُظن أنه مشتق من مصدر خارج الطبيعة)، وأنه (ليس ثمة تعارضا بين البيولوجيا وبين الخلقية، فالقوانين الخلقية هي تقرير للقوانين البيولوجية العليا) (4). ومن أجل توضيح الارتباط بين القوانين البيولوجية والمبادئ الخلقية، علينا أن نعلم أن الغاية الرئيسية للطبيعة من خلال العمل الجنسي هي المحافظة على النوع، وأن تطور هذا النظام عبر التاريخ أوصله إلى الأحادية الزوجية من خلال التطور البيولوجي البحت، وبذا يمتزج القانون الأخلاقي بالقانون البيولوجي، بحيث يصبحان وجهان لعملة واحدة، يقول هدفيلد: «فإذا احتكمنا إلى الطبيعة فيجب أن نحتكم إلى الطبيعة كلها، لا إلى مظاهرها الأدنى والأقدم، وهنا سوف نرى أن القانون الفطري والقانون الأخلاقي إن هما سوى طورين في تطور الإنسان نحو تحقيق الذات، فالإنسان البدائي في حالته الفطرية لا يعتبر آخر ما جاءت به الطبيعة، وكثيرا ما توصف حياة الإنسان البدائي بانها بسيطة، وقد تكون كذلك في التنظيم الظاهري، ولكنها من الناحية السيكولوجية أشد تهويشا من الحياة المرئية للرجل المتمدن الذي توجه قواه الغريزية إلى غرض مشترك، وكذلك الحال بالنسبة إلى الفرد الذي يسمح بالتعبير المطلق عن اندفاعاته، فإن هذا الفرد لا يجد في الحياة سلاما».

 

 

هوامش ومراجع:

 (1) الصمغ الإفرنجي هو المرحلة الثالثة من فتك مرض الزهري، فيشبه في منظره الورم آنذاك. (2) راجع بالتفصيل كتاب الإيدز (الطاعون الجديد) للمؤلف ـ البحث التاريخي لانتشار مرض الحب، ص: 207 ـ طباعة دار الهدى ـ الرياض. (3) كان تفاعل واسرمان شيئا مخيفا، لأن إيجابية الفحص كانت تعني حمل المرض، وبالتالي (الدليل الواسم) على الانحراف الأخلاقي. (4) ج. أ. هادفيلد ـ علم النفس والأخلاق (تحليل نفسي للخلق) ـ ترجمة محمد عبد الحميد أبو العزم، طباعة دار مصر.

 

نافذة:

حينما ناقش عالم النفس ج. ا. هادفيلد موضوع الأمانة الزوجية فإنه وضعه تحت قانون الأمانة الزوجية ووجهة نظره أنه يخالف أولئك الذين يرون أن القانون الطبيعي مضاد للقانون الخلقي الذي يُظن أنه مشتق من مصدر خارج الطبيعة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى