الرأي

قصة لوسي المحيرة

بقلم: خالص جلبي

في شهر ماي عام 1978 صدرت مقالة علمية في مجلة «العلم SCIENCE» أحدثت هزة في التفكير الإنساني في فهم تاريخ الإنسان على الأرض، فقد قدم عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي (دونالد جوهانسون)، بعد عمل شاق استغرق خمسة أعوام، الدليل من الحفريات التي جمعها من مثلث (عفار)، شرق الحبشة في منطقة (هدار)، ومن الموقع (333) عن أقدم كائن بشري يمشي منتصبا، يعود إلى فترة تصل إلى ثلاثة ملايين و750 ألف سنة، مع إمكان الخطأ بمائة ألف سنة.
عندما نقرأ كتب التاريخ فإننا نقرأ في الواقع ما (كُتب)، فالكتابة هي التي حفظت الأحداث التاريخية في جوفها، والكتابة كيان حديث العهد، فالإنسان نطق قبل الكتابة وبنى الحضارة قبل الكتابة، وعندما دخل مرحلة الثورة الزراعية لم يكن هناك لوح واحد مكتوب، والسؤال الذي كان يقض مضجع المؤرخين والمفكرين عموما، هو كم أصبح للإنسان على وجه الأرض؟ منذ متى بدأ يدب عليها؟ منذ متى بدأت الحياة على وجه الأرض؟ كم عمر الأرض؟ منذ متى يعمل النظام الشمسي؟ بل ما سر هذا الوجود كله؟ وهل له بداية؟ وإذا كانت له بداية، فكيف ومتى بدأ وكم عمر الكون عموما؟
عندما نفتح كتب التاريخ نشعر بالنقص في معرفة البدايات، والسر في هذا هو قصور الأدوات المعرفية التي استخدموها قديما، إلى درجة أن شراح العهد القديم وضعوا عام 4004 قبل الميلاد هو البداية الفعلية للكون وبداية التاريخ الإنساني، إلا أن الكشف الأنثروبولوجي أظهر أن حياة الإنسان تتوغل في القدم في مرحلة ما قبل التاريخ (المكتوب) إلى زمن سحيق. ويبقى السؤال: كيف يمكن معرفة عمر طبقة من البازلت أو الفحم أو عمر شجرة، فضلا عن مستحاثة لهيكل عظمي، كالذي تم كشفه في هيكل لوسي؟
لقد طور العلماء وسيلة غير مباشرة عن طريق دراسة المواد الإشعاعية في طبقة ما والتي تحوي العظام، فكلاهما عاش المرحلة الجيولوجية نفسها، مثل مادة (البوتاسيوم 40) التي تتحلل وبفترة معروفة إلى مادة الأرغون، فإذا استطاع العلماء حساب الكمية المتولدة من التحلل الإشعاعي، ونسبة التحلل وسرعته، أمكن تحديد عمر الطبقة الأرضية التي وجد فيها البوتاسيوم، وهكذا وعن طريق نظام التحلل الإشعاعي أمكن معرفة عمر طبقات الأرض، وبالتالي عمر العظام المحفوظة فيها (الحفريات FOSSILE).
في 3 نونبر عام 1974 عثر الأنثروبولوجي الأمريكي، دونالد جوهانسون، مع مساعده (توم غراي) على ضفة نهر (أواش) في منطقة (هدار)، على بعد 240 كيلومترا شمال شرق العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وفي جو يغلي بدرجة حرارة 43 مئوية، على بقايا لهيكل إنساني لأنثى كانت تمشي منتصبة، وخلال ثلاثة أسابيع من العمل المتواصل أمكن جمع حوالي 40 في المائة من هيكل كائن واحد، وبفحص عمر العظام في مركز (كليفلاند) للأبحاث الجيولوجية؛ أدركوا أنهم أمام أقدم كائن بشري عرف حتى ذلك الوقت. وإذ عمتهم الفرحة لهذا الاكتشاف التاريخي، بقوا طول الليل يكررون أغنية «البيتلز» (لوسي في السماء ومعها ألماس)، لهذه الأنثى التي غيبتها طبقات الأرض، قبل حوالي أربعة ملايين من السنين، فأعطوها اسم (لوسي) وأصبحت علما على هذا الاكتشاف المثير.
ولكن هل فكرنا قليلا بميزة امتشاق الجسد والانتصاب على قدمين عند الإنسان؟ تلك التي أشار إليها القرآن «والله خلق كل دابة من ماء، فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين».
إن الوقوف أعطى الحرية لليدين، وبتحرر اليدين بدأ الإنسان في صنع الأدوات والدخول في بناء الحضارة، فالحضارة هي مزيج الفكر واليد، كما انتبه إلى ذلك ابن خلدون، حين أشار في مقدمته الشهيرة إلى عاملي (الغذاء والدفاع عن النفس)، كضرورات بيولوجية لوجود الإنسان في المجتمع، فلا يوجد إنسان بدون مجتمع (ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعته، وجعل للإنسان عوضا عن ذلك كله الفكر واليد، فاليد مهيأة في الصنائع لخدمة الفكر)، بل إننا نجد في البيولوجيا الشيء العجيب؛ فخارطة (قشر المخ) فيها منطقة كبيرة للفم ومناطق الكلام أكثر من حركة الفخذ مثلا، كما أن مناطق التحريك العصبي للإبهام أكبر من حقل بقية الأصابع بسبب أهميته، ونحن نتميز بقشرة المخ بالدرجة الأولى؛ أكثر من بقية مناطق الدماغ التي نشترك فيها مع الحيوانات، والغوريلا أثقل منا بثلاث مرات، ولكن دماغنا أثقل من دماغها بثلاث مرات، فدماغها يصل إلى حوالي 500 غرام ووزنها يصل إلى ما يزيد على مائتي كيلوغرام، في حين يزن دماغنا حوالي (1.5) كلغ ثلاثة أرطال، أو بالمتوسط 1340 غراما، وجسمنا في المتوسط 70 كيلوغراما، وهكذا فبتفاعل قشر المخ مع اليدين، أمكن للإنسان شق الطريق للحياة الإنسانية المتطورة، في حين كُبلت بقية الكائنات باستخدام يدها فيزيولوجيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى