شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفنسياسية

لوحة أقدم من دُول بأكملها

 

 

يونس جنوحي

 

يستغرب السياح، العرب والأجانب أيضا، من وجود لوحة فنية في المتحف الوطني في فيينا، لأشخاص مغاربة، تعود إلى سنة 1783!

كل من زار النمسا، ووقعت عينه على اللوحة التي وقعها واحد من أشهر فناني تلك البلاد، واسمه “لوشينكول”، يُدرك أن الرجال الذين رسمهم هذا الأخير مغاربة. الجلابيب المغربية، تؤكد جنسيتهم قبل قراءة التعليق الدقيق، الذي يشرح سياق اللوحة وتاريخها.

كان الملك محمد بن عبد الله يحكم المغرب في سياق من الترقب. المغاربة كانوا قلقين بشأن ما يجري وراء البحر. والأجانب لا يغادرون ساحل طنجة إلا ليعودوا إليه. حتى أن وزراء المغرب وقتها كانوا محتارين بشأن إغلاق أبواب مكاتبهم في وجه الأجانب، أم فتحها على مصراعيها في وجه الضيوف، الدبلوماسيين منهم على وجه الخصوص.

حدث سنة 1761 أن سفينة نمساوية اقتربت من السواحل المغربية. طاقمها يقول إنهم ضلوا الطريق. وبحارة المغرب كانوا يعرفون أن دقة “الماكينات” التي يتوفر عليها الأجانب لا تدع أي مجال للغلط. وهكذا لم يتردد البحارة المغاربة في أسر البحارة ومصادرة السفينة وسحبها نحو مرسى سلا.

ساد التوتر بين البلدين لسنوات، إلى أن قرر النمساويون تلطيف الأجواء مع السلطان سيدي محمد بن عبد الله -محمد الثالث- وبعثوا، سنة 1780، يقترحون إبرام اتفاق، في سياق اتفاقيات أخرى سبق للمغرب أن أبرمها مع بريطانيا وفرنسا وإسبانيا.

سمع المولى محمد بن عبد الله أن ملك النمسا فقد والدته، فقرر أن يرسل سفيرا خاصا ليقدم التعازي باسم المغرب، ويبرم الاتفاق الذي اقترحته النمسا..

القنصل النمساوي لم يتمالك نفسه من الفرح، وكتب إلى ملك بلاده، يخبره أن وفدا مغربيا رفيعا في اتجاهه إلى النمسا، ويحمل هدايا قيمة باسم سلطان المغرب. حتى أن القنصل النمساوي أوصى سلطات بلاده أن يتم استقبال السفير المغربي، محمد بن عبد الملك، والوفد المرافق له استقبالا يليق بمكانة ملك المغرب، ولا يقل في شيء عن استقبال إمبراطور تركيا.

اللوحة المعلقة اليوم في متحف فيينا يظهر فيها رجال مغاربة بالجلباب المغربي، في حضرة ملك النمسا. فمن رافق السفير محمد بن عبد الملك؟

توثيق الزيارة يكشف أن السفير المغربي رافقه كاتبه الخاص ومسؤول عسكري مغربي اسمه محمد بن عبد الرحمن، كان مكلفا بالأسطول البحري، أي أنه كان “صاحب” مصيبة النمساويين، وأملهم في استرداد الأسرى المحبوسين في المغرب. بالإضافة إلى تسعة ضباط، كانت مهمتهم خلال الرحلة، حراسة مجموعة من الخيول النادرة التي سلمها المغرب هدية إلى النمسا، بالإضافة إلى ثلاثة “مخازنية” موسيقيين، شرّفهم النمساويون بتخليد أسمائهم في تاريخ المتحف، وهم: أحمد الشيخ، أحمد الحليق، وأحمد كينيكسي..

وهؤلاء الموسيقيون الثلاثة، كان الهدف من وجودهم في الوفد الرسمي، عزف الموسيقى العسكرية أثناء نزول السفير المغربي واتجاهه نحو الاستقبال الرسمي.

وهذه من المرات النادرة جدا التي ظهر فيها أن الوفد الرسمي المغربي إلى بلد أجنبي خلال تلك الفترة، يتضمن عازفي الموسيقى.

جرت وقائع الاستقبال يوم 28 فبراير 1783. أنجز الفنان النمساوي لوحته، وعاد السفير المغربي إلى المغرب، وجرت المياه تحت الجسر، وتطورت الأحداث وانشغل النمساويون بحروبهم، ودخل المغرب مرحلة مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906.. سقطت أنظمة، وقامت أخرى.. وبقيت اللوحة شاهدة على أن الجلباب مغربي، وأن عادة إهداء الخيول، مغربية أصيلة، قبل حتى أن يُبتلى العالم بالانفصاليين الذين وُلدوا جميعا قبل الشعار الذي يدافعون عنه!

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى