
ليس هناك أخطر على الممارسة السياسية والجدية المطلوبة في المناصب الحساسة لمسؤولين كبار، وعمل المؤسسات الرسمية والقرارات الاستراتيجية للدولة، من حروب التمييع التي تُطلقها جهات محترفة لخدمة أجندات خاصة سواء محلية أو إقليمية أو وطنية ودولية، وتتلقفها جيوش رواد المنصات الاجتماعية للمساهمة في نشرها على أوسع نطاق بحثا عن “البوز” والعائدات المالية المغرية لما يسمى “الأدسنس”.
إن تبعات آفة التمييع على تدبير الشأن العام كارثية بكل المقاييس، بحيث تعرقل التنزيل الأمثل للقوانين، وتساهم في هدم جسر الثقة بين المرتفق والمؤسسات، وهنا تحضر مسؤولية بعض المسؤولين في التساهل مع الظاهرة ومسؤولية جل المنتخبين في تمييع ملفات تدبير الشأن العام وتلطيخ وجه الجماعة كمؤسسة دستورية، وتنفير الشباب من العمل السياسي وربطه بالفساد والسوابق العدلية والتورط في جرائم التزوير والسب والشتم والمخدرات، في حين يبقى العمل السياسي النبيل من أسمى الخدمات التي يمكن تقديمها لفائدة الصالح العام.
وتبرز حاجتنا الملحة في الوقت الحاضر، للرفع من مؤشرات الوعي المجتمعي، وتنوير الرأي العام المحلي والوطني بالمعلومات الموثوقة وتتبع طرق صرف المال العام في احترام كامل للمؤسسات والقانون وقرينة البراءة والمهنية واحترام الحياة الشخصية، وليس تمييع كل شيء والتعميم في توزيع الاتهامات الثقيلة وتسفيه كافة الجهود المبذولة من طرف الدولة لغرض الربح المالي على حساب وجه البلاد.
ومن الفيروسات الخطيرة التي أصابت المجتمع المغربي، تمييع الدور الذي يقوم به الإعلام، ودعم جهات لفوضى النشر والخلط المتعمد بين حق الناس في الخبر وجرائم التشهير والابتزاز والتهديد والطعن في الأعراض، وتسفيه كافة الجهود التي تقوم بها الدولة دون موضوعية وخارج ضوابط الإعلام المهني ودوره في إرساء الديمقراطية والمساهمة في التنمية ومعالجة الأعطاب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لقد وصلت موجة التمييع العاتية حد ضرب القرارات والتشريعات القانونية، وطرح مغالطات خطيرة في الأحداث الوطنية والدولية التي تستأثر باهتمام الرأي العام، ما يؤثر أحيانا على استراتيجيات الدولة التي لا تدار بالعاطفة ولا رد الفعل، وتقوم على قراءة متأنية للواقع الإقليمي والدولي والبحث عن المصالح العليا للمملكة وسط هذا العالم المتوحش الذي لا يرحم.
ما يجب أن يعلمه الجميع هو أن مناخ الحريات والإصلاح بالمملكة لا يمكن أن يخضع لتجارة “الأدسنس” ولافوضى النشر والابتزاز ولا الترهيب الافتراضي والتهديد بالطعن في الأعراض، وإنما إلى التراكمات التي تنطلق من الممارسة الحقوقية والقانونية الفعلية على أرض الواقع، والصحافة المهنية والجدية في تناول وتتبع ملفات الشأن العام، ومعالجة التحولات المجتمعية المتسارعة بالتشريعات القانونية المواكبة.
وعندما نحذر من موجة التمييع، فإننا لا نقصد التهويل وتضخيمها ومنح من يقف خلفها مكانة كبيرة أو الحق في التفاوض ونيل ما يريده، بل لردعها بواسطة القانون ولاشيء غير ذلك، وعدم التساهل مع الشبكات الإجرامية التي تنشط في التشهير والابتزاز وتستغل فوضى النشر بالمنصات الاجتماعية، وذلك بقاعدة إيمانية تتجلى في أن ما ينفع الناس هو الذي يمكث في الأرض، ومادون ذلك من التفاهات مآله الزوال ومهندسيه بمزبلة التاريخ.





