حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

آسفي.. وما «آلت إليه»..

يونس جنوحي

 

مر أكثر من أسبوع على كارثة آسفي. بدأت المدينة تتعافى حاليا مع ظهور أولى أشعة الشمس. شرع الناس في إزالة ما يمكن إزالته، ووقفوا على حجم ما دمرته السيول وما جرفته من أتربة.

قصة آسفي مع السيول والفيضانات، تستحق وقفة تأمل «تاريخية».

عندما كان العالم والقاضي والمؤرخ المغربي الكبير محمد العبدي الكانوني، يضع آخر اللمسات على كتابه «آسفي وما إليه قديما وحديثا»، منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن يعلم «الفقير إلى الله» أن أعنف ما عصف بآسفي حديثا لم يكتب في عهده، وأنه لو اختار «ما آلت إليه»، بدل و«ما إليه»، لكان العنوان أنسب لما صارت عليه المدينة هذه الأيام.

فقد كان يظن أن أعتى ما مر بآسفي، قد سجله في كتابه، لكن الحقيقة أن سيول آسفي الأخيرة «نسخت» كل الحوادث السابقة، التي غيرت شكل آسفي عبر التاريخ.

مما يحكى عن القاضي الكانوني، أثناء اشتغاله على «آسفي وما إليه»، أنه اشتغل عليه معظم سنوات حياته القصيرة. فالرجل الذي توفي في الخامسة والأربعين من عمره، سنة 1938، ونعاه السلطان الشاب سيدي محمد بن يوسف وأوفد إلى جنازته من يمثله، كان يعمل على مشروع تاريخي توثيقي أكبر من هذا الكتاب. ولم يكن «ما آلت إليه آسفي» -مع اعتذارنا لورثة الكانوني-، سوى جزء فقط من العمل التوثيقي الضخم الذي لم يكتب له أن يتم نهائيا.

حياة هذا المؤرخ هي الأخرى كانت «مآلاتها» غير متوقعة. ففي بداية شبابه عاش اليتم، بعد وفاة والدته وسنه لم تتجاوز 14 سنة، وكان وقتها يطلب العلم في مدينة سلا، قبل أن ينتقل إلى القرويين ويبصم على مسار علمي متميز، جعل اسمه ينتشر بسرعة بين فطاحلة الفقه والقانون والتاريخ.. وهكذا بدأ مسيرته في جمع تاريخ آسفي وسنه بالكاد قد بلغت العشرين.

تأثر الكانوني كثيرا بشخصية السلطان مولاي يوسف، والد الملك الراحل محمد الخامس، وأعجب به، وتطرق إلى آسفي في عهده، وهو الذي حكم المغرب في فترة غليان ما بين 1912 و1927، بعد أن وثق لها منذ قيام الدولة المغربية وأقدم العصور، وكيف أصبحت مدينة تجارية، بعدما أسس العلويون «الصويرة» أو «موگادور».. الكانوني اعتبر أن الثورة التجارية التي أطلقها السلاطين العلويون بعد عهد المولى إسماعيل، أحيت آسفي وجعلت «مرسى» المدينة قطبا للاقتصاد المغربي.

عصفت حوادث كثيرة بمرسى آسفي، وعاش صيادوها وتجارها مآسي انقلاب البواخر، بسبب السيول والوديان التي تعبر المدينة لتصب في المحيط. ورغم العلاقة السيئة التي تجمع «المسفيويين» بالبحر، إلا أنهم كانوا دائما يفضلون التعامل مع ما وراء البحر، بدل إدارة ظهرهم إلى مراكش.. وتلك قصة أخرى.

يقول الكانوني في كتابه إن آسفي عرفت بعد مجيء الفرنسيين تأسيس أولى فروع الأبناك، قرابة 1915، وذكر كيف أن السلطان مولاي يوسف جمع علماء آسفي، ووافقهم على تعبئة الناس في آسفي حتى لا يتعاملوا مع إدارات الفرنسيين. وذكر أيضا كيف أن نخبة آسفي ظلت محافظة على أصالة المدينة، رغم محاولات الفرنسيين «تحديث» الشارع الرئيسي و«زرع» البنايات العصرية على جنباته.

الشارع نفسه الذي شهد سيول الأمطار لقرون متواصلة، هو نفسه الذي غرق اليوم في آسفي، بسبب الإهمال الواضح للبنيات التحتية.

«واد الشعبة» الذي بصم الآن على تاريخ آسفي، وأعاد كتابته، ليس إلا امتدادا لتاريخ طويل من الحوادث المؤسفة التي عاشتها المدينة منذ عهد المرينيين.. فقد سحب هذا الوادي بنايات آسفي الطينية، وأعاد سكان المدينة بناء كل شيء من جديد، تماما كما كان «سيزيف» يرفع الصخرة وتهوي إلى الأسفل، قبل أن يصل إلى القمة.

صحيح أن الكانوني لم يعش طويلا لكي يرى «ما آلت» إليه آسفي فعلا بعد الاستقلال، لكنه عاش «بأثر رجعي»، عندما اطلع على تاريخ آسفي القديم، في محاولة لفهم حاضرها.

اليوم، رأى المغاربة كيف أن الفاجعة التي ألمت بأهل آسفي، لا توجد كلمات تُسعف أحدا لكي يصف حجمها. «واد الشعبة»، لم يغير من مزاجه الحاد. ولو أن المسؤولين عن المدينة اهتموا فعلا بالدراسات التي تسبق تراخيص البناء، لكان وقع الكارثة أقل بكثير. كيف يعقل أن ينام المسؤولون في آسفي كل هذه السنوات، إلى أن اختنق أكبر معبر مائي لتصريف السيول إلى المحيط؟

كان أجدادنا مُدركين أن الماء لا يغير طريقه نهائيا. وما حدث يؤكد لنا جميعا أن آسفي و«ما آلت إليه».. لم يكن يخطر ببال أحد!

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى