أحداث أكتوبر.. هل أدت فعلا إلى استقلال المغرب؟
هكذا «انتقم» الوطنيون من فرنسا بالدماء

«مباشرة بعد محادثات إكس ليبان التي عُقدت في الجزيرة الفرنسية ما بين أيام 20 و30 غشت 1955، عاد السياسيون والأعيان المغاربة الذين شاركوا فيها باسم التكتلات التي ينتمون إليها، بمختلف أطيافهم، حتى ساد الاعتقاد بأن الحل السياسي للأزمة المغربية الفرنسية سوف يكون فوق طاولة المقيم العام. وحتى أكثر المراقبين تفاؤلا، لم يكن ليرى حلا للمشكلة المغربية إلا بعد أشهر طويلة، قد تتطور لتصبح بضع سنوات، قبل أن تخرج البلاد من عنق الزجاجة.
في قلب أجواء الانتظار والترقب انفجرت أحداث أكتوبر 1955، والتي بدأت بمهاجمة أعضاء من المقاومة المغربية لثكنات عسكرية فرنسية محروسة، واستولوا على مخازن الذخيرة، وشنوا بها حربا مسلحة ضد إدارات فرنسا وبعض مقرات المعمرين الفرنسيين. في الأسبوع الثاني من أكتوبر في تلك السنة، كانت الخسائر التي تكبدتها فرنسا في الأرواح والممتلكات جسيمة.
شهرا بعد ذلك، اقتنعت باريس بأن حل الأزمة المغربية لن يكون إلا بعودة الملك الراحل محمد الخامس إلى البلاد، وإعلان استقلال المغرب. فهل كانت هذه الأحداث فعلا بهذه القوة، لكي تختصر ما حاول السياسيون الوصول إليه، بعد سنوات من التفاوض؟».
يونس جنوحي
+++++++++++++++++++++++++++++
عندما فشل المهدي بن بركة في تجنب «حمام الدم»
عندما كان المهدي بن بركة يتجول في كل مناطق نفوذ جيش التحرير المغربي، شمالا وجنوبا أيضا، لكي يُقنع قدماء المقاومة بوقف العمليات السرية للمقاومة قبل غشت 1955، فقد كان يدري أنه لن ينجح في مهمته، رغم بعض التطمينات التي تلقاها من أعضاء ومتعاطفين مع حزب الاستقلال.
فقد كان يرى في عيون الذين التقاهم أنهم كانوا يُؤمنون بأن «السلاح هو الحل»، وألا مكان للسياسة بعد الآن في حسابات أعضاء جيش التحرير.
في أكتوبر 1955 انفجرت الأحداث التي راح ضحيتها المئات من الرعايا الفرنسيين في المغرب. والأكثر من هذا، أن الأحداث انفجرت بشكل منسق في أكثر من مدينة مغربية. ما وقع أن أعضاء جيش التحرير شنوا هجمات عن طريق أعضاء الخلايا السرية المُنظمين جيدا في المدن في كل مناطق البلاد، وهاجموا ثكنات عسكرية فرنسية وأخذوا كميات من الأسلحة، وهو ما أغضب قوات الجيش الفرنسي.
إذ إن الكميات التي سُلبت من المخازن كانت، بحسب التقارير الفرنسية، تكفي لشن «حرب العصابات» في الشوارع لأشهر، بالإضافة إلى الأسلحة التي كان يتوفر عليها قدماء المقاومة.
بعض التقارير تتهم السلطات الإسبانية في منطقة الشمال -المنطقة الخليفية- بالتغاضي عن المقاومين الذين صدرت في حقهم مذكرات بحث في المنطقة الفرنسية، وتمكينهم من الحصول على أسلحة لكي ينفذوا بها عملياتهم في منطقة أكنول ونواحي تازة.
جرت الدماء أنهارا في ضيعات المعمرين الفرنسيين من تازة إلى فاس، وصولا إلى الرباط والدار البيضاء، وكان الجيش الفرنسي يُحصي قتلاه، والإدارة الفرنسية تتوعد بالرد.
لم يكن قد مضى وقتها على محادثات «إكس ليبان» ثلاثة أشهر، وبالكاد كان أعضاء الحركة الوطنية يُحسون أن «المسلسل» الفرنسي قد يطول، ليفاجؤوا بتحركات المقاومة التي قلبت كل الأحداث.
عندما نتأمل المآل الذي صارت إليه الأمور بعد أحداث أكتوبر 1955، لا بد من الاعتراف بأن الهجوم على طريقة «حرب العصابات» شكل نوعا من الضغط النفسي على الإدارة الفرنسية في باريس والرباط، وهو ما ساهم في التعجيل بعودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، واختصر المسار الطويل للبحث عن حل للأزمة المغربية، والتي كانت تُعرف وقتها في خريف 1955 بـ«أزمة العرش».
ساءت العلاقة بين بعض قدماء المقاومة وقيادة حزب الاستقلال، بعد أكتوبر 1955. إذ رغم مباركة علال الفاسي نفسه لبعض التحركات التي أربكت فرنسا، إلا أن قادة آخرين مثل المهدي بن بركة لم يكونوا مقتنعين بأن الحل يكمن في شن العمليات المسلحة ضد الفرنسيين، فقد كان بن بركة وتياره من الذين سبق لهم الجلوس مع فرنسا إلى الطاولة في أكثر من مناسبة، يُدركون أن عواقب تصفية الرعايا الفرنسيين في المغرب سوف تكون وخيمة، كيف ما كانت نتيجة الضغط على فرنسا لانتزاع امتياز سياسي مغربي.
وفعلا، فقد كانت الضريبة التي أداها بعض قدماء المقاومة غالية جدا، وكلفت بعضهم حياتهم، عندما صدرت في حقهم أحكام بالإعدام، وتوفي الكثيرون منهم أثناء التحقيق معهم في الأقبية الفرنسية، عند استنطاق المشتبه في تورطهم في تلك الأحداث. رغم أن المتورطين الحقيقيين فيها كانوا متحصنين في الجبال، يُحصون الرصاص والبنادق، والقنابل اليدوية، التي صادروها من مخازن السلاح في الثكنات العسكرية الفرنسية، ليقتلوا بها الفرنسيين.
الذكرى الثالثة.. «ثابتة»
عاش المغرب أحداثا دموية في أكتوبر 1952، لكنها لم تؤد إلى أي انفراج سياسي بقدر ما أدت إلى تأزيم الوضع بين المغرب وفرنسا، وخصوصا بين أعضاء الحركة الوطنية والإدارة الأمنية الفرنسية.
في أكتوبر 1952 انفجرت بعض الأحداث التي أدت إلى اغتيال فرنسيين في شوارع الدار البيضاء، وتلتها مظاهرات حُرقت على إثرها بعض ضيعات المعمرين في المناطق القروية.
واختارت الإدارة الفرنسية هذه المرة أن تطوق الدار البيضاء باللجوء إلى فلاحين من القرى، لإشعال نار الفتنة القبلية في المغرب. كانت الخطوة الفرنسية مدروسة جدا، وتكررت أيضا في أكتوبر 1954.
كانت الإدارة الفرنسية ترسل تعليمات إلى فروعها، سيما في المنطقة الجنوبية، لكي تزودها بشاحنات تحمل على متنها قرويين أشداء، جيء بهم بالقوة من الحقول، ووزعت عليهم الهراوات والعصي، بتعاون من القواد والباشوات المناصرين لتيار الباشا الكلاوي. وكلفوا بمهمة تأمين شوارع الدار البيضاء ليلا، وحراسة محلات المعمرين الفرنسيين ومنع حرقها أو تكسير واجهاتها، وأيضا حماية السيارات.
انتشر هؤلاء القرويون المغاربة على شكل دوريات تجوب شوارع الدار البيضاء، وهو ما تسبب في نشوب مواجهات بينهم وبين بعض أعضاء المقاومة، قبل أن يفطن الوطنيون إلى المخطط الفرنسي ويقرروا أن يفتحوا هدنة مع هؤلاء المُجندين باعتبارهم مغاربة أولا.
نجحت فرنسا نسبيا في إطفاء تلك الأحداث، بهذه الطريقة «الذكية» التي بدا أنها كانت اقتراحا من القواد الموالين لفرنسا، وليس من الإدارة. لكنها لم تستطع مواجهة الموجة الكبيرة التي أتت على كل شيء في أكتوبر 1955، وصدقت عليها مقولة «الثالثة ثابتة». فقد كانت الذكرى الثالثة مختلفة فعلا، ليصبح أكتوبر لتلك السنة، أسوأ أكتوبر عرفته الإدارة الفرنسية ورعاياها في المغرب.
شهادة نادرة لـ«قِس» عن جثث الفرنسيين من أزرو إلى الرباط
من بين الشهادات النادرة التي ترتبط بأحداث أكتوبر الدامية، تلك التي نقلها الباحثان الأمريكيان «بيتر بيش» و«ويليام دونفي»، في كتاب مثير بعنوان: «Benedictine and Moor». من عنوان الكتاب يبدو واضحا أنه يرصد علاقة رهبان البينديكتين، أحد أشهر مذاهب القساوسة المسيحيين في فرنسا، مع المغاربة.
عندما زار الباحثان الأمريكيان منطقة أزرو المغربية، نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، عملا على رصد علاقة رهبان دير منطقة تومليلين، نواحي أزرو، بالسكان المحليين، من خلال ما حكاه لهما رئيس الرهبان في جلسات مطولة.
وهنا نورد مقطعا خاصا بأحداث أكتوبر الدامية كما عاشها الأب «مارتان»، رئيس الدير.
جاء في الكتاب، الذي صدر باللغة الإنجليزية خلال بداية الستينيات، ونشرنا في «الأخبار» ترجمة حصرية له ما بين يناير ومارس الماضيين، ما يلي:
«رأى القس رجلا منهمكا في حرث داخل قطعة من الأرض مستعملا محراثا خشبيا. ثم رأى شخصا آخر يسير عبر الهضبة في اتجاه الأفق.
ما أن استدار القس عبر الطريق، حتى صادف قطيعا من الأغنام. كان صوفها مضمخا بحُمرة الأرض. انعطف مرة أخرى، ورأى رجلا يضرب حمارا على الطريق.
أخيرا وصل إلى بلدة «الحاجب». لم ير أحدا، المخلوق الوحيد الذي صادفه هناك، كانت ماعزا يتخللها اللونان الأبيض والأسود، وتقف على قوائمها الخلفية، متسلقة شجرة تفاح وتتغذى على أوراقها.
أخذت الطريقُ القس صوب السور الذي كان ذات زمن يطوق المدينة، وقادته رأسا نحو مكناس. رأى من بعيد خيطا من الدخان يرتفع نحو السماء. وعندما وصل نواحي مكناس، اكتشف أن خط الدخان ينبعث من نيران مضرمة في مزرعة بها منزل يحترق فوق التلال، على بُعد ميلين أو ثلاثة أميال.
ثم مر بمزرعة أخرى كانت تحترق، هذه المزرعة كانت تقع على بُعد نصف ميل فقط من الطريق. مباشرة بعدها، لاحظ أن المنزل في المزرعة المُجاورة يحترق أيضا.
في تلك اللحظة رأى شخصين يقفان على جانب الطريق، في مقابل طريق ترابي يؤدي إلى المبنى المحترق الثاني.
رفع أحدهما ذراعه مشيرا إلى السيارة لكي تتوقف. عندما ضغط القس المكابح، لاحظ أن الرجلين كانا شابين من أمازيغ المنطقة.
قال أحد الشابين باللغة الفرنسية ذاكرا اسم منطقة تقع على بعد 35 كيلومترا عن مكناس:
– «نحن ذاهبان إلى الخميسات، هلا أركبتنا معك؟».
قال القس:
– «بالتأكيد، لكن ما قصة هذه المزارع؟».
أجابه الرجل نفسه:
– «لا يُمكن إنقاذها من النيران. لقد كنا هناك للتو، ونعرف ما وقع».
– «لكن، ألا يوجد أناس هناك؟».
قال الرجل: -«لا أحد».
ثم توجه نحو مرافقه، الذي بدا أنه لا يتحدث الفرنسية، وأعاد عليه المحادثة التي دارت بينه وبين القس، بالأمازيغية، وضحك الشاب الآخر.
فتح «دونيس» الباب للرجلين. جلس الشاب الذي لم يكن يتحدث الفرنسية، في المقعد الخلفي، بينما جلس الآخر في الأمام إلى جانب القس. شكره الاثنان معا على طيبته. مد الراكب الخلفي يده مصافحا القس بخجل، وأعاد اليد التي صافح بها القس في اتجاه فمه، مقبلا إياها على الطريقة المغربية.
قدم لهما القس نفسه على أنه راهب في تومليلين. وسألهما إن كانا يعرفان المكان؟ فأجابا بالنفي. وفي المقابل، قدما نفسيهما على أنهما عاملان فلاحيان كانا في طريق عودتهما إلى بلدتهما.
سألهما دونيس:
– أليس هناك عمل اليوم؟
أجابه الرجل الذي يركب بجانبه:
– لا عمل اليوم، أيها الأب.
وضع الرجل في الخلف يده على كتف رفيقه، وسأله بالأمازيغية: عمّ يتحدثان؟ ثم ضحك مرة أخرى عندما سمع سؤال القس، والجواب عنه.
سأل القس:
– لماذا ليس هناك عمل اليوم؟
– لأن «الباطرون» ليس في المنزل، لم نجده هناك لا هو ولا عائلته عندما جئنا في الصباح.
– في أي مزرعة كنتما تشتغلان؟
– في المزرعة التي توقفتَ أمامها من أجلنا.
– لكنها كانت واحدة من المزارع التي كانت تحترق!
قال الشاب: «أوه، نعم»، ثم ابتسم بسرور مضيفا: «لقد كنا نحن من أضرم النار». ترجم الأمازيغي الذي يتحدث الفرنسية لزميله في المقعد الخلفي، وبدأ يضحك مرة أخرى بفرح.
قال القس:
– وهل أحرقتما المزرعة الثانية أيضا؟
– عندما لم نستطع العثور على رب عملنا، ذهبنا إلى المزرعة الأخرى لكي نسأل عنه، وقال لنا الناس هناك إنه قد رحل بعيدا.
وضع الرجل الجالس في المقعد الخلفي يده على كتف رفيقه، وسأله عمّ يجري؟ ضحك بصوت أقوى من السابق عندما عرف الإجابة.
قال القس:
– هل كان هناك أناس في المزرعة الثانية؟ ماذا حدث لهم؟
– لقد قتلناهم أيها الأب.
– كم عددهم؟
– فقط امرأتان.
– لماذا قتلتماهما؟
– لأنهما كانتا فرنسيتين.
في «الخميسات»، نزل الرجلان من سيارة «الفولسفاغن» وشكرا القس بلباقة على إيصالهما بسيارته. ما أن اختفيا في أحد المتاجر، تحرك القس بسيارته في اتجاه الرباط».
الاستعلامات لاحقت مُنفذي أخطر عملية لتصفية الفرنسيين
3 أكتوبر 1955 كان يوما مشهودا، لم ينسه آلاف الفرنسيين الذين عاشوا في المدن المغربية بصفتهم مُعمرين. إذ إن الأحداث التي شهدها ذلك اليوم، كانت إيذانا بانطلاق شرارة العمليات المسلحة لأكتوبر الذي وصفه الفرنسيون بـ«الأسود»، رغم أنه كان شهرا قاني الحمرة، بسبب الدماء التي أريقت في شوارع المدن والقرى التي كانت توجد بها ضيعات المعمرين.
جاء في أحد محاضر البوليس الفرنسي، التي سبق وأن انفردنا في «الأخبار» بنشر تفاصيلها الدقيقة على حلقات مطولة صيف 2018، حيث نقلنا أقوى مضامينها لأول مرة، بعد أن نُسيت في أرشيف إدارة الأمن التي ورثها المغرب بعد 1955. جاء في أحد هذه المحاضر:
«كانت الساعات الأولى من يوم 3 أكتوبر ساخنة بكل المقاييس. عمليات اغتيالات متفرقة، جعلت الاستعلامات العامة الفرنسية تتأكد فعلا أن هناك اتصالات منظمة بين بعض الخلايا السرية. فقد تم تنفيذ عمليات اغتيال في حق فرنسيين في أوقات متقاربة وفي أكثر من مدينة. الغرض منها كان إرباك الأمن الفرنسي وجعله يفقد بوصلة تتبع المنفذين. حتى المخبرون المغاربة فقدوا الميزة السابقة التي كانت تضمن لهم تعويضات سخية من الأمن الفرنسي، فقد مات أغلب المخبرين المغاربة المشهورين في عمليات اغتيال استهدفتهم وسط أبنائهم. وأصبح لزاما على الإدارة الفرنسية أن تعين مخبرين جددا، وقد تأتى لها الأمر فعلا، ولكن هؤلاء كانوا يحتاجون إلى وقت لكي يتأقلموا مع مهمتهم الجديدة وينسجوا ما يلزم من علاقات لاستباق الضربات التي كانت تتعرض لها المصالح الفرنسية، على الأقل في المراكز السكانية الكبرى، لتجنب الكارثة.
أصيب فرنسي بجروح خطيرة في الساعات الأولى من ذلك الصباح، وتقول المحاضر الأمنية إنه كان يعمل موظفا في محطة القطار الرئيسية في الدار البيضاء، والسبب كان انفجار قنبلة في بوابة المحطة، وُضعت قبل وصوله بفترة قصيرة، ليتزامن عبوره البوابة مع الانفجار. لم تخلف العملية أي خسائر مادية، باستثناء كسور في زجاج نافذة خارجية وإتلاف للبوابة الخشبية، في ما أصيب الموظف بجروح خطيرة، بسبب الشظايا المتطايرة من القنبلة. ولم تهمله الجروح إلا 48 ساعة، ليموت متأثرا بالإصابة، دون أن ينجح البوليس في الوصول إلى الفاعلين.
كان المستشفى الرئيسي في الدار البيضاء يستقبل المصابين الفرنسيين، منذ ساعات الصباح الأولى بدوره.
وكانت أبرز حالة استقبلها يومها تعود إلى ثلاثة مواطنين فرنسيين، كانوا في حالة سُكر طافح، بالكاد يحاولون تبين المكان الذي ينامون فيه مع شروق الشمس، بعد أن تعرضوا لإطلاق رصاص أصابهم برصاصات طائشة، داخل حانة. كان رجل ملثم، بحسب إفادات الشهود، قد قتل حارس الحانة ودخل بعنف وقتل رجلين كانا مكلفين بتأمين المدخل، بالإضافة إلى عامل البار وخمسة مواطنين فرنسيين. فرغ المسدس من الرصاص مرتين، وأعاد شحنه ليستكمل إطلاق النار عشوائيا. هذا ما رواه الناجون الثلاثة من العملية، وأكدوا للبوليس أن المنفذ لو جاء إلى الحانة، قبل ساعة تقريبا، لكانت حصيلة القتلى أكبر. فقد تزامن دخوله إلى الحانة مع ساعة انسحاب أغلب الزبائن الدائمين.
كانت هذه العملية قد خلفت سخطا كبيرا في أوساط الإدارة العامة، لأنها كانت تهدف إلى إطلاق مخطط أمني جديد تدعو على ضوئه الفرنسيين إلى مزيد من الاحتياطات وعدم مغادرة المغرب تحت أي ظرف والتمسك بممتلكاتهم، في انتظار السيطرة الأمنية على الأوضاع».
محاضر الشرطة الفرنسية رصدت أهوال أكتوبر الأسود بالبيضاء
حسب أرشيف محاضر الشرطة الفرنسية في الدار البيضاء لشهر أكتوبر 1955، فإن الأحداث الدموية كانت تُسجل يوميا وبلغت ذروتها في الأسبوع الأول من ذلك الشهر، إلى أن خفت حدتها مع اقتراب نهايته.
جاء في أحد المحاضر الخاصة بيوم 18 أكتوبر، في الدار البيضاء، أن عملية دموية اشتعل فتيلها باغتيال أعضاء من الخلايا السرية للمقاومة، لسائق مغربي يعمل لدى مُعمر فرنسي.
الحادث الذي راح ضحيته السائق، كان سببا في نشوب مواجهات بين المتظاهرين والأمن الفرنسي، وجرت بسببه حملات تمشيط وتفتيش موسعة. وجاء الرد قبل المساء، إذ جرت عمليات اعتداء على مواطنين فرنسيين في قلب الدار البيضاء، إلى درجة أن رجال البوليس الفرنسي كانوا يحومون في دوريات في تراب المدينة، ويخبرون المواطنين الفرنسيين أنه يتعين عليهم الاحتماء بمنازلهم والتقليل من الحركة في الشوارع وإغلاق الواجهات الزجاجية للمحلات، مخافة أن يتعرضوا لاعتداء على يد المتظاهرين الغاضبين من تصعيد البوليس الفرنسي في شوارع الدار البيضاء، خلال ذلك اليوم.
وفي تفاصيل الحادث الذي وثقت له محاضر البوليس الفرنسي، فقد جاء فيها أن بعض الحاضرين بنقل جثمان السائق إلى خارج الشاحنة وسط استياء كبير، خصوصا وأن أغلب الركاب الذين كانوا يترددون بشكل دائم على الدار البيضاء، كانوا يحفظون له جميله ودماثته، وكانوا أيضا متأكدين أنه لم يكن من رعايا الفرنسيين ولا من المدافعين عن السياسة الفرنسية في المغرب. كان فقط من أوائل المغاربة الذين استطاعوا تعلم السياقة، رغم تضييق الإقامة العامة الفرنسية على المغاربة وقتها، حتى لا تكون قيادة السيارات متاحة للجميع.
وفي اليوم نفسه جرى حادث آخر هذه المرة في نواحي الفقيه بن صالح، وراح ضحيته سائق يعمل لدى أسرة معروفة بقربها من الفرنسيين. وهو ما جعل أفراد البوليس في الدار البيضاء يرفعون تقريرا عاجلا مفاده أن عملية استهداف لسائقي السيارات واغتيالهم تجري على نطاق أوسع، وتوقعوا أن تجري اغتيالات متشابهة في مدن ومناطق أخرى من المغرب.
وفي أواخر هذا الشهر الدموي، بالضبط خلال الأسبوع الأخير منه، جرت محاكمة بعض الوطنيين بمراكش، ووزعت عليهم أحكام ثقيلة حولت المدينة إلى مأتم كبير، سيما وأن الأمر تزامن مع اعتقالات أخرى في مدن وقرى متفرقة، استهدفت أسماء كانت مشهورة بعدائها الكبير لفرنسا.
ورغم ذلك فإن حدة العمليات السرية قد بقيت مستمرة، إلى درجة أن «حرب العصابات» عادت بقوة في المدن الأكثر شعبية، مثل الدار البيضاء ومراكش على وجه الخصوص.
كما أن عمليات استهداف الخونة، قد بدأت تتخذ منحى آخر، خصوصا وأن الخطاب الذي ألقاه الملك الراحل محمد الخامس كان مُطمئنا، وهو الأمر الذي جعل أغلب المنتمين للخلايا السرية يقررون رفع الإيقاع، وبدء مسلسل جديد من الانتقامات لأرواح «الشهداء الذين سقطوا أو أدينوا، بناء على وشايات المخبرين المغاربة والخونة الذين كانوا يساندون الاستعمار».
هكذا انتقم «جيش التحرير» من العقيد «يوربي»
بحسب أرشيف محاضر الشرطة الفرنسية في مدينة الدار البيضاء، فإن أنشطة جيش التحرير قد عرفت يقظة غير مسبوقة، سيما بعد أن هدأت حدة أنشطته في النصف الأخير من سنة 1955.
هذه المحاضر، أفادت بأن مجموعة من المسلحين أعلنوا انضمامهم إلى جيش التحرير المغربي، نصبوا كمينا محكما لفيلق عسكري خارج الثكنة العسكرية، في الطريق نحو منطقة أكنول في الشمال بقيادة المسؤول العسكري العقيد «يوربي». وكان هذا الأخير مشهورا في أوساط سكان المنطقة بصلابته وسياسته العسكرية العنيفة مع السكان المجاورين للثكنة العسكرية. حتى أن بعض الحكايات التي نُسجت عنه، تقول إنه كان يعامل المغاربة بصرامة، ويصر على ضرورة الانضباط حتى في الأسواق الأسبوعية ويشرف على الأمر بنفسه، ويتصل بالحاكم العسكري للمنطقة، للتأكيد على عدم التساهل في تطبيق التعليمات.
بالعودة إلى الحادث، كانت إفادات الشهود التي سُجلت في التقارير الأمنية تؤكد أن المواجهة العنيفة استمرت لساعات. وبدأت عندما توقف الفريق العسكري المكون من الجنود وبعض السيارات العسكرية التي تقل بعض العسكريين، بالإضافة إلى شاحنة تحمل بعض المعدات العسكرية.
انتبه الجنود الفرنسيون إلى صوت إطلاق نار قادم من وراء مرتفع يطل على مكان الاستراحة، فتم إعلان التأهب فورا، لكن بعض إصابة جنديين وسقوطهما أرضا في الحال.
كان الأمر أشبه بالمفاجأة، وصوت الطلقات النارية يشي بأن المقاتلين المغاربة كانوا يتوفرون على أسلحة بدائية مقارنة مع الترسانة العسكرية، ونوع السلاح الذي يتوفر عليه المجندون في الجيش الفرنسي.
استمر تبادل إطلاق النار لساعات، كان خلالها المقاتلون المغاربة يحتمون بالمرتفع، ولم ينته إطلاق النار إلا بعدما نفدت ذخيرة الرصاص لدى الأغلبية، بينما تكبد الفرنسيون خسائر كبيرة، رغم أنهم نجحوا في توجيه ضربات إلى المقاتلين، وإصابة بعضهم بجروح.
انسحب الفرنسيون، ولم يحاولوا كما جرت العادة تمشيط المكان بحثا عن الفاعلين أو تعقبهم، بل تم سحب الجرحى لتلقي الإسعافات ونقل جثث القتلى لكي يتم تدبر أمرها إداريا.
سرعان ما انتشر الخبر، وسرى انتعاش كبير في نفوس المغلوبين على أمرهم، خصوصا العائلات التي تلقت نبأ صدور أحكام الإعدام على أبنائها أو سجنهم لمدة طويلة.
بالإضافة إلى عملية اشتباك أخرى مشابهة بمنطقة تافوغالت المنسية، والتي عرفت أحداثا دامية في مواجهة الاستعمار، ولم ينل منفذو تلك العمليات نصيبهم، حتى أن بعض خلايا المقاومة الكبرى نسبت فضل بعض العمليات في تافوغالت، في الشمال الشرقي، إلى نفسها.
لقد كانت هناك ثورة في الهوامش، فقد سجلت عمليات اعتداء على أمنيين وعسكريين وإداريين فرنسيين في كل من تاوريرت وعين تاوجطات وبعض المداشر الصغيرة نواحي آسفي والصويرة، وصولا إلى الجديدة. وكلها قرى صغيرة، لم تكن الإدارة الفرنسية تتوقع أنها سوف تعلن داخلها تأهبا أمنيا في يوم من الأيام لحماية موظفيها ورعاياها الفرنسيين الذين لم تكن أعدادهم تتجاوز العشرات، ورغم ذلك انتفض ضدهم الوطنيون.





