حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

أرض الشجعان

في أمريكا، لم يعد النقاش السياسي شبيها بنقاش، بل أشبه بحلبة مصارعة حيث يخرج اليمين المتطرف والليبراليون كل يوم ليقذفوا بعضهم البعض بالتهم، وكأن الديمقراطية تحوّلت إلى سيرك يوزّع على الجمهور تذاكر مجانية. الحادث الأخير، اغتيال الناشط اليميني المعروف تشارلي كيرك في جامعة يوتا على يد مسلّح، قدّم صورة مأساوية وساخرة في آن واحد، دماء حقيقية سالت، لكنّها تحوّلت بسرعة إلى ذخيرة سياسية يتقاذفها الطرفان بلا خجل، وكأن القتيل لم يكن إنسانًا بل مجرد شعار.

اليمين المتطرف يندب قائلا إن «ثقافة الكراهية التي يزرعها الليبراليون» هي التي دفعت المسلح لإطلاق النار، بينما يرد الليبراليون بصرامة أن «ثقافة السلاح التي يقدّسها اليمين» هي السبب المباشر، وأن ما جرى مجرد حلقة جديدة في مسلسل الدم الأمريكي. المفارقة أن كلا الفريقين محقّ إلى حد ما، وكلاهما أيضًا مخطئ، لأن الصراع في جوهره لا يبحث عن حلول بقدر ما يبحث عن انتصارات رمزية.

خذ، مثلا، قضية السلاح. بالنسبة لليمين، البندقية ليست مجرد أداة، بل امتداد للهوية الوطنية ووسيلة للدفاع عن النفس.. لكن ما يغفلون عنه أن سهولة امتلاك السلاح تجعل أي خلاف شخصي أو توتر نفسي قابلًا للتحوّل إلى مأساة دامية. وفي المقابل، يرفع الليبراليون شعار «ضبط السلاح» كحل سحري، متناسين أن المشكلة أعمق من القوانين، فهي مرتبطة بثقافة العنف المتجذّرة في المجتمع الأمريكي منذ تأسيسه.

وفي موضوع الإجهاض وحقوق النساء، الصورة لا تقل عبثًا. اليمين يصرّ على أنّ حماية «قدسية الحياة» تبرّر فرض قيود على جسد المرأة، بينما يتجاهل في الوقت نفسه حياة النساء اللواتي قد يعانين من قراراته. أما الليبراليون فيقدّمون أنفسهم كمدافعين مطلقين عن حرية الاختيار، لكنهم يسقطون أحيانًا في فخ التنميط، إذ يختزلون النساء في صورة «الضحية الدائمة» التي تحتاج إلى الوصاية الفكرية. كأنّ النقاش لا يبحث عن إنصاف، بل عن تسجيل نقاط أخلاقية أمام الخصم.

ثم تأتي قضية العنصرية. اليمين المتطرف يرفض الاعتراف بعمق المشكلة، ويكتفي بالقول إن «أمريكا تجاوزت ماضيها» وكأن العنصرية مجرد فصل تاريخي أُغلق. بينما الليبراليون، في اندفاعهم لتبني خطاب المظلومية، أحيانًا يبالغون في تقسيم المجتمع إلى ضحايا وجناة بشكل مبسّط، مما يكرّس الانقسام أكثر مما يعالجه. وبين إنكار اليمين ومزايدة اليسار، يظل المواطن العادي يعيش يوميًا واقع التمييز البنيوي.

اغتيال كيرك كشف هشاشة المشهد كله. بدلا من أن يتوقف الجميع لحظة أمام فداحة أن يُقتل ناشط سياسي داخل حرم جامعي، تحوّل الحادث إلى فرصة للاتهامات المتبادلة. اليمين يرى فيه دليلاً على «عنف اليسار»، واليسار يراه نتيجة حتمية لـ«عبادة السلاح» التي يروّج لها اليمين. كأن الموت لم يعد حدثًا إنسانيًا بل بطاقة تُستغل في سوق المزايدات السياسية.

الأكثر سخرية أن كِلا الطرفين يرفع شعارات الحرية بينما يمارس الرقابة بطريقة مختلفة. اليمين يطالب بحرية مطلقة في اقتناء السلاح، لكنه يضيّق على حرية المرأة والأقليات. والليبراليون يرفعون شعارات التعددية، لكنهم لا يتسامحون مع أي خطاب يخالف حساسياتهم الأيديولوجية. كل طرف يعتقد أنه يحتكر الحقيقة، وفي النهاية لا يربح سوى التطرّف، بينما الخاسر الأكبر هو فكرة الحوار نفسها.

هكذا تبدو السياسة الأمريكية اليوم، جدل لا ينتهي حول من يملك تعريف الحرية، ومن يقرر شكل الأخلاق ومن يحتكر الحق في رفع الصوت. أما المواطن العادي، سواء كان أبيض أو أسود، رجلاً أو امرأة، مسيحيًا أو مسلمًا أو ملحدًا، فهو مُحاصر بين فكي كماشة: يمين متطرف يرى في الماضي المجيد حلاً لكل مشاكل الحاضر، ويسار يقدّم وعودًا كبيرة لكنه يفتقر أحيانًا إلى الواقعية.

حادثة كيرك ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لكنها تعكس بوضوح أن المجتمع الأمريكي يعيش أزمة حقيقية، أزمة خطاب متشنج، أزمة ثقة وأزمة قدرة على إنتاج أرضية مشتركة. طالما استمر اليمين واليسار في تحويل كل مأساة إلى معركة تغريدات وشعارات، فإن الدماء ستظل تُراق دون أن يقترب أحد من معالجة الأسباب الحقيقية.

من الصعب أن نصدّق أن دولة تقود العالم بعلمها واقتصادها لا تستطيع أن تفتح نقاشا عقلانيا حول قضايا حياتية مثل السلاح، الإجهاض أو حقوق الأقليات. لكن ربما هذا هو جوهر المفارقة الأمريكية، بلد يُعرّف نفسه بأنه نموذج الحرية، لكنه يعيش أسيرا لصراعاته الداخلية، حيث تتحول كل قضية إلى حرب ثقافية لا رابح فيها. وبينما يصفق الجمهور لهذا المشهد العبثي، يستمر العرض، يسقط ناشط هنا، تُطلق رصاصة هناك، ويظل المسرح مفتوحا، كأن الدم جزء من الديكور.

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى