شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

نحنُ والفاتيكان علاقة بدأت قبل 8 قرون وتعززت مع إقامة الرهبان بين المغاربة

 

يونس جنوحي

«رحل البابا فرانسيس. هذا البابا زار المغرب سنة 2019، وحظي باستقبال تاريخي أقامه الملك محمد السادس، ونقلت كل صحف العالم صور هذا اللقاء الودي بين رمز المسيحيين، وأمير المؤمنين.

قبل البابا فرانسيس، يعود عمق العلاقة بين المغرب والفاتيكان إلى فترة الموحدين، أي إلى أكثر من 775 سنة، وتعززت أكثر مع الملك الراحل محمد الخامس، كما سوف نرى من خلال مذكرات رهبان تومليلين، الذين جاؤوا إلى المغرب سنة 1952 بمباركة من البابا.. قصتنا مع الفاتيكان ضاربة في القدم.. وهذه بعض تفاصيلها فقط..».

 

«الطريس» أول مبعوث مغربي إلى الفاتيكان قبل 145 عاما

أول اتصال بين المغرب والفاتيكان، يعود إلى عهد الدولة الموحدية. وهذه الحقيقة التاريخية مدعمة بالوثائق. إذ إن الفاتيكان لا يزال يحتفظ إلى اليوم برسالة السلطان الموحدي، المرتضى، التي بعث بها إلى البابا، والمؤرخة في شهر يونيو سنة 1250 ميلادية.

كان موضوع الرسالة، مسألة المسيحيين الموجودين في المغرب، أسرى لدى السلطان.

أقر البابا بحسن التعامل الذي لاقاه مبعوثه إلى المغرب، لمزاولة مهامه الدينية وتأطير الرعايا النصارى.

لم تقدم هذه الوثائق معلومات وافية بشأن ظروف هؤلاء الأسرى، ولم تكشف وجود مساع للتفاوض حول إطلاق سراحهم في ذلك الوقت.

لكن أهم زيارة إلى الفاتيكان، ليس فقط من الناحية التاريخية، وإنما من الناحية السياسية أيضا، تلك التي قام بها مبعوث السلطان الحسن الأول إلى الفاتيكان سنة 1880. يتعلق الأمر بزيارة محمد العربي الطريس، على رأس وفد مغربي رسمي، إلى الفاتيكان، حيث حظي باستقبال البابا، وشكل وصول الوفد المغربي وقتها حدثا مهما وثقته الصحافة الأوروبية، خصوصا الإيطالية والفرنسية والألمانية.

شكلت الزيارة وقتها مصدر ضيق للمفوضية البريطانية في مدينة طنجة الدولية. إذ إن البريطانيين كانوا يسعون إلى إقناع المولى الحسن الأول في تلك السنة بتوقيع بعض الاتفاقيات، التي تمنح لتجار بريطانيين امتيازا عن غيرهم من التجار الأوروبيين، لاستغلال ميناء الصويرة و«مازاغان».

وفي الوقت الذي كان فيه مبعوث الوزير البريطاني ينتظر في طنجة لكي يتوصل برسالة من فاس، تحدد موعدا لكي يستقبل فيه السلطان الحسن الأول وفد بريطانيا، وصل خبر وصول الطريس إلى الفاتيكان للقاء البابا.

وجاءت هذه الزيارة أيضا في سياق توتر كبير بين فرنسا والمغرب، خصوصا على مستوى الحدود الشرقية. إذ إن السلطان الحسن الأول توصل بأخبار تفيد بتعرض رعايا مغاربة لمضايقات من طرف الجيش الفرنسي على مستوى الحدود الشرقية، غير بعيد عن وجدة. في حين أن الأهالي هناك ألفوا التنقل شرقا بكل حرية.

كما أن فرنسا كانت تصور المغرب في آلتها الإعلامية، على اعتبار أنه بلد بدائي لا وجود فيه للتسامح الديني، ووصف قبائل المغرب بـ«البربرية». وجاءت زيارة الطريس لكي تفند ادعاءات المسؤولين الفرنسيين في الجزائر، والتي كانت تصل إلى الصحف الصادرة في فرنسا.

وصول الطريس، وثقت له الصحف الأوروبية البارزة، في مقالات مقتضبة تطرقت فيها إلى لباسه وتصرفه في حضرة البابا. وكان طبيعيا أن تنتصر هذه المقالات لقداسة البابا، وتؤكد على احترام الضيف المغربي المسلم لمكانة البابا الدينية.

 

عبد الله إبراهيم نقل رسالة محمد الخامس إلى البابا

في الفترة التي كان فيها عبد الله إبراهيم وزيرا أول، بعثه الملك الراحل محمد الخامس سنة 1960، لكي ينقل رسالة منه إلى البابا.

الملك الراحل محمد الخامس اعتبر أن مبعوثه عبد الله إبراهيم تجسيد لامتداد العلاقة بين سلاطين المغرب والفاتيكان، في إطار الانفتاح والتسامح الديني والالتزام بتعاليم الإسلام التي تحث على احترام المعتقد.

كانت هناك قراءة مغايرة لمبادرة الملك الراحل محمد الخامس بإرسال وزيره إلى الفاتيكان. فقد كان هناك حديث عن «قلق» لدى بعض الأوساط بشأن مستقبل الكنائس والدير، التي بنتها فرنسا خلال فترة الحماية، واحتمال تحويلها إلى مساجد وإدارات بعد الاستقلال.

وتقوت هذه «الإشاعات» أكثر، في ظل النقاش السياسي حول جلاء الولايات المتحدة من القواعد العسكرية، وإخلاء فرنسا لقاعدة مكناس، ثم قواعد أخرى.

زيارة الوزير الأول عبد الله إبراهيم إلى الفاتيكان، كانت تطمينا من الملك الراحل محمد الخامس إلى الأوساط الدينية في أوروبا، والعالم، بشأن مستقبل الكنائس في المغرب، سيما مع اختيار عدد كبير من الرعايا الفرنسيين الاستقرار في المغرب، حتى بعد الاستقلال رسميا عن فرنسا.

لم تكن علاقة الملك الراحل محمد الخامس مع الفاتيكان قد بدأت عند هذه الزيارة، بل إنها تمتد إلى ما قبل ذلك، خلال فترة الحماية أيضا.

فقد سبق للسلطان أن استقبل رئيس الأساقفة في المغرب، وخصه باستقبال في القصر الملكي بالرباط، في عز الخلاف بين السلطان والإقامة العامة الفرنسية، وفي عز أنشطة «اليد الحمراء» المتطرفة التي تستهدف الوطنيين المغاربة، وتدعو إلى الإبادة وترسيخ وجود فرنسا عسكريا في المغرب.

كان رئيس القساوسة، السيد «لو فيفر»، الذي يحظى بتقدير وتفويض من بابا الفاتيكان، ينقل بشجاعة رفضه لممارسات الإقامة العامة، وأساليب الحكومة الفرنسية للتضييق وقتها على السلطان الشرعي، ومحاولة عزله عن الحركة الوطنية.

لذلك اتسم اللقاء بأهمية كبرى، وعبرت الإقامة العامة عن تحفظها بشأن هذا «الاتصال».

لكن أهم التفاصيل التي تتعلق بوجود ممثلي البابا في المغرب، تجربة رهبان تومليلين. والتي وثق لها كتاب صدر سنة 1960، لمؤلفين أمريكيين، جاءا في نهاية الخمسينيات إلى المغرب وجلسا مطولا مع «الأب مارتن»، رئيس الدير وزعيم الرهبان، وسجلا قصة إنشاء هذا الدير في قلب منطقة أزرو، ورصدا التعايش الكبير بين الرهبان وسكان المنطقة، وتطرق الكتاب أيضا إلى زيارة الأمير مولاي الحسن إلى الدير، وعلاقته الودية مع الأب مارتن.

عندما اعتبر الفاتيكان استقبال البابا يوحنا الثاني في المغرب «تاريخيا»

عندما حل البابا يوحنا بولس الثاني في المغرب يوم 20 غشت سنة 1985، وصف الفاتيكان، في مقال نُشر بالمناسبة، هذه الزيارة بأنها غير مسبوقة في التاريخ، وأن المغرب أرخ لحدث إنساني فريد يتمثل في زيارة البابا إلى بلد مسلم. بل جاء في المقال إن الملك الحسن الثاني يُعتبر أول قائد عربي مسلم يلتقي البابا يوحنا بولس الثاني ويستضيفه في بلاده. ويضيف المقال أيضا أن الملك الراحل الحسن الثاني ليس فقط زعيم دولة، لكنه سلطة دينية باعتباره أميرا للمؤمنين، وهذا ما زاد من أهمية اللقاء مع البابا.

كتبت الصحافة الدولية عن استضافة المغرب للبابا يوحنا بولس الثاني، في سياق دولي لم يخل من توترات، خصوصا تداعيات القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي وقتها، بالإضافة إلى صعوبات اتفاق الدول العربية على عقد قمة عربية وإسلامية للخروج بقرارات بشأن أزمة إيران والعراق، والتي أسالت الدماء، وتسببت في ارتفاع أسعار البترول. وهكذا فإن استقبال المغرب للبابا، حظي بأهمية كبرى في هذا السياق الدولي المشتعل.

حتى أن الرسميين الذين رافقوا البابا إلى المغرب، لم يبد عليهم أي قلق بشأن سلامة البابا، الذي كان وقتها يعاني من بدايات المرض الذي رافقه طيلة السنوات الأخيرة من حياته. في حين أن زيارات البابا إلى دول أوروبية أخرى، رافقتها تدابير سلامة وصفتها الصحافة الأوروبية بالمشددة، حرصا على صحته.

لم تمنع حرارة الصيف البابا من الوقوف مطولا مع الملك الراحل الحسن الثاني، حتى بعد انتهاء مراسيم التقاط الصور الرسمية، التي انتشرت في كل الصحف والمنابر الدولية والقنوات التلفزية العالمية، وبدا واضحا أن الزيارة عنت للبابا يوحنا بولس الثاني الكثير.

 

دونيس مارتن.. راهب أرسله البابا إلى المغرب سنة 1952

في سنة 1952، حل مجموعة من الرهبان في المغرب، ونزلوا بالضبط في ميناء الدار البيضاء، وحزموا أمتعتهم صوب منطقة أزرو، لكي يؤسسوا هناك لواحدة من أندر وأهم التجارب الإنسانية في القرن الماضي. فقد اتخذوا من المنطقة مكانا لإقامة دير، ومارسوا شعائرهم الدينية بين المغاربة المسلمين، وفتحوا الدير أمام الأطفال والشيوخ، ودخلوا في صراع مع الإقامة العامة الفرنسية.

لكن ما يهمنا هنا، الدور الذي لعبه البابا في تلك السنة، أي 1952، لجعل حُلم هؤلاء الرهبان ممكنا.

إذ أشار كتاب «بينديكتين والمغاربة»، إلى أن هناك تجربة فشلت في السابق، وامتنعت المؤسسة الدينية في فرنسا عن دعم مغامرة أخرى لإرسال الرهبان.

والمثير، بحسب ما يكشفه الكتاب، أن الحكومة الفرنسية كانت تعترض منذ البداية على مشروع مماثل، بحكم أن ممثلي الكنيسة اشترطوا على الحكومة ألا تتدخل في برنامج إقامة الرهبان في المغرب، وأن يظلوا بعيدين عن سلطة الإقامة العامة. وهو ما اعتبرته الحكومة وقتها رغبة من الكنيسة في ممارسة أنشطة مستقلة تماما عن توجيهات الإدارة الفرنسية وسياسة فرنسا في المغرب.

جاء في هذا الكتاب، ما يفيد بأن البابا نفسه، دعم فكرة انتقال الرهبان إلى تومليلين، لكي يستقروا هناك، ويتفرغوا تماما للعبادة، لما تبقى من حياتهم:

«أصر رئيس الدير على أن يكون هناك توضيح كامل لوضع الدير الذي سبق أن فشل في المغرب، بحكم أنه كان تابعا لسلطة من الطائفة «البنديكتية» تختلف عن تلك التي ينتمي إليها الراهب ماري.

وقد كتب: «إننا لن نوافق أبدا أن نأخذ على عاتقنا عبء إنشاء مؤسسة من شأنها أن تكون منافسة لمؤسسة أخرى. يجب أن تحكم القاعدة الذهبية في العلاقات بين جميع الرجال الشرفاء. وبالنسبة إلي، فالأهم أن تسري هذه القاعدة بين الكنسيين والرهبان».

لاحقا، وبينما كان يتحدث مع الأسقف «جوناس سوهر» من كوبنهاغن على اعتبار أن تكون مؤسسته الدانماركية هي الداعمة، جاءت رسالة شخصية من البابا بيوس الثاني عشر يحث فيها «دي فلوريس» على محاولة المضي قدما في مشروع المؤسسة المغربية. في منتصف أكتوبر 1950، طار رئيس الدير إلى المغرب.

في ملاحظاته عن الرحلة، ذكر الدوم «ماري دو فلوريس» أنه أحس ببعض التكبر والترفع في الأشخاص الذين كانوا مرشحين لتمثيل طائفة «البينديكتين» في المغرب. وقال: «لم يفهموا، عند سماعهم يتحدثون، أساسيات الدعوة الرهبانية وتأثيرها في بلد مُسلم. لكن رغبتهم في التأسيس لها في المغرب كانت عميقة». وتساءل: «هل من الضروري فعلا أن يستوعب العلمانيون ويفهموا هذه الضروريات، في حين أن بعض الرهبان أنفسهم لم يفهموها؟».

المثير في هذا الكتاب، أن مؤلفيه الأمريكيين نقلا على لسان الأب مارتن، رئيس الدير ومتزعم الرهبان، تجربته مع البابا شخصيا، أسابيع قبل رحيله إلى المغرب:

«بعد ذلك أخبر الجميع بأمر الزيارة التي قام بها مع الدوم دونيس مع البابا، في يونيو المنصرم:

«لقد أخبرته عن مؤسستنا في المغرب، ورغبتنا في تلبية النداء الذي أطلقته الكنيسة منذ وقت طويل، وهي تخاطب الطوائف الرهبانية، وهو مواصلة تعريف الدول بالحياة المسيحية الصحيحة والمستقرة. بارك البابا خطتنا وأثنى على مجهوداتنا، وأكد لنا أنه سوف يرعى ويتابع بداياتنا ويشملنا بدعواته الباباوية. أعاد على مسامعنا مرات كثيرة: -الصلوات والقدوة هما الطريقتان الأكثر طلبا، واللتان يجب أن تتوفرا في كل مبعوث في الدول المُسلمة».

بعد ذلك، أشار رئيس الأساقفة إلى الغاية من وراء التأخر في المجيء إلى المغرب.

يقول الدوم ماري:

«في وصيته الروحية، أخبر الدوم «رومان بانكيت»، مؤسس دير «أون كالكات»، أبناءه أن يتمهلوا عندما يتعلق الأمر بمشروع مؤسسة. أكد عليهم قائلا: – يا أبنائي لا تتسرعوا في إنشاء مؤسسة. كونوا متمهلين. كونوا أكثر من متمهلين، عندما يتعلق الأمر بإنشاء مؤسسة.

قال لهم إن الإشارة الأكثر تأكيدا على إرادة الله، هي الترحيب التلقائي بالعادات القديمة وتقبلها».

نظر رئيس الأساقفة مباشرة إلى رئيس الدير وهو يقول:

«في ما يتعلق بمؤسسة تومليلين، فإن هذه الوصية قد طُبقت بحذافيرها. فأنت لم تُرحب بنا فقط، ولم تشجعنا فقط، بل اتصلت بنا مباشرة».

 

قصة رهبان تومليلين.. رحلة أسست لعلاقة ود مع الفاتيكان

في نفس تجربة رهبان تومليلين، والتي وثق لها الباحثان الأمريكيان «بيتر بيش» و«ويليام دونفي» سنة 1960، تتوفر لدينا اليوم وثيقة تاريخية، تؤرخ لرحلة هؤلاء الرهبان إلى المغرب وتصف ظروفها بدقة:

«في سنة 1952 رحل عشرون راهبا عن دير «أون كالكا» في جنوب فرنسا، وأبحروا إلى الدار البيضاء في المغرب. توغلوا داخل البلاد 150 ميلا، ثم توقفوا.

بالقرب من بلدة أزرو الأمازيغية، وعلى هضبة وسط جبال الأطلس المتوسط، قاموا ببناء دير وأطلقوا عليه اسم «دير المسيح الملك».

ومع مرور الوقت، أصبح هذا الدير معروفا فقط باسم «تومليلين»، على اسم نبع مياه قريب.

الأرض المحيطة بالدير كانت وعرة، تتوزع فوقها الجبال، وكانت مخضرة في بداية العام تكسوها الزهور والعشب، وأغنام تبدو من بعيد وكأنها كُتل رمادية بطيئة الحركة.

كان المكان مشمسا وساطعا تهب فيه رياح قوية، وتعلوه سحب متراكمة منخفضة تحلق فوق الوديان وتتدافع نحو القمم، في طريقها جنوبا نحو الصحراء.

باستقرارهم في المغرب، خلق هؤلاء العشرون التمثيلية المسيحية الوحيدة للرهبان في شمال إفريقيا المُسلِمة.

لماذا رحلوا عن «أون كالكا»؟

لقد غادروا صوب المغرب، لأن رئيس ديرهم أمرهم بذلك، ولأنهم أيضا دُعوا مرارا لزيارة المغرب من طرف رئيس الأساقفة. ولأنهم أُمروا بالاستقرار في أرض المغاربة، بأمر من البابا بيوس الثاني عشر.

جاء هؤلاء الرهبان إلى المغرب في وقت سيئ، كانت البلاد على وشك الثورة ضد فرنسا. في الحقيقة، كان نضال المغرب من أجل الاستقلال وأزمة الضمير التي خلقها هذا الموضوع للعديد من الفرنسيين، تشبه إلى حد كبير «التراجيديا» التي تعيشها الجزائر اليوم.

ومن ناحية أخرى فإن هؤلاء الرهبان جاؤوا إلى المغرب في توقيت مناسب أيضا، لأن الاضطرابات السياسية اللاحقة أعطتهم فرصة لكي يثبتوا، كما قال أحد المسلمين، أن «الفرنسيين ليسوا جميعا أشرارا».

وقد أثبت هؤلاء الرهبان هذا الأمر بمائة طريقة.

مثلا، قدموا الشاي إلى سجناء فرنسا ضدا على الأوامر والتعليمات التي منعت أي اتصال معهم. وانتشر الكلام: «رهبان تومليلين رجال الله! إنهم مُسلمون حقيقيون!».

بنفس الروح التي حركت «الرهبنة البينيديكتية» لأزيد من ألف وأربعمائة سنة، بنى الرهبان مستشفى للأمازيغ الذين يعيشون في الجبال المحيطة بالدير. وأقاموا دارا لأيتام أطفال المسلمين. وبدؤوا تعاونيات فلاحية لجيرانهم المسلمين. وقسما داخليا لإيواء التلاميذ المسلمين، كما أسسوا ندوة دولية كل سنة، والتي لقبها الأستاذ «ف. س. ك» بجامعة نورثبول في يال، بـ«واحدة من أكثر التطورات البناءة في العالم المعاصر».

(..)

وقد قال سلطان المغرب لأطفال أزرو: «ثقوا بهؤلاء الرهبان، وهم كآبائكم، لن يُعلموكم إلا الأشياء الجيدة».

هذه إذن هي تومليلين اليوم. مجتمع من الرقابة الصارمة، وقوالب شكلتها الظروف وجعلت منها أداة قوية للفائدة الاجتماعية في المغرب.

لكن قصة تومليلين أكبر بكثير من مجرد تقرير عن أعمال خيرية قام بها رجال صالحون. إنها قصة عشرين راهبا من «البينيديكتين» الشجعان، الذين حافظوا على كرامتهم وهويتهم كمسيحيين، ورهبان في أرض مسلمة، على الرغم من الأخطار والتهديدات والضغوط.

إنها قصة الـ«دوم» ماري دو فلوريس، رئيس دير «أون كالكات»، الذي وفر مأوى لمئات الرجال والنساء، الذين أصيبوا خلال الحرب العالمية الثانية.

إنها قصة الأخ «جون ميشيل رودير»، الذي قضى سنوات الحرب يزور أوراق هويات اليهود في أمستردام.

إنها قصة الـ«دوم» إيم تيسيي الذي أنهى غذاءه بهدوء، بينما كانت مجموعة من الأمازيغ يتجادلون في ما بينهم كيف سيقتلونه.

إنها قصة الـ«دوم» جبريل كومبس الذي قال له فارس أمازيغي:

  • قريبا سوف نقتل كل الفرنسيين.

لكن قصة تومليلين، على الأخص، هي قصة الـ«دوم» دونيس مارتن الذي ترأس الدير منذ البداية، والذي تحدى وواجه مرة القيادة العليا للجيش الفرنسي، عندما جرت محاولة لتجنيد بعض الرهبان لديه».

 

 

تلميذ «البابا» حضر إلى باريس واستقبل محمد الخامس عند عودته من المنفى

من الحقائق التاريخية التي تكشفها تجربة رهبان تومليلين، أن رئيسهم القس مارتن، الذي كان مقربا من البابا بيوس الثاني عشر، حضر إلى باريس خصيصا لاستقبال السلطان محمد بن يوسف عند عودته من مدغشقر، تمهيدا لنهاية مرحلة المنفى والعودة الرسمية إلى العرش.

وقد نقل الأب مارتن، إلى الباحث الأمريكي «بيتر بيش» ذكرياته عن هذه الرحلة:

«كان الأب مارتن موجودا في باريس خلال الأسبوع، خلال زيارة «النصر» التي قام بها السلطان. وصل «تيليغرام» من إدريس المْحمدي، يطلب فيه أن يحجز 48 غرفة في فندق لبعثة من الأطلس المتوسط. ولم يكتف القس بتدبر أمر غرف الفندق فقط، بل إنه قام بكراء حافلة لاستقبالهم في مطار «أورلي» مع تمام الساعة الثالثة صباحا. كان عدد من أصدقائه المقربين ضمن البعثة، بمن فيهم «الجليل» الفقيه محمد بلعربي العلوي.

بفضل «بريستيج» الفقيه – كان هو العالم الوحيد الذي لم يصوت لتنصيب بن عرفة، وهو ما طعن في العملية- فقد منح السلطان الأفضلية للبعثة وحظيت باستقبال على الفور. أصر المغاربة على أن يرافقهم الأب مارتن ويأتي معهم.

رفض بأدب دعوتهم، وشرح لهم لماذا.

قال لهم: «حتى الآن، أنا فقط أقدم المساعدة لأصدقائي في قضية خاصة.

زيارة السلطان في هذا الوقت، قد تعني الانخراط في فعل سياسي عام. وهو ما لا أستطيع القيام به».

في تلك الأثناء، كانت الفوضى قد انتشرت في المغرب. وطلبت فرنسا من محمد الخامس العودة إلى العرش.

كانت لائحة أسماء أعضاء حكومة محمد الخامس الأولى كما لو أنها لائحة سجل الزوار في تومليلين: سي امبارك البكاي كان وزيرا أول. إدريس المْحمدي كان وزير الدولة، ثم وزيرا للداخلية. المهدي بن بركة كان رئيس المجلس الاستشاري الوطني. محمد الفاسي كان وزيرا للتعليم، والكابيتان المحجوبي أحرضان كان عاملا للرباط.

بعد فترة قصيرة، قام الأمير مولاي الحسن بزيارة ملكية إلى أزرو، كانت تلك زيارته الأولى منذ منفى والده».

وفي سياق الحكي عن هذه التجربة، تطرق الأب مارتن أيضا إلى الزيارة التاريخية التي قام بها ولي العهد إلى تومليلين للقاء الرهبان، بعد الاستقلال، سيما وأن الملك الراحل محمد الخامس وولي العهد الأمير مولاي الحسن سمعا عن الدور الذي لعبه الدير في توفير نوع من الحماية للوطنيين، والموقف المشرف لهم من سياسة المقيم العام، فقرر ولي العهد إجراء الزيارة ولقاء الأب مارتن في قلب الدير:

«نُصبت الخيام في مركز البلدة، ونزل الأمازيغ من الجبال لرؤية أميرهم. كان العلم المغربي الأحمر بالنجمة الخضراء التي تتوسطه، يرفرف في كل الشرفات وأعمدة الإنارة. كان واضحا أيضا غياب الأعلام الفرنسية.

وصل استدعاء ملكي إلى الدير يدعو الأب مارتن للمجيء إلى أزرو. ذهب القس في سيارة حكومية مزينة بالأعلام الملكية. عندما اقترب من خيمة الاستقبال الملكية، لاحظ وجود وفد يمثل السكان الفرنسيين المحليين، مكون من صغار رجال الأعمال، مُدرسين، وصغار موظفي الخدمة المدنية.

عندما كان القس يتوقع أن تتم دعوته للانضمام إليهم، فوجئ بقائد أزرو يرافقه متجاوزا المجموعة الفرنسية، في اتجاه الأمير. في تلك اللحظة، قام كولونيل فرنسي شاب بالخروج عن الحشد. ومد يده، مبتسما، إلى القس.

تعرف عليه الأب مارتن، وأدرك أنه «كوموندان» القوات الفرنسية المُعين في المنطقة. جاء إلى أزرو قبل بضعة أشهر، تقريبا في الوقت نفسه الذي نُقل فيه الكولونيل «كليسكا» إلى مركز آخر.

الحاكم العسكري الجديد تجاهل التقاليد المحلية، ولم يقم أبدا باستدعاء القس وأظهر للآخرين عدم تقديره وعدم احترامه لوطنية القس. والآن، في الوقت الذي خطا فيه إلى الأمام ويده ممدودة، بدا وكأنه حريص على الظهور أمام الحشد كما لو أنه صديق حميم للقس.

لكن الأب مارتن التفت صوب القائد، الذي كان بصدد تعريف القس بالضابط، الذي سيطر عليه الوجوم، شريكه في المواطنة والدين.

مضى الأب مارتن إلى الأمام، وتم إرشاده إلى مكان قريب من مكان جلوس الأمير. شكر الأمير مولاي الحسن القس باسم السلطان على الصداقة والتفهم، الذي أظهره الرهبان للمغاربة خلال الاضطرابات.

نادى البروتوكول الملكي على الأمير، لكي ينسحب في اتجاه الخيمة الملكية وحيدا، خلال الاحتفال الهائل الذي أعدته قبيلة بني مكيلد. لكنه دعا الأب مارتن ووزراء الحكومة الحاضرين، لكي يشاركوه خيمته.

بينما الكولونيل المحبط تناول وجبة الغداء في خيمة أخرى مع وفد الفرنسيين».

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى