
يحضر المغرب في ثلاث من رواياتي «الآخرون»، و«وداعا روزالي» و«أشواك وياسمين»، كما يحضر في تحقيقاتي الأدبية التي تضمنها «كتاب التيه» وفي العديد من مقالاتي الصحفية. ولهذا الحضور قصة يمكن أن أسميها «قصة عشقي للمغرب».
بداية هذه القصة تعود إلى الطفولة البعيدة حيث كان المغرب يبدو لي غامضا ومُعْتما، ومَسْكونا بالسّحرة القادرين على اكتشاف الكنوز في المغاور والكهوف، وفي أعماق الأرض. وبما أنني ولدت بـ«شهوة» في عيني اليسرى تبدو كلطخة سوداء، أو كأثر للكمة، فإن أمي كانت تحذرني من الغرباء القادمين من الغرب البعيد على ظهور بغال سوداء، والذين كان أهل قريتي يعتقدون أنهم يطوفون في الأرض بحثا عن كنوز قد تساعدهم «الشهوة» التي في عيني اليسرى على اكتشافها والعثور عليها…
ثم انزاحت الصورة الأولى لتحلّ مكانها صورة أخرى يلوح فيها المغرب بلدا يُحرّضُ على المغامرة المعرفية. وقد تجلت هذه الصورة بعد أن تعرفت على سيرة ابن خلدون الذي ترك تونس بعد أن ضربها الطاعون الذي فتك بوالديه، وبجلّ أفراد عائلته ليلتحق بأستاذه الشيخ عبد الله عمر إبراهيم الآيلي، الذي قدم إلى تونس ضمن حاشية السلطان المريني أبي الحسن سلطان المغرب، الطامح إلى إعادة توحيد البلدان المغاربية مثلما كان حالها خلال الإمبراطورية الموحّديّة. وبحسب ابن خلدون، كان هذا الشيخ «فيلسوف عصره». وفي «التعريف»، كتب عنه يقول بأنه «الإمام الورع الكبير، العالم العلاّمة، فخر الدين والدنيا، حجّة الإسلام والمسلمين، غيّاث النفوس، شيخ الجلالة وإمامها، ومبدأ المعارف وختْمها». وبعد أن تأكد لي أن المغرب مكّن ابن خلدون من خوض مغامرة معرفية نادرة في زمنه لتكون «مقدمته» الشهيرة ثمرتها الفريدة، شرعت في قراءة كل ما كان يقع بين يدي من كتب عنه، وعن تاريخه، وأدبائه وشعرائه وفلاسفته.
تلك المدن الفاتنة
على مدى سنوات طويلة، ظللت مسكونا برغبة جامحة في زيارة مدن فتنتني قبل أن تطأها قدماي مثل فاس، وطنجة، ومراكش الحمراء، والدار البيضاء، المدينة الكولونيالية كما في الفيلم الشهير «كازابلانكا» الذي لعب دور البطولة فيه واحد من أحب النجوم إليّ، أعني هامفريبوغارت… وكان عليّ أن أنتظر صيف عام 1981 ليتحقق حلمي. ففي ذلك الصيف حصلت على جواز سفري بعد أن مُنعت من السفر على مدى ستة أعوام. كما حصلت على جائزة مالية متواضعة بفضل قصة من قصصي، وبها اقتنيت تذكرة إلى باريس، ومنها ذهبت إلى مدريد، ثم إلى الدار البيضاء التي كانت تعيش أياما عصيبة بسبب تظاهرات واحتجاجات شعبية. لذلك تركتها لأسافر إلى مراكش التي وجدتها تعيش لياليها الرائقة على وقع مهرجان الفنون الشعبية تحت إشراف الفنان الكبير الطيب الصديقي. فيها أمضيت خمسة أيام متجولا في الأسواق القديمة، ومستمعا في «ساحة جامع الفنا» إلى قصص الرواة الشعبيين الشبيهة بقصص «ألف ليلة وليلة».
وفي إحدى السهرات البديعة، جلست إلى الطيب الصديقي الذي روى لي قصة حبه لتونس ولفنانيها وأدبائها وشعرائها. لذا هو يحرص على التردد عليها مرة أو مرتين كل سنة. بل أكثر من ذلك. ودائما يعود بحيوية تزيد فنه تألقا وإشراقا. ومن مراكش توجهت إلى الرباط لألتقي بالكاتب والناقد محمد برادة، وبالقصاص عبد الجبار السحيمي الذي كان آنذاك مدير التحرير في جريدة «العلم». كما التقيت بالكاتب الكبير عبد الكريم غلاب الذي كنت قد قرأت له روايتين هما «المعلم علي» و«دفنا الماضي». وقد دار حديثي معه حول أوضاع تونس التي كانت تعيش في تلك الفترة التي أعقبت الهجوم المسلح على مدينة «قفصة» ربيعا ديمقراطيا سوف يكون قصيرا. كما تحدثنا عن سنوات القاهرة التي أقام فيها بعد الحرب الكونية الثانية، ناشطا في «مكتب المغرب العربي»، ومواكبا لأعماله من خلال زعماء كبار من أمثال علال الفاسي، وعبد الكريم الخطابي، والحبيب بورقيبة، والحبيب ثامر، وغيرهم. وقبل أن أغادر الرباط متوجها إلى الدار البيضاء، أجريت حوارا مُسهبا مع الشاعر عبد اللطيف اللعبي الذي كان قد أطلق سراحه بعد أن أمضى أزيد من سبع سنوات في السجن بسبب انتمائه لتنظيم ماركسي. وقد نشر الحوار الذي أجريته معه في كتاب تضمن شهادات مختلفة عنه، وعن تجربته الشعرية والسياسية، وعن مجلة «أنفاس» التي أشرف عليها، جاعلا منها منبرا للفكر التقدمي، وللأدب الطلائعي في المغرب. وقبل أن أعود إلى تونس، زرت الفنان الكبير فريد بلكاهية في مرسمه بالدار البيضاء لأجده منشغلا بإبداع لوحات مستوحاة من الفولكلور المغربي الأصيل. معه أمضيت ظهيرة تحدثنا خلالها عن الشاعرة اللبنانية الرائعة إيتيل عدنان التي تكنّ له ولفنه إعجابا كبيرا، وعن ديلاكروا الذي زار المغرب في القرن التاسع عشر. ومن وحي زيارته تلك، أبدع لوحات ترسخت في تاريخ الفن العالمي الحديث. كما تحدثنا عن ماتيس، وعن اللوحات التي رسمها في طنجة مُقيما في فندق «فيلا دو فرانس». وتلك الزيارة الأولى ألهبت عشقي للمغرب. وقد ازداد هذا العشق التهابا وتوهجا بعد أن تعددت زياراتي له، مترددا على مدنه الكبيرة والصغيرة، ومُتعرفا على كتاب وشعراء ومفكرين وفنانين أصبحوا أصدقاء لي أحضر مجالسهم ومسامراتهم، وأشاركهم معاركهم، وسجالاتهم، وأفراحهم، وأتراحهم وبي إحساس أنهم قطعة مني، وأنا قطعة منهم…
ذكريات لا تنسى
في الدار البيضاء، كان يحلو لي أن أمضي ساعات طويلة مع محمد زفزاف في شقته المتواضعة في «حيّ المعاريف». فيها كان يعيش مثل زاهد مُتوحد بنفسه فلا يكاد يخرج منها إلاّ نادرا. وكانت أحاديثنا تدور حول الأدب العالمي الذي كان عارفا به بشكل مدهش، وحول سخرية ديوجين، ومجون سقراط، وتشاؤم شوبنهاور، وفردانية كيركوغارد… وكان يعجبه أن نستمع معا إلى عبد الهادي بالخياط، وعبد الوهاب الدكالي، ونجاة اعتابو، وفنانين من أمازيغ الجنوب، ومن جبال الريف. وعندما أصابه المرض الخبيث الذي قتله، زرته في باريس حيث كان يعالج لنستعيد معا ذكريات أيامنا الجميلة… كما يحلو لي أن أرافق الشاعر الصديق محمد بوجبيري في سهراته الطويلة في حانات وسط الدار البيضاء، أو بالقرب من الميناء. بفضله تعرفت على فنانين وشعراء وكتاب ينامون في النهار، ويعيشون في الليل متنقلين بين الحانات والمطاعم الشعبية، ولا زاد لهم غير أشعار أبي نواس، ورامبو، وبودلير، وروايات هنري ميللر، وجان جينيه، وقصص الملعون بوكوفوسكي…
وفي المحمدية، استضافني محمد بنيس أكثر من مرة في بيته على شاطئ المحيط. وأكثر من مرة، قادني إلى «خلوته» التي يحلو له أن ينعزل فيها للتأمل وترتيب أفكاره قبل الشروع في الكتابة مستمعا إلى صخب الأمواج، وعزف الريح. وذات صيفٍ، جاء إلى تونس فحرصت على أن يرافقني إلى قريتي ليمضي ليلة في ريف القيروان، مرتلا القرآن مع شيوخ القرية بمناسبة الاحتفال باكتمال بناء بيت أخي مصطفى…
وفي الهرهورة، أمضيت سهرة بديعة مع عبد الكبير الخطيبي، والفنان محمد القاسمي، خلالها تحدثنا عن رولان بارت، وعن ميشال فوكو، وعن غوته، وعن الجرح العربي النازف طوال الوقت، وعن غربة الفنان في وطنه، وعن جمال النساء في جبال الأطلس، وعن ملوك المغرب في مختلف العصور… وفي النهاية، ذهبنا إلى النوم بينما كانت الشمس تطلع حمراء على المحيط الأطلسي الذي كانت العرب تسميه «بحر الظلمات»…
وفي طنجة، التي كنت أتردد عليها كل صيف تقريبا، خلال إقامتي الطويلة في مدينة ميونيخ الألمانية، كنت أذهب إلى شكري مثلما يذهب العطشان إلى نبع ماء. ومرات كثيرة، قادما بالباخرة من الخزيرات، أو الجزيرة الخضراء كما كان يسميها عرب الأندلس، فاجأته في شقته الصغيرة بالطابق الخامس وقد استيقظ للتو من النوم، لنشرب كأسا احتفاء بلقائنا المتجدد دائما، ثم نخرج معا إلى المدينة لنتجول في السوق، ونشتري الأسماك، والخضر… بعدها تبدأ جلساتنا التي لا تنتهي إلاّ في ساعة متأخرة من الليل… وكان شكري عارفا بالموسيقى التونسية، ومدمنا على سماع رموزها خصوصا صليحة والهادي الجويني، وعلي الرياحي، والهادي القلال، وأحمد حمزة، وعلية… ومرة أسمعني برنامجا عن صليحة أعده لإذاعة طنجة. فلما انتهيت من سماعه، أجهشت بالبكاء تأثرا..
كاتب طنجاوي
كان محمد شكري في الثامنة من عمره، أو أقلّ من ذلك لمّا هاجرت عائلته الفقيرة من قريته في منطقة «الريف»، شمال المغرب، لتستقرّ في طنجة. حدث ذلك خلال المجاعة الكبرى التي ضربت كامل أنحاء المملكة في الثلاثينات من القرن الماضي. وحالما وطأت قدماه شوارعها، «انغرست» هذه المدينة الساحرة في قلبه، فعشقها عشقا لن يبرأ منه أبدا. وفي سيرته الشهيرة: «الخبز الحافي»، كتب محمد شكري يقول: «صباح الخير أيّها الليليّون، صباح الخير أيّها النهاريّون، صباح الخير يا طنجة المنغرسة في زئبقي. ها أنا أعود لأجوس، كالسائر نائما، عبر الأزقّة والذكريات، عبر ما خططته في حياتي، الماضية-الحاضرة… ». وكان محمد شكري يحبّ أن يقول بأنه كاتب «طنجاوي»، وليس كاتبا مغربيّا. ولعلّه كان محقّا في ذلك. فقد عاش كلّ مراحل عمره في هذه المدينة المطلّة على مضيق «جبل طارق»، فخبر حياتها الليلية والنهاريّة، وعاشر فقراءها، ومشرديها، ولصوصها، وبغاياها، ومنحرفيها، وعنهم كتب صفحات بديعة. ومن المؤكد أن حياة الشقاء التي عاشها في سنوات مراهقته وشبابه قد ساعدته على سبر أغوار طنجة، واستكشاف خفاياها هي التي كانت «مدينة عالميّة» في النصف الأول من القرن العشرين، وفيها كانت تتعايش أقليات من جنسيّات مختلفة. وكان الفتى شكري الجائع المشرد، والذي شاهد بأم عينيه والده الغليظ القلب وهو يخنق أخاه الصغير لأنه كان يبكي طوال الوقت، مجبرا على أن يسرق الخبز، والسجائر، وأن يعمل «حمّالا» في الميناء، وماسح أحذية. وفي ما بعد سوف يستفيد من تلك الحياة الصعبة ليسجّل وقائعها في كلّ ما كتب من روايات وقصص.
وعندما أصبح كاتبا معروفا، تعرف محمد شكري على كتّاب عالميين كانوا يتردّدون على طنجة من أمثال الفرنسي جان جينيه، والإيرلندي صاموئيل بيكت والأمريكي تينيسي ويليامز. كما أنه ارتبط بعلاقة صداقة بالأمريكي الآخر بول بوولز الذي استقرّ في طنجة منذ الثلاثينات من القرن الماضي، وفيها توفي ودفن. وقد سجّل محمد شكري خواطره عن بعض هؤلاء الكتاب من أمثال جان جينيه وتينيسي ويليامز. أما بول بوولز فقد خصّص له كتابا حمل عنوان «بول بوولز وعزلة طنجة».
سهرات.. وحديقة ثقافية
كم من مرة صعدت جبال الريف العالية لأزور الشاون الأندلسية ببيوتها البيضاء والزرقاء. وفي آخر زيارة لها، سهرت مع جمع من الشعراء والفنانين حتى الصباح. وكان ابنها الشاعر الكبير عبد الكريم الطبال معنا. وكعادته، ظل طوال السهرة قليل الكلام فلا ينطق بكلمة أو ببضع كلمات إلاّ إذا ما أراد تبليغ فكرة، أو التعبير عن خاطرة اخترقت ذهنه مثلما يخترق البرق السماء المغيمة… جميع قصائده تبدو شبيهة بالموشحات الأندلسية التي تذكر بأمجاد العرب في قرطبة، واشبيلية وغرناطة:
أتذكر حين أتيتك
ذات خريفٍ
وما في يدي صولجانٌ
ولا ذهبٌ
وما في الوفاضِ
سوى بعض دمعٍ
وبعض قصائد غائمةٍ
فانسدلت علىّ
سماء بياضٍ
وداليةً للهديل
وأندلساً في إهاب جديد
ولا أخفي أنني ازددت عشقا للمغرب بسبب أصيلة التي فتنتني منذ أول مشاركة لي في مهرجانها الصيفي وذلك سنة 1986. لذلك لم أعد أتحمل الغياب عنها لأنها باتت بمثابة الحبل الروحي الذي يربطني بالمغرب كله، خصوصا بعد أن حولها محمد بن عيسى إلى حديقة ثقافية تحتضن أسماء لامعة من جميع أنحاء العالم، وفي مختلف مجالات المعرفة، وفي ندوات مهرجانها تناقش القضايا الهامة والساخنة في الأدب، وفي السياسة، وفي الفلسفة، وفي علم الاجتماع، وفي الفنون، وفي غير ذلك من القضايا التي يفرزها عالمنا المعاصر. ولا أتردد في القول بأن مهرجان أصيلة أصبح مع مر السنين بمثابة الجامعة المفتوحة التي تغري أحباء الثقافة والفكر والفن بالذهاب إليه، والمشاركة في فعالياته. وأنا لا أنكر أنني تعلمت الكثير في أصيلة، وأدركت المعنى الحقيقي للصداقة من خلال كتاب وشعراء وفنانين ومفكرين مغاربة، وعرب، وأفارقة، وغربيين، وآسيويين، تعرفت عليهم هناك، وبهم جمعتني ندوات، وسجالات، وبرفقتهم عشت سهرات ممتعة ستظل راسخة في ذاكرتي حتى اللحظة الأخيرة من حياتي…
تلك هي قصة عشقي للمغرب…
سلاما عليها، وعلى فنانيها، وشعرائها، وكتابها، ومفكريها من الأحياء ومن الأموات…
وسلاما على أهلها أجمعين…