محمد السادس متحدثا بأربع لغات
المصطفى مورادي
أصدرت حركة التوحيد والإصلاح بيانا تشجب فيه التوافق الذي حصل برلمانيا بخصوص اللغات الأجنبية، لينضاف هذا الموقف إلى عصيان داخلي برلماني يشهده الحزب الذي يقود الحكومة، قد يؤدي إلى عدم تصويتهم على القانون الإطار. والمبرر عندهم هو أن اللغات الأجنبية ينبغي الاحتفاظ بها كلغات مُدرسة، في حين أن التدريس ينبغي أن يكون بالعربية وحدها. فالرد على هذا الوهم، جاء في اليوم نفسه وبأجمل طريقة.
فقد استقبل الملك محمد السادس بابا الفاتيكان فرانسيس. وهو حدث كانت رسالته الكونية واضحة، وهي أن التعصب الذي ينسب للأديان إنما هو جهل بهذه الأديان، وأن التعايش هو مآل كل المؤمنين الصادقين عبر العالم، مهما كانت معتقداتهم وثقافاتهم، مصداقا لقوله تعالى في أواخر سورة البقرة: «والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله». هذه الرسالة لم تكن واضحة فقط بعموم الحدث، بل وفي تفاصيله الجميلة وغير المسبوقة أيضا. فلأول مرة سمع المغاربة ملكهم محمد السادس يتحدث بأربع لغات، بدل اللغة العربية وحدها التي يلقي بها خطبه الرسمية. فقد سمع المغاربة ملكهم يتحدث اللغات الأجنبية بطلاقة، وبنطق لا يشوبه أيِّ مما يشوب عادة نطق الناس العاديين للغات أقوام غير قومهم. فقد تحدث جلالته بالإسبانية كإسبان مدريد، وبإنجليزية لندن، وبالفرنسية راقية لا تختلف إطلاقا عن فرنسية العاصمة باريس. وقبل أن يقرأ رسائله الثلاث هذه، قرأ رسالته أولا بلسان عربي مبين، ونطقه للحروف والكلمات يدل أيضا على مستوى تحكمه في لغتنا الأم.
دلالات الكلمات الأربع التي خاطب بها الملك محمد السادس العالم يوم السبت، أكثر من أن تحصى هنا في هذا الحيز، ولكن المؤكد أن الأمر يتعلق بحدث نادر الحصول عبر العالم. فنحن أمام أمير مؤمنين، وحامي الملة والدين، ومن خلالهما حامي العربية لكونها لغة القرآن الكريم، لكنه تحدث بطلاقة وبأربع لغات، في رسالة بالغة القوة والوضوح للعديد من «المؤمنين» الذين يختزلون الإيمان في ما تؤمن بهم «فرقتهم الناجية»، ويختصرون لغات العالم في لغتهم هم، معتقدين بأن هذه اللغة أكثر قداسة من لغات أقوام غيرهم. إنها رسالة واضحة كان يمكن أن تقتصر على العرب لو قيلت بالعربية فقط، ولكن الملك اختار أن يقول رسالته نيابة عن المغاربة بأربع لغات ليسمعها ملايير البشر في القارات الخمس. وفعلا شاهدها مليارا شخص عبر العالم في أقل من 24 ساعة. لذلك يجدر بنا أن نكون نحن أول من يسمعونها بآذانهم وتعيه قلوبهم.
يحدث هذا الحدث العظيم في وقت تم الحسم، بعد طول جدل، في مسألة تدريس اللغات ولغات التدريس. فأن نحافظ على هويتنا اللغوية والثقافية هو أمر هام، لكن تعلم اللغات الخاصة بالثقافات والحضارات الأخرى هو أمر لا يقل أهمية. ففي مضمون الرسائل الأربع، سمعنا أربع رسائل مختلفة بأربع لغات مختلفة، وليس رسالة واحدة مترجمة، حيث روعيت في كل رسالة الخصوصيات الثقافية الخاصة بكل لغة من اللغات التي تحدث بها الملك، والدلالة هنا واضحة ومفادها أن انفتاحنا على العالم يفرض علينا تعلم لغات العالم، وهذا يفرض علينا قراءة ثقافات وكل ما أنتجته وتنتجه الحضارات الأخرى بلغاتها. فـ«الانفتاح على اللغات الأجنبية لن يضر الهوية المغربية بل على العكس سيساهم في إغنائها» كما جاء في خطاب عيد العرش لسنة 2014.
إن خطب الملك باللغات الأربع، يوم السبت الماضي، تصحح بشكل كبير المسار الذي خطته المزايدات السياسوية بخصوص تعلم اللغات، فأن يسمعنا العالم لابد أن نتعلم لغاته الأكثر انتشارا، فمن يتعلم العربية وحدها يجد نفسه مضطرا إلى أن يُسمع صوته للعرب فقط، لكن أن تضيف إلى رصيدك اللغة الإنجليزية، فإن صوتك سيصل لأزيد من نصف مليار إنسان، يتواصلون بهذه اللغة في أمريكا الشمالية وإنجلترا وأستراليا ونيوزيلندا وإفريقيا، فضلا عن نصف مليار يتواصون بها كلغة ثانية، وأن تضيف اللغة الإسبانية فإن صوتك يصل أيضا إلى نصف مليار أخرى، دون أن نغفل أكثر من أربعين شعبا عبر العالم يتحدثون الفرنسية. بل إن هويتك ستصبح أغنى لأنك تنفتح على المعارف والعلوم والثقافة التي ينتج هؤلاء بلغاتهم المختلفة. بهذا المعنى، يمكننا القول إن توقيت هذه الخطب جاء مناسبا جدا، لكونه يخرس تجار الهوية إلى الأبد ويكشف بوار بضاعتهم.