
عبد الرزاق الحجوي
عندما يشتكي المقاولون الكبار، في الفلاحة والأشغال، من ندرة اليد العاملة، يصل صوتهم إلى صناع القرار مباشرة، حيث عرض إحدى الشكايات عزيز أخنوش تحت قبة البرلمان، في إيحاء بأن الأمور أفضل مما يظهر، لأنه عرض من أعراض التخمة، يوم تحدث عن عجز أحد مقاولي البناء الكبار عن استحضار عدد معين من المياومين من منطقة معينة.
عند استفحال صعوبة إيجاد المشغل لليد العاملة، يخشى صناع القرار مع كبر هذه الظاهرة أحد محظورات مرجعية بناء الصرح الاقتصادي، التي تحذر من أن فقدان وفرة اليد العاملة المقرونة برخصها، سيقلص من إقبال المستثمرين الجدد على الاستثمار بالبلد، خاصة عندما تكون عين صانع القرار مركزة على خلل الميزان التجاري، الذي يلتهم جزءا من ثمرات الجهود التنموية المبذولة، فبدون تحويلات الجالية والاقتراض المزمن لاتضح بأن الأداء الخالص للاقتصاد الوطني ليس وراء كل ما نعيشه اليوم. حيث يفرض السؤال نفسه عن تناقضٍ ما يميز هذا المشهد، حين يشتكي هذا من ندرة اليد العاملة، في الوقت نفسه الذي ترى فيه نسبة هامة من الشباب العانس تتوزع في هدر العمر بعد الهدر الدراسي القاصم، بين المقاهي التي تتكاثف كالفطريات، والسجون المكتظة، والإقبال على المخدرات الذي يرتفع ولا ينخفض.. أما المراهقون فإن جلسة بينهم على مدرجات الملاعب، أو في سهرة مهرجان ستحدد لك عمق أزمة ثقتهم في المستقبل.
وثبتت في دراسة علمية علاقة الاكتظاظ بتشكل الشخصية العدوانية، سواء بالمدرسة أو الحي أو البيت.. فهناك منظومة دفع متناغمة يدعمها الفراغ القاتل طوال فترة الطفولة والمراهقة، دون وجود أي متنفسات، حيث يرزح قائد الأسرة تحت وطأة الضعف المادي، وتدني المعرفة التربوية.. فهذه العدوانية القوية وهذه السلبية التي تؤطرها أغاني «الراب»، والتي تعكر صفو الفضاء العام، حيث تتحول مجرد مباراة في كرة القدم إلى محنة وامتحان، والأدهى أنها طباع تستقر حتى بعد تحمل الدولة لتوفير سكن لائق.
وعند فحص شكاية أرباب البناء والفلاحة، يتغافل المعنيون عن أن البنية الجسمية لغالبية هذا الجيل غير قابلة لتحمل مهنة شاقة كالبناء، علما أن وزن كيس الأسمنت بأوروبا بين 25 و35 كيلوغراما، لكن وزنه عندنا هو 50 كيلوغراما! زيادة على أن المقاول بأوروبا يوفر أجهزة السلامة والآلات المساعدة، ويبلط الحائط برشاش آلي… أما بقطاع الفلاحة فإلى متى نتجاهل نجاحها في أوروبا وكندا وأمريكا وتطورها بفضل المكننة الشاملة، باستثناء بعض الفواكه التي لا يزال قطفها يدويا، مما يفجر الطلب على اليد العاملة في مواسم معينة، فحتى تربية المواشي صارت بفضل الرقمنة آلية كليا، حيث يستطيع المربي المتقدم بفضل انخفاض التكلفة توفير اللحوم بأسعار أقل من التي يوفرها بها المربي المغربي، رغم تحمل الأول للضرائب؛ فإلى متى نستمر في حماية هذا المنتِج العاجز عن التطور وعن مقارعة منتوجات السوق الدولية، ليُمتع بالحماية على حساب القدرة الشرائية للمواطن البسيط وعلى حساب جودة التغذية؟
إن فقدان سيولة اليد العاملة بمهن معينة وفي مناسبات خاصة لا يمكنه أن يختفي يوما، لكنه ليس عاما فضله على جميع الفئات وفي سائر ربوع المملكة، لتبقى قطاعات معينة كالأمن الخاص، ومحلات الوجبات السريعة هي الملجأ في مدن الواجهة فقط، وليس في الحواضر محدودة الإمكانات التي تنعم بنخب سياسية، بعضها عبقري في تنمية وتطوير شجرة البؤس. إن جل الشباب بمدن الواجهة يقبلون أي فرصة دون ترسيم وبأجر مجحف، مع سقف ساعات يتجاوز الحد القانوني.. أما بالنسبة إلى المناطق السياحية، فأزمة الشباب فيها يلخصها حديث دار بأحد السجون في تعليق لأحد أبناء منطقة الشمال، رد به على مثمن لتطور مدن خط المتوسط المغربي، فرد عليه متسائلا ما فائدة جمال مدينة يضاهي جمال مدن أوروبية بلا شك، لكن جيوب الشباب فارغة طوال السنة، باستثناء حركية الصيف؟
هذه المرجعية التي تربط جاذبية الاقتصاد للاستثمار الأجنبي برخص ووفرة اليد العاملة، لا تُرفع وصفتها إلا على المنظومات التي تقع بأطراف العالم والتي لا تملك منافذ بحرية ولا بنية مؤهلة، والتي تتصف بتواضع المستوى المهني والحرفي بحكم بيئتها المنعزلة، ومن هذه الدول من ينتقل الهنود والصينيون إلى الاستثمار فيها، رغم أنهم المرجع في رخص وتدني الكلفة، وهي دول لا تمتلك طاقة للتمويل البنكي ولا عدد كفاءات في ريادة الأعمال مثل المغرب، من مهندسين ومهاجرين مخضرمين وغيرهم، وهي دول لا تمتلك سوقا للاستهلاك الداخلي مثل التي تثقل كاهل الميزان التجاري الوطني حتى بعد ارتفاع أداء الصناعة، وهي دول لم يبلغ فيها الادخار الأسري المائة مليار دولار، يوم تساءل جلالة الملك في خطابه أين الثروة؟ فالمتمسك عند المستوى الحالي بمحظورات التوطئة، عليه التدقيق في تأثير الفوارق على صحة القياس، من مستوى البنية التحتية والقرب من أكبر أسواق العالم ومن انسيابية في الربط، ومن قدرات للعنصر البشري على التمكن داخل خط الإنتاج، مما خبره أرباب المصانع بأوروبا الذين كان يندمج لديهم بسلاسة مهاجرون مغاربة، بدون أي تكوين سابق.
لا شك أن الشوط الأول من الأوراش الكبرى الذي صاحبته اتفاقيات فتحت أكبر الأسواق العالمية أمام المنتوج المغربي، لو رافق وصفته تصحيح كلفة الإنشاء والتشغيل للجميع سواسية وليس للشركات الكبرى فقط، لملاءمتها مع الدول المنافسة التي عجزنا اليوم عن الربح من تحرير التبادل معها، رغم ارتفاع كلفة اليد العاملة عندها، مما يؤكد شدة بأس هذا العطب في كلفة الإنشاء والتشغيل وفي جودة الخدمات الإدارية والقضائية، لأن الارتفاعات الصاروخية لسعر العقار قبل تشبع القطاع الصناعي منه هي مكمن الداء، الذي تدعمه البيروقراطية والمحسوبية التي يمكنها دحر حتى الشركات الكبرى لو تركت بدون رعاية خاصة. فمن أعراض هذا الداء العضال كارثة معمل طنجة وشيوع الورشات والمعامل العشوائية التي فرضت وجودها، بسبب ارتفاع سومة الكراء الصاروخية، لتغتني فصيلة معينة بفضل التواطؤ وغض الطرف؛ وهي الوحدات التي شُرع في هدمها بعدة مناطق أخيرا، ليتبخر مورد رزق كثير من الأسر، في تجل صارخ لعلو غير طبيعي لعتبة ولوج الأحياء الصناعية القانونية، حيث أبدع رئيس مجلس بلدي من منطقة الشاوية في عرقلة مشروع من هذا النوع، حماية لمشروعه الخاص.
نافذة:
ثبتت في دراسة علمية علاقة الاكتظاظ بتشكل الشخصية العدوانية سواء بالمدرسة أو الحي أو البيت فهناك منظومة دفع متناغمة يدعمها الفراغ القاتل طوال فترة الطفولة والمراهقة دون وجود أي متنفسات
كوابح الإقلاع الاقتصادي
2.2
إن ملوك العلامات الكبرى مثل اليابان وألمانيا يتجاوز حجم المقاولات الصغرى والمتوسطة لديهم الثلثين من حجم الاقتصاد، هذه الفئة من المستثمرين العاديين هي الأكبر داخل مجتمع الصناعة والإنتاج، والمغربي من هذه الفئة، حتى لو امتلك خبرة بمصنع محليا أو بالمهجر، أو اشتغل إطارا لمدة معينة في المجال، هو مشروع مقاول واعد بعد إعادة ضبط هذه الإعدادات، حتى لا تصرف كل فرصة تمويلية نحو إنشاء مقهى أو اقتناء بقعة أو سكن فارغ، هؤلاء المستثمرون العاديون أجانب ومغاربة سيتهاطلون كالمطر للاستثمار في الإنتاج والصناعة، بعد توفير العقار والطاقة والخدمة الإدارية والقضائية بشكل طبيعي فقط دون أي ريع، لأننا نتحدث بالتدقيق عن تصحيح الأرضية وتعقيم كلي لمناخ الاستثمار، حتى تصبح المنافسة ممكنة مع المنظومات التي نضطر إلى مراجعة التبادل الحر معها، بعد عجزنا عن مجاراة السباق لعلة تكمن في عجز المنظومة الإنتاجية وليست في هذا الانفتاح، لأن الأجور المرتفعة في تلك المنظومات مقارنة بالمغرب كان ينتظر بأن كفتهم هي التي كانت ستعاني من تحرير التبادل منطقيا، فمن هو المتهم إذا؟
أما الفلاحة والأشغال التي لا يطيق مجتمعهما ارتفاع التكاليف والأجور، ولا يتحمل وقف الدعم ولا الاستمرارية بدون أن ترتد الدولة عن الانفتاح التجاري، حتى لو كان ذلك على حساب جودة التغذية والقدرة الشرائية للمواطن البسيط، فالأولى لمن يستقبل ضغوطهما وشكاياتهما أن يفرض عليهما تحقيق مواكبة العصر، بالمكننة والتخصص العلمي، مع التكوين المستمر…
قد يكون صرف الدعم اليوم أجدى في توسيع بنية التخزين والتجميد لحماية الفلاح الصغير من صدمات السوق فلا يضطر إلى تصريف منتوجه بالخسارة، على عكس الفلاح الكبير الذي تحميه إمكانياته من هذه الضربات، كما ستحتاج قصة التسويق إلى مسلسل من الحلول، لأنه سيتعرض لكثير من العثرات، لكن تنزيله هو أكثر من ضروري، فالفرق كبير بين سعر بيع المنتوج بالضيعة، وبين سعر اقتنائه من المستهلك…
لقد تربى المقاول في أوروبا بفضل المنافسة وغياب المحسوبية على الامتثال لسلطة السوق في تحديد نسبة أرباحه، بعكس المقاولين المغاربة الذين تربوا على الأرباح القصوى، بعدما متعتهم المحسوبية بالحماية من منافسة المقاولين الأجانب على السوق المغربية، فقد حمل فشل الشركة الماليزية بمدينة تامسنا أسرارا غير التي أعلنت، حيث فاجأني موظف سابق بالعمران بالحقيقة، في حديث طائش، فأكد لي أن سبب كسرها هو تضرر المنافسين من الجودة والثمن المعقول لهذه الشركة، مما كان سيغير معايير اللعبة لو كتب لها إكمال نجاحها.. مثلها مثل مآسي المهاجرين الذين خاطروا بالاستثمار بأموالهم، ممن سقطوا فريسة لضواري النصب بطرق وخطط عبقرية تؤمن لها الخروج كالشعرة من العجين، المتقاطرة قصصهم على الصحف والمواقع، في مؤشر يحدد معدل سمية هذه البيئة التي لا ينجح فيها إلا من تربوا داخلها فاكتسبوا المناعة الذاتية.
إن تكاليف التغير المناخي القاسية مع تكلفة الارتكاز على نخب شرهة نمت جذورها في مدرسة البصري للريع والحضانة من المهد إلى اللحد، والتي منعتها الحماية من التأقلم مع المنافسة، ومحدودية الزجر والرقابة من التقويم، لن تفكر طوعيا في فسخ جلدها لمواكبة العصر، فعيوب هذه العقلية ستبقى من كوابح تعملق المنتوج الوطني، كما ستساعدها الرعاية المتجددة لكثرة تشكيها، والتي يعذر كل من يصدقها خوفا على المنتوج الوطني، لتفرض بقاءها واستمراريتها بدون أن ترضخ كما يجب، للتضحيات الواجبة من مضاعفة للجهود وتقليص للأرباح، ومن تسابق على التقنية والكفاءة، مما لا غنى عنه، من أجل مقارعة المنتوج الأجنبي في التكلفة والجودة؛ حتى يتسنى للمواطن الحصول على سكن أفضل ولحوم يجب أن يكون سعرها مبدئيا أقل من أوروبا، وحتى لا تهتز كفتنا في كل مواجهة مع الأخرى. إنها عقلية لا ترحب باستفادة الأجير من ارتفاع أرباحها، ولا استفادة الدولة التي تعاني من الغدر الضريبي وتضطر كثيرا إلى الاقتراض، حيث من الضروري تشريع قانون يمنح ربع المتحصل من التبليغ عن كل هدر لحقوق وواجبات الدولة، فهذا الربع ليس كبيرا، لأنه سيندثر بعد موجة الردع الأولى، فالعصا يجب أن تكون غليظة ويجب أن تبقى مرفوعة حتى لو قلت الحاجة إليها.
إن تكاليف هذه العقلية المؤثرة حتى لو لم تكن عامة، عندما تنضاف إلى تكاليف صمود ثالوث سومة العقار والطاقة والمحسوبية، هي التي تشكلت منها تلك القوة الرهيبة التي منعتنا من فرصة انفجار الإنتاج والصناعة العظيم الذي كان متوقعا من طرف عدة مراكز عالمية، بعد فتح الأسواق وتأهيل الأوراش الكبرى، التي ما زالت ديونها تثقل كاهل المحفظة العمومية.
في بدايات فورة النقل عبر معبر الگرگرات، سألت سائقا يعمل في النقل الدولي عبر الشاحنات الثقيلة، عن نوع ومصدر البضائع التي تذهب إلى إفريقيا، فقال لي تقريبا كلها مواد غذائية من زبدة وأجبان وگوفريت وشوكولا، وجميع المعلبات، أما المصادر فقد تكون حصة ما هو قادم من دول الاتحاد الأوروبي في مقطورات مغلقة هي 90 في المائة. هذه السوق الوارفة لا تتطلب لا صناعات معقدة ولا تكنولوجيات مستقبلية، فقبل هذا الطريق البري كانت تنقل جبنة البقرة الضاحكة عبر الطائرة وتباع بعشرة أضعاف في بعض المدن الإفريقية..
«في كندا كدولة فلاحية عظمى يمكنها أن تطعمك القمح والعدس والبلبولة من أبعد نقطة وأقسى مناخ وأنت في بلد فلاحي بجودة وثمن أفضل، لأنه في هذا البلد يمنع ممارسة الفلاحة بدون دبلوم وتخصص، وإذا توفي الفلاح المالك، على الورثة تعيين مسير متخصص أو البيع. فالفلاحة هي مهنة علمية وليست مجرد حرفة».
نافذة:
قد يكون صرف الدعم اليوم أجدى في توسيع بنية التخزين والتجميد لحماية الفلاح الصغير من صدمات السوق فلا يضطر إلى تصريف منتوجه بالخسارة على عكس الفلاح الكبير الذي تحميه إمكانياته من هذه الضربات