
لم يفت السفراء الأجانب الذين زاروا المغرب، منذ سنة 1830 تقريبا أن يخصصوا ملاحظات مهمة عن علاقة المغاربة بالخمر. ففي وسط المجتمع المحافظ الذي كانت تسيطر عليه الزوايا بشكل مطلق، كان هناك تعاط كبير للخمور في أوساط من كانت الدولة وقتها تنظر إليهم على أنهم خارجون عن القانون.
كانت هناك شبه قطيعة مع مستهلكي الخمور المحلية، التي كان يتعاطاها المغاربة، مسلمون ويهود، خصوصا «الماحيا». كان المخزن، أعلى سلطة في الدولة، ينظر إليهم على أنهم مجرد خارجين عن حكم الشرع، وكان يتم تطويقهم في حالات «التسيب» التي عرفتها مناطق كثيرة. وقد ثبت في التاريخ الرسمي أن ممثلي السلطة في جميع مناطق المغرب كانت لهم صلاحية تأديب متعاطي الخمور وحبسهم.
وتحدث عدد من الموظفين الأجانب في المغرب، عن معاينتهم لحالات كثيرة لمسجونين في إقامات الباشوات والقياد القدامى، كانت تهمتهم الوحيدة أنهم كانوا يصنعون الخمور محليا ويستهلكونها.
الغريب أن بعض القياد كانوا يتعاطون الخمور، بل وأقاموا سهرات في قلب إقاماتهم، لكن لا أحد كانت له الجرأة لتأديبهم أو اعتقالهم. حتى أن بعض زعماء الزوايا كانوا لا يملكون حتى الشجاعة للحديث معهم حول الموضوع. علما أن أغلب رجال السلطة القدامى الذين كانوا يشربون الخمور، كانوا يخصصون لها طقوسا سرية بعيدا عن أعين الرقابة.
أما الذين كانوا يستمدون سلطتهم من السلطة الدينية، بالإضافة إلى المال، فقد كانوا صارمين مع متعاطي الخمور، وقد تحدث بعض كتبة الوزراء المغاربة، عن صرامتهم في التعامل مع متعاطي الخمور. إذ إن وزيرا مغربيا في أيام المولى محمد الرابع، عمد إلى حرق إسطبل بفاس، لأن حراس الخيول ليلا، كانوا يختبئون فيه لمعاقرة الخمر.
كان الوزير غاضبا، بحكم أن الإسطبل يقع على بُعد أمتار فقط من إقامته، التي لا تبعد بدورها كثيرا عن القصر الملكي. إلى درجة أنه تنقل ليلا مع بعض حاشيته لمعاينة سهرة العاملين في الإسطبل. وأعطى الأمر لفتح الباب دون إثارة انتباههم وإخراج الخيول حتى لا تصلها النيران، وأضرم النار وسط الإسطبل لإرعابهم.
لحسن الحظ لم تقع أي خسائر في الأرواح، لكن فاس كلها كانت تتحدث في اليوم الموالي عن اللعنة التي طالت «السكارى».
كان الذين يقومون بثورات ضد الدولة، في مختلف المراحل التاريخية، خصوصا في أيام المولى الحسن الأول وما بعدها بقليل، يُتهمون بتعاطي الخمر لتنفير الناس منهم. إذ إن رجال «المخزن» كانوا يروجون قصصا في أوساط الناس مفادها أن الذين يحرضون الناس ضد الدولة، ليسوا إلا «عرابدة» يتعاطون الخمر ويغضبون السلطة الدينية. هذا الأمر يجعل في الأخير المشرفين على الزوايا يخوضون بالمقابل حربا مقدسة ضد الثوار، بناء على الروايات التي روجها المقربون من المخزن.
أما في منطقة طنجة التي كانت منطقة دولية منذ وقت مبكر. فقد كان ممثلو السلطة ونواب «السلطان»، يأمرون بسجن كل من ثبت تعاطيه للخمور التي كانت تستورد من أوربا، بحكم أن جالية مهمة كانت تستقر في طنجة، وتستهلك كميات مهمة من الخمور. حتى أن الحانات والمطاعم الأوربية التي فتحت أبوابها في طنجة منذ بداية القرن الماضي، وما قبله بقليل، كانت تنظم استهلاك الخمور من خلال تراخيص تمنح لها من القنصليات الأجنبية في المغرب، ولم يكن المغاربة يعترضون على الأمر بحكم أن المنطقة تخضع لرقابة دولية، لكنهم بالمقابل كانوا لا يتساهلون في تأديب المغاربة الذين ربطوا اتصالات بالأجانب، خصوصا «الفقراء والعمال البسطاء» الذين كانوا يعملون لصالح الأجانب. إذ إن تعاطيهم للخمور كان سببا كافيا لسجنهم. حتى أن القنصل الأمريكي، «السيد هولت»، كتب في مذكراته عن طنجة سنة 1908، أنه عاين بنفسه حالات لمغاربة يقضون فترات سجن غير محددة، وتهمتهم الوحيدة أنهم كانوا يتعاطون الخمور ويخرجون إلى الأسواق لإحداث الفوضى، أو التفوه بكلام لم يكن يعجب كثيرا نائب السلطان في طنجة.
اليهود المغاربة ألهموا الأمريكيين لإعادة تصنيع خمور محلية
كان استهلاك اليهود المغاربة للخمور مقتصرا على مناسباتهم الدينية فقط. وتوجد أدلة تاريخية على أن الدولة كانت تقدم الحماية لليهود المغاربة وتستثنيهم من عقوبة ترويج الخمور أو تعاطيها، وتلزمهم، كما وقع أيام المولى الحسن الأول، باستهلاكها في أماكن العبادة أو منازلهم، وليس في الأسواق أو الشوارع.
كان الفرنسيون الأوائل الذين شاركوا في الهيمنة العسكرية على الجنوب المغربي انتبهوا إلى تخصص اليهود المغاربة في صناعة «الماحيا» المحلية، معتمدين على وصفات محلية وأعشاب منتشرة في الجنوب بكثرة، وأبدوا إعجابهم الكبير بها.
وعندما بدأت هجرة اليهود من المغرب، مع بداية الستينات، كان عدد من اليهود المغاربة قد أخذوا معهم كميات من «الماحيا» المحلية، التي كانوا يستهلكونها خصيصا في واحد من أعيادهم الدينية.
ومن بين اليهود المغاربة الذين توجهوا إلى أمريكا وكندا، كانت عائلة مغربية قد فكرت سنة 1968 باحتكار إنتاج «الماحيا» المغربية في مدينة «نيويورك» الأمريكية، لكن المشروع لم يكتب له النجاح. وبعد سنوات طويلة ستحاول عائلة من أصول مغربية، في السنوات الأخيرة إنتاج «الماحيا» المغربية واعتمادها ماركة عالمية لترويج أجود أنواع الخمور، التي كان يستهلكها اليهود المغاربة في وطنهم الأصلي.
تقول بعض المعطيات التاريخية المرتبطة بهجرة اليهود المغاربة من المغرب، إن بعض الوصفات التي أخذها اليهود المغاربة معهم من المغرب لقيت إعجابا كبيرا في أوساط اليهود القادمين من وجهات أخرى، خصوصا من أوربا الشرقية ومن روسيا.
يبقى تاريخ الخمور في المغرب موضوع غموض كبير، خصوصا وأن الدولة المغربية عبر تاريخها لم تكن تتساهل مع مروجي الخمور. وتتحدث بعض الروايات التاريخية، ومنها التي جمعها مرجع «الاستقصا» الذي يعد موسوعة في تاريخ المغرب، عن عمليات اعتداءات كبيرة طالت مستهلكي الخمور في فترات متفرقة من تاريخ المغرب، بالإضافة إلى معلومات تؤكد أن الدولة كانت تُجرم ترويج الخمور رغم أنها كانت تصنع محليا، إلى درجة أن المولى إسماعيل، أحد أشهر ملوك الدولة العلوية، كان قد عزل أحد أبنائه فقط لأنه سمع أنه يستهلك الخمر في سهرات داخل إقامته بمراكش، التي كان مستقرا بها نائبا سلطانيا عن والده. وبعث إليه المولى إسماعيل من يزيله من منصبه، ويخبره بقرار والده القاضي بقطع الصلة معه نهائيا.
لكن العلماء المغاربة الذين كان أغلبهم ينحدر من جامعة القرويين، أفتوا في فترات متفرقة من تاريخ المغرب بضرورة حماية اليهود المغاربة، كما حدث أيام المولى الحسن الأول، ثم مع المولى عبد الحفيظ. حيث تم منع الاعتداء على اليهود المغاربة أثناء إحيائهم لطقوسهم الدينية. لكن بالمقابل لم يكن هناك أي تساهل في ترويج الخمور علنا.
هي إذن قصة طويلة للأشواط التي قطعها استهلاك الخمور في المغرب، منطلقا من السرية إلى فترة «تراخيص استيراد الأنواع النادرة».
فرنسيون راكموا ثروات خيالية من ترويج الخمور بالعاصمة
كانت تجارة الخمور في المغرب تكلف أصحابها أرواحهم في بعض الحالات. نحن الآن في بداية الأربعينات من القرن الماضي. كان بناء الفنادق بالدار البيضاء على أشده. وكانت العلاقة بين الفرنسيين والدولة متذبذبة، إلى درجة أن الترخيص الذي حصلوا عليه في سنوات العشرينات لتنظيم استيراد الخمور الموجهة للفرنسيين المقيمين بالمغرب، كان موضوع نقاش كبير في الأوساط المحافظة.
إذ إن موضوع الخمور وحده كان مبررا لحرب «مقدسة» قامت بها قبائل الدار البيضاء قبل الحماية! ضد الأجانب. ففي سنة 1907، قام عدد من رجال القبائل والقرى القريبة من مدينة الدار البيضاء بالدخول إليها ليلا، وهاجموا منازل مواطنين فرنسيين وإسبان كانوا يستقرون بالدار البيضاء وأحرقوها لإجبارهم على الرحيل، وبرروا هجومهم بكون هؤلاء الأجانب يروجون الخمور في المدينة. بقيت الأحداث تعرفونها، إذ إن هذه الحرب خرجت عن السيطرة وتدخلت فرنسا بقوة عسكرية كبيرة لتقصف الدار البيضاء وتنتقم لمواطنيها.
أما في أربعينات القرن الماضي فقد كان الوضع مختلفا. بدأت شركات متخصصة في استيراد الخمور، بإنشاء مقرات لتخزين آلاف اللترات من أنواع الخمور، خصوصا بمنطقة «بيلفيدير» وعين السبع. بينما كان فرنسيون آخرون على قدر كبير من الذكاء وبدؤوا يفكرون في صناعة خمور محلية مغربية خالصة، وقاموا باقتناء ضيعات فلاحية في مناطق من المغرب، وخصصوها لزارعة العنب وتوجيهه خصيصا لصناعة الخمور وتخزينها، وفق الشروط الضرورية لإنتاج أجود أنواع الخمور.
كان قادة الحركة الوطنية، خصوصا في فاس، يمثلون تيارا محافظا جدا. إلى درجة أن حزب الاستقلال كان يوجه أطره نحو تنفيذ اغتيالات طالت فرنسيين ومغاربة أيضا. إذ كانت الأوامر الصادرة من القيادة تقول بضرورة قتل كل من كان يبيع السجائر، ومعاقبة كل من ضُبط متلبسا يتعاطى الخمر محلية الصنع. وقد نفذت بعض المجموعات المسلحة منذ بداية الخمسينات عمليات اغتيال واسعة طالت فرنسيين ومغاربة، يشتركون في تهمة الاشتغال في ضيعات صناعة الخمور أو في محلات بيعها التي أسست في الدار البيضاء منذ ذلك التاريخ.
وقد اعترف عدد من قادة الحركة الوطنية لاحقا بأنهم كانوا غير متسامحين مع المغاربة الذين اشتغلوا في صناعة الخمور، وأعطيت الأوامر لتصفيتهم جسديا والتمثيل بجثتهم، حتى يكونوا عبرة لكل من يفكر في التعامل مع الفرنسيين، خصوصا في مجال صناعة الخمور.
لكن التاريخ السري الأسود لبعض عناصر المقاومة، يُحرج الذين دعوا إلى هذا الطرح. بحكم أن بعض الذين نُسبوا لقدماء المقاومة بعد الاستقلال لاحتوائها، كانوا في الحقيقة من أصحاب السوابق، ومنهم من اشتغل في دور الدعارة الراقية التي كانت فرنسا تنظمها، خلال سنوات الحماية، في عدد من المدن المغربية لخدمة الجنود الفرنسيين والأجانب بالمغرب. وكانت تجارة الخمور مزدهرة كثيرا في تلك الأوساط، وكان المغاربة الذين اشتغلوا في المجال وقتها، يتمتعون بحماية فرنسية كبيرة، ولم تكن تطالهم أيادي المقاومة، حتى أنهم انتسبوا إليها بعد الاستقلال!
كل هذه المعطيات، تؤكد أن الذين اشتغلوا في ترويج الخمور في العاصمة الاقتصادية تمكنوا فعلا من تحقيق أرقام معاملات تجارية مهمة، جعلتهم يراكمون ثروات خيالية في المغرب، خلال فترة قصيرة.
مؤسف ألا تتوفر أرقام في الموضوع، حتى أن الإدارة الفرنسية نفسها لا تتوفر على أرقام دقيقة بخصوص أرباح تجارة الخمور، عند تأسيس مصانعها ومخازنها في المغرب. لكنها في المقابل تتوفر على لوائح دقيقة بأسماء المئات، الذين لقوا مصرعهم لأنهم كانوا من أباطرة استيراد الخمور إلى المغرب.
ضرائب الخمور خلقت حربا حقيقية ببرلمان الستينات
منذ افتتاح البرلمان المغربي سنة 1963، والمناقشات بين نواب الأمة والوزراء على أشدها بخصوص عدد من القضايا التي كانت تهم تسيير الشأن العام، وأحيانا اتهامات أخرى بالفساد.
لكن نقاش أرباح الخمور منذ ذلك التاريخ، لم يكن يستأثر باهتمام المعارضة التي كان يمثلها وقتها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقوة. بل كان هناك تيار محافظ داخل حزب الاستقلال، كان يقود بعض المداخلات داخل البرلمان، والتي نُوقش من خلالها ولو بشكل محتشم، موضوع عائدات الخمور والتراخيص الاستثنائية، التي كانت الدولة تمنحها لبعض الشركات والمطاعم لاحتكار استيراد أنواع معينة من الخمور إلى المغرب. والسبب وقتها كان تجاريا-سياحيا.
كان المؤرخ السابق للمملكة، عبد الكريم الفيلالي، الذي كان متعاطفا بقوة مع حزب الاستقلال، ثم تخلى شيئا فشيئا عن الحماس للسياسة، أحد أوائل الذين أثاروا الموضوع داخل البرلمان إن لم يكن أول من قام بالأمر فعلا. فهو نفسه لم يؤكد قيد حياته أنه كان أول من أثار الموضوع، لكنه تحدث في كتاباته عن سخط كبير في أوساط المحافظين المغاربة، وتفكيرهم في الدعوة إلى منع ترويج الخمور داخل المغرب، محذرين من تداعيات الأمر على المجتمع المغربي المحافظ، وربطوا بين ترويج الخمور وبين ارتفاع نسب الجريمة.
لكن عبد الكريم الفيلالي كان مهتما أكثر بالتفاصيل، حتى أنه هاجم جريدة «العلم» في إحدى المناسبات، لأنها قامت بتغطية نشاط رسمي، «ولم ينتبه المشرفون على الجريدة إلى أن النشاط كان بإشراف شركة عالمية شهيرة لترويج الخمور في المغرب».
بطبيعة الحال، فإن عبد الكريم الفيلالي كان اسما معروفا في ذلك الوقت، وكان يربط صداقات مهمة على مستوى عال في الدولة. ولم يفته أن ينتقد في كتاباته بعض رجال الدولة، وبعض الموظفين السامين الذين اتهمهم وبالأسماء، باختلاس ثروات كبيرة من المال العمومي، وإمعانا في انتقادهم، فقد وجه إليهم أيضا تهمة الإدمان على الكحول ورأى أنهم غير مؤهلين لتقلد مناصب في الدولة.
عندما وقف الفيلالي في منصة البرلمان في نسخته الأولى ودعا إلى محاسبة المسؤولين المغاربة ومراقبة ثروتهم، واختار لحملته شعار «من أين لك هذا؟»، ليصبح لاحقا من أشهر الشعارات الإصلاحية التي رُفعت في المغرب، فإنه كان أيضا يقدم مداخلات نارية بخصوص «تجارة الخمور»، لكن مضايقات كثيرة طالته لكي لا يكمل مداخلاته، لأنه كان يهاجم بعض الأسماء المعروفة بشراسة.
تاريخه وحده هو الذي كان يشفع له. فقد كان الجميع يعرفون أنه كان بمثابة ابن للملك الراحل محمد الخامس، بحكم أنه نشأ في القصر الملكي، وبحكم اهتمامه بتاريخ المملكة وإشرافه على أرشيف القصر الملكي بأمر من الملك محمد الخامس، مباشرة بعد الاستقلال.
كان الفيلالي إذن يمثل التيار المحافظ، الذي هاجم تجارة الخمور في المغرب. حتى علال الفاسي، الأب الروحي لحزب الاستقلال، كان معروفا بمعارضته الكبيرة لترويج الخمور، حتى أنه كان يتجنب الجلوس في طاولات فوقها الخمور، عندما يتعلق الأمر بدعوات السفارات الأجنبية. وضيوف الجنرالات العسكريين ورجال الدولة النافذين، خلال سنوات الستينات، كانوا يعلمون أنه يتعين عليهم توزيع الخمور على المدعوين فقط عندما يغادر رجال الدولة المحافظون، أمثال الفقيه العربي العلوي، واليوسي الذي كان وزيرا للداخلية، بالإضافة إلى المختار السوسي الذي كان وزيرا للأوقاف، بالإضافة إلى أسماء أخرى في وظائف سامية، مكان الاحتفال.