حرب تأسيس المدارس الحرة أيام الحماية
قصة المنعرجات التي مرت منها المدرسة المغربية

يونس جنوحي
«منذ نهاية الحرب، يتفق الجميع على أن الإقبال على التعليم يستمر في الارتفاع.
الفرنسيون الذين كانوا ينظرون إلى الوضع من زاوية فترة سنوات الثلاثينيات، تفاجؤوا. أعداد التلاميذ المغاربة في المدارس الحكومية كانت أقل من 10000 تلميذ سنة 1920. وانفجر العدد بقوة إلى 35000 بحلول سنة 1945. ثم قفز إلى 115000 في سنة 1950. ولا يزال الرقم في ارتفاع سريع إلى الآن.
الهدف الذي أعلنته إدارة التعليم، والذي تم تحقيقه، بناء قسم دراسي يوميا. وصحيح أن عدد التلاميذ الذين يجري تعليمهم حاليا، يزداد بمقدار أربعين تلميذا يوميا.
وبالتالي، بينما كان اللوم عن الظروف غير المُرضية، على الأقل مقسما بين الأطراف في الماضي، فإن المُنتقدين الأكثر فظاظة فقط، قد يتذمرون بخصوص التقدم المُحرز حاليا.
الشكوى الرئيسية للوطنيين مصدرها زاوية أخرى: كيف ما كان ما يقدّمه التعليم، فإنه غير مغربي».
هذا المقتطف من تقرير الباحث والأكاديمي البريطاني برنارد نيومان.. موثقا لوضع المدرسة المغربية سنة 1952، بعد أن خصص شهرا كاملا متنقلا بين مختلف نماذج المدارس في المغرب.. سواء كانت حرة مملوكة للوطنيين المغاربة، أو نظامية تابعة للإدارة الفرنسية..
ماذا وقع، إذن، لكي تتغير المدرسة المغربية من حرة إلى عمومية، وتُعزل في ما يشبه جزيرة عن المدارس «الخصوصية»؟
++++++++++++++++++++++++++++++++
وزراء سابقون وزعماء سياسيون.. أول من استثمروا في المدارس الحرة..
في نسختها الأولى، كان إنشاء المدارس المغربية فكرة تقوم أساسا على مواجهة المدارس الفرنسية.
نشأ التعليم الحر في المغرب قبل سنة 1930، إثر محاولات من طرف بعض الوطنيين المغاربة، إدخال تعديلات على نظام الكتاتيب القرآنية، في حين بقيت المدارس العتيقة -خصوصا في منطقة سوس- وجامع القرويين، بعيدة تماما عن أي تعديل أو تحديث.
بدأت التعديلات بإدخال مقررات دراسية من الشرق، جاء بها بعض العلماء المغاربة من رحلات الحج.. مقرر معتمد من مصر وآخر من سوريا، وهو ما جعل المدراس الحرة الأولى في المغرب مشتلا للقومية العربية الخالصة.. وبالتالي عرفت تضييقا من طرف السلطات الفرنسية التي لم تكن لها، حرفيا، أي سلطة على تعديل أو إلغاء المقررات الدراسية المعتمدة في هذه المدارس الحرة.
أعضاء الحركة الوطنية في الرباط وسلا كانوا أنشط من غيرهم في مجال تأسيس المدارس الحرة خلال أربعينيات القرن الماضي.. حتى أن مدرسة مولاي أحمد بلافريج، الذي أصبح وزيرا أول في ثاني حكومة بعد الاستقلال، كان يضرب بها المثل في المدارس الحرة.. وحظيت بشعبية كبيرة يعود الفضل فيها إلى عضوية بلافريج البارزة في حزب الاستقلال.
ثم في سنوات الأربعينيات دائما، أنشئت مدرسة الأميرة للا عائشة، التي حشد لها الراحل سيدي محمد بن يوسف تبرعات مهمة، بعد أن عرض عليه وطنيون من مدينة سلا الفكرة، وتبرع لها من ماله الخاص، وحذا أبناؤه الأمراء والأميرات حذوه.
ولعل المثال الأبرز على انخراط السلطان في دعم المدارس الحرة، تأسيس مجموعة مدارس محمد الخامس الشهيرة، في الرباط، سنة 1947.. وهناك مؤرخون يعتبرون أن هذه المؤسسة العتيدة أبرز مثال على إنشاء المدارس الحرة في المغرب، في عز انشغال الفرنسيين في تشييد المدارس العصرية.
وأوكل تسيير مجموعة مدارس محمد الخامس في بدايتها إلى شخصية مغربية معروفة، وهو عثمان جوريو.
بعد ذلك أنشئت مدرسة «كسوس» الشهيرة في الرباط، المملوكة لأسرة من القضاة والوطنيين.
هناك من يعتبر أن تحديد مدارس محمد الخامس على أنها أقدم المدارس الحرة المغربية أيام الحماية، فيه إجحاف كبير لمدارس أخرى تأسست قبل هذا التاريخ بإمكانيات بسيطة، لتوفير بديل لأبناء المغاربة، حتى لا ينخرطوا في المدارس الفرنسية.
تبقى مدينة وجدة المغربية إحدى أقدم المدن التي تأسست فيها مدارس وطنية، ليس في المغرب فقط، وإنما في شمال افريقيا.. فقد عرفت مدينة وجدة تأثرا كبيرا بالأحداث الجارية في الجزائر منذ 1830، وكان الوطنيون فيها سباقين إلى مبادرة مقاومة التعليم الفرنسي بإنشاء تعليم عصري بديل..
بعض الوطنيين أطلقوا مدارس حرة، «على المقاس» وفق إمكانياتهم الذاتية وقتها، باعتبارها شكلا من أشكال المقاومة. ورغم الإمكانيات المتواضعة، إلا أن تلك المدارس شكلت بديلا حقيقيا عن المدارس النظامية الفرنسية.. خصوصا في نهاية الأربعينيات، وخلال فترة نفي السلطان محمد بن يوسف 1953-1955.
لماذا أصبحت مدارسَ «خاصة»؟
«عندما قامت حوادث 1937، واعتقل المستعمرون كثيرا من رجال الحركة الوطنية، وفي صفهم كثير من منشئي هاته المدارس الحرة، فقد نفاهم وسجنهم وعذبهم بما لا يعذب به إلا المجرمون الذين يرتكبون أبشع الجرائم كالقتل وما في مستواه من الجرائم البشعة. ولا أستطيع إحصاء عدد هؤلاء الذين عوقبوا بالسجن والنفي للأعوام والشهور. غير أني أسوق هذا مثلا يكفي للدلالة على أهمية تلك المدارس التي كان بها أطفال في سن 5 حتى 15، والدليل على خطورة تلك المدارس أنه عندما وقعت حركة الاحتجاج على ماء (بوفكرن) بمكناس وأشياء أخرى اعتقل كثير ممن شارك في تلك المظاهرات الاحتجاجية بفاس وغيرها من المدن، ونقل العشرات منهم إلى إقليم قصر السوق (الراشيدية) ووكل بهم ضابط فرنسي اسمه (عيار) كان على رأس دائرة كلميمة للتعذيب والاضطهاد بكل ما يحمله من معنى العذاب، وكان من بينهم الأساتذة عبد العزيز بن إدريس رحمه الله، وإبراهيم الكتاني رحمه الله، والهاشمي الفيلالي حفظه الله، إلى جانب كثير ممن لا أتذكرهم اليوم، أي منذ نصف قرن، غير أني أذكر شخصا ليس له ذنب يستحق عليه ما نفذ عليه يومئذ هو ورفاق له وهو الشريف العلامة سيدي محمد بن عبد الله العلوي الهاشمي رحمه الله، وكان لا يزال طالبا في جامعة القرويين قبل الحصول على شهادة الباكالوريا، فاضطر إلى الانقطاع عن الدراسة، فأسس مدرسة ابتدائية حرة بمدينة عيون سيدي ملوك قرب وجدة، ولم يمض على تأسيسها إلا سنة واحدة، وبمناسبة حوادث 1937،اعتقل ونقل إلى الراشيدية، فكبل بالحديد، وحكم عليه بعام سجنا في منطقة التعذيب الكبرى في كلميمة بوادي غريس، حيث قضى هو ورفاقه السبعة من مدغرة مدة، وفي صفهم كتابه الذي لا ذنب له إلا أنه كان أسس مدرسة حرة بعين بني مطهر أيضا».
الكلام للباحث المغربي مصطفى بن أحمد العلوي، في إطار دراسة نشرها في عدد من المجلات في غشت 1993 بعنوان «التعليم الحر بين الأمس واليوم»..
كيف، إذن، تغير التعليم الحر من البدايات التي نرصدها في هذا الملف، لكي يصبح قطاعا ربحيا أو «استثماريا» في أزمة المدرسة العمومية؟
قوانين كثيرة أدخلت تعديلات على التعليم الحر بعد الاستقلال، وإلى حدود ثمانينيات القرن الماضي، كانت المدارس «الخاصة»، تشتغل في أفق أضيق من المدرسة العمومية التي تعزز حضورها بقوة بعد الاستقلال.. ومع اتساع أزمة المدرسة العمومية ومشاكل التعليم، انتقلت الكفة لصالح التعليم الخاص أو «الخصوصي»..
هناك باحثون يرفضون إنشاء خيط رابط بين المدارس الحرة في بداياتها، والمدرسة الخصوصية، رافضين الطرح الذي يقول إن المدارس الخاصة خرجت من رحم المدرسة الحرة بما تحمله الأخيرة من حمولة تاريخية..
التاريخ جزء 2
++
قصة مدرسة شارك اليوسفي في تأسيسها سنة 1946
الدار البيضاء واحدة من المدن التي شهدت أولى عمليات تأسيس المدارس الحرة منذ فترة الحماية.. رغم أن أغلب الدراسات التوثيقية تتحدث عن «السبق» الذي حققته مدن الرباط وسلا، وفاس، على يد رواد الحركة الوطنية، في إحداث المدارس «المحلية» لمواجهة مد تأسيس المدارس الفرنسية.
أنجز الباحث الدكتور نجيب تقي أهم بحث ميداني عن تاريخ الدار البيضاء مع بداية الحماية الفرنسية، عنوانه «جوانب من ذاكرة الكاريان سنطرال-الحي المحمدي بالدار البيضاء في القرن العشرين.. محاولة في التوثيق».. وقد نجح فعلا في هذا المسعى.
هنا نورد فقرة وثق فيها لانطلاق واحدة من المدارس الحرة منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي. يقول:
«لا يجب أن يغيب عن بالنا السياق الذي تأسست فيه مدرسة اتحاد الحي الصناعي وغيرها من المدارس الحرة، وهو سياق متسم بانفتاح السلطات الفرنسية النسبي على مطالب الحركة الوطنية مع سعيها إلى عدم ترك الجو فارغا لها للانفراد بهذه المواجهة السياسية الخطيرة (عهد المقيم العام إيريك لابون) فقد أناط حزب الاستقلال بعبد الرحمان اليوسفي مسؤولية تأسيس مدرسة حرة في الحي الصناعي في سنة 1946 (لم تحصل على رخصة مديرية التعليم العمومي إلا في سنة 1950). وتشير إحدى الشهادات إلى أن بعض رجال الوطنية شاركوا اليوسفي في تأسيس المدرسة، ومنهم بوعزة بن عبد السلام والبهلول.
اكتُريت دار في ملك علي بن محمد بن محمد «الديهي» السوسي المقاول بمدينة الصويرة، تقع في درب مولاي الشريف زنقة 3 رقم وتتكون من دور أرضي وطابقين. واستُقطب إليها عدد من المعلمين، سواء من الدار البيضاء أمثال القباج وعمر اللبّار وإبراهيم حركات. أو من خارجها كقبيلة المذاكرة مثل أحمد بن علي الدكالي.
وكانت بداية المدرسة بسيطة جدا، حيث اعتمدت على الألواح والحصر في سنتها الأولى، قبل أن توفر لها فاطمة حصار، إحدى النشيطات الاستقلاليات، السبورات والطاولات في السنة الموالية.
وقد اجتهد المسؤولون عنها من أجل مواجهة التعليم الفرنسي الذي بدأ نشاطه في مدرسة «كريان سنطرال» الإسلامية التي أحدثتها مديرية التعليم العمومي (الإقامة العامة) بدار بوعزة، وأناطت بها «أوطون گامبير»، مع سعيها إلى استقطاب أبناء «كريان سنطرال» إليها، من خلال توفير مجموعة من الشروط من وجبات غذائية وأدوات مدرسية… وذلك قبل ترحيلها إلى درب مولاي الشريف وإطلاق اسم مدرسة درب مولاي الشريف الإسلامية عليها.
وفي إطار تلك المواجهة، اهتمت مدرسة اتحاد الحي الصناعي بتدريس المواد باللغة العربية (النحو والأدب والفقه والقرآن والتاريخ والجغرافية…) أكثر من اهتمامها بتدريس اللغة الفرنسية، وإن كان لكل واحدة منهما نصف الوقت (نصف نهار للعربية ونصفها الآخر للفرنسية والحساب).
وكانت الكتب المعتمدة بالأساس مشرقية، سواء من لبنان (كتاب المطالعة) أم من مصر (النحو الواضح)، مع قليل من الكتب المغربية (كتاب الفقه الذي ألفه عبد الهادي الشرايبي). وكان القرآن الكريم يدرس بطرق عتيقة، حيث يطلب من التلاميذ نقل بعض آياته من السبورة للحفظ، ويوكل تدريسه إلى معلم خاص، وهو امحمد بن علي الدكالي».
عندما استجاب السلطان لمطالب سكان «الكاريان» وأحدث مدرسة لأبنائهم
يقدم نجيب تقي معلومات هامة في بحثه، تتحدث عن استجابة السلطان سيدي محمد بن يوسف لمطالب نخبة الحركة الوطنية، المنتمي أغلبهم إلى حزب الاستقلال، لإحداث مدرسة أخرى في الحي الذي تعيش فيه الفئات الأكثر هشاشة. يقول:
«(..) قرر جلالته إنشاء مدرسة بحي العملة المعروف بالمناجم المركزية (كريير سانطرال) بحومة الصخر السوداء، وذلك بما هو متوفر من المال بصندوق اللجنة وبما يمكن أن يجمع من عند المتبرعين المحسنين. وبعد هذا الحديث اتفق الأعضاء الحاضرون على شراء قطعة من الأرض بالحي المذكور وبناء مدرسة بها تلبية لأمر مولانا الملك المطاع. وقد كلفت اللجنة السيدين امحمد بن الجيلالي بناني ومحمد العراقي بشراء الأرض اللازمة لهذا المشروع وأداء ثمنها الذي لهما الحق في الاتفاق عليه مع أصحابها وبتوقيع عقد الشراء وبالقيام بكل ما يتعلق بهذه العملية من تسجيل لهذا الشراء في المحافظة العقارية وغيره وببناء المدرسة في هذه الأرض بعد ذالك..
وفعلا، اشترت اللجنة الأرض من الشركة الآسيوية والإفريقية في فاتح أكتوبر 1946، مساحتها 4.371 مترا مربعا، وثمنها 2.185.500 فرنك، مع تسجيلها تحت اسم «مدرسة الإسعاف الملكي»، وموافقة السلطان ابن يوسف عليها».
ولم يغفل الباحث محمد تقي تقديم وصف دقيق لوضع تلك المدارس الحرة التي أريد بها مواجهة مد المدارس الفرنسية، ونجحت فعلا في هذا المسعى.. رغم أن الإمكانيات كانت متواضعة للغاية.
يقول: «كانت هذه المدارس بسيطة جدا في شكلها وبنيتها وشروط عملها، فأهمها، وهي مدرسة اتحاد الحي الصناعي، لم يتجاوز عدد حجراتها ثمانية واضطرت إلى استعمال الحصر والألواح في البداية، بل إن أغلبها بدأ بحجرة واحدة أو حجرتين، فلم ترق، في بدايتها التي تناسب نهاية فترة الحماية، إلى مستوى بعض المدارس الحرة التي كانت مؤطرة من قبل حزب الاستقلال أو حزب الشورى والاستقلال في «المدينة الجديدة» (درب السلطان ودرب مارتيني ودرب الكبير…)، سواء من حيث المساحة أم من حيث عدد المعلمين أم من حيث عدد المتعلمين (مدرسة المعلم بوشعيب الأزموري ومدرسة مولاي إدريس الأزهر ومدرسة سيدي محمد ابن يوسف ومدرسة الأمير مولاي الحسن …)، ناهيك عن ضعف تقاليد الأرشفة إن لم نقل غيابها أو إتلافها (غياب سجلات التلاميذ الأوائل مثلا). ولكن تجب الإشارة إلى الدور الذي قامت به في كريان سنطرال خلال فترة مواجهة الاستعمار، من خلال الخطاب الوطني الذي كانت تمرره بواسطة المواد التعليمية الملقنة، كما تجب الإشارة إلى دورها، وفي شروط تربوية صعبة، في تكوين مجموعة من المبدعين المغاربة في الرواية والقصة والشعر وغيرها من مجالات العمل الثقافي، وخاصة منهم بعض تلامذة مدرسة اتحاد الحي الصناعي السابقين».
فرنسا كانت ترى في المدارس المغربية «مشتلا» للإرهاب
بحسب الأرشيف الذي توفر بعد رحيل البوليس الفرنسي عن المغرب بعد مارس 1956، فإن الشرطة الفرنسية في الدار البيضاء كانت تزرع مخبرين محترفين لتتبع ما كان يجري في المدارس المغربية والفرنسية أيضا.. ففي الوقت الذي انشغلت فيه الإدارة الفرنسية بالتجسس على المدارس الحرة المغربية، فاتها أن تراقب ما يجري في المدارس التي عينت على رأسها مدراء فرنسيين.. فقد انخرط بعض التلاميذ، خصوصا في موسم شتنبر 1955، في أعمال الكفاح المسلح، بتأطير من التنظيمات السرية في الدار البيضاء على وجه الخصوص، ووجهوا ضربة موجعة للأمن الفرنسي، وطبعا كان من بين الضحايا أساتذة فرنسيون. لحسن الحظ، فقد تكلفت المندوبية السامية للمقاومة، منذ ثمانينيات القرن الماضي، بصيانة أرشيف مهم من وثائق البوليس الفرنسي في مختلف مراكز الشرطة في المدن المغربية خلال سنوات الحماية الفرنسية. وأغلب هذه الوثائق جرى تعريبها ونشرت في إطار منشورات المندوبية السامية للمقاومة وقدماء جيش التحرير.
ومن أهم ما جاء في هذه الوثائق أن فرنسا كانت تُعد لسنة دراسية عادية (موسم شتنبر 1955) في المغرب، وتراقب ما إن كان المُدرسون الفرنسيون الذين قضوا عطلتهم الصيفية في فرنسا، سيتعرضون لأي نوع من المضايقات، خصوصا وأن رواد الحركة الوطنية كانوا يطالبون بعدم المساس بالهوية المغربية في المقررات الدراسية الفرنسية. كان الأمر شبه روتيني يتكرر كل شتنبر، منذ أن أصبح المغاربة يلجون إلى المدارس النظامية. لكن المختلف في سنة 1955، أنها كانت آخر موسم دراسي ترعاه فرنسا في المغرب، وكانت الإقامة العامة الفرنسية تدرك أن استمرار الحماية الفرنسية أصبح أمرا غير ممكنا، بالرجوع إلى ظروف الحكم، وضرورة عودة الملك محمد الخامس إلى المغرب، في ظل الضغط الدولي الذي أصبحت فرنسا تتعرض له في هذا السياق.
ورغم ذلك، فقد حاول الأمن الفرنسي تخصيص دوريات لتفقد أجواء المدارس قبيل يوم الدخول المدرسي خلال الأسبوع الأول من شتنبر.
وحدثت مناوشات بين أساتذة فرنسيين وتلاميذ سابقين، انقطعوا عن الدراسة بسبب اختلافهم مع الأفكار الاستعمارية لبعض الأساتذة، وقرروا استغلال بداية الموسم الدراسي للانتقام بطريقتهم.
في الدار البيضاء، تعرض أستاذ فرنسي لمادة التاريخ لإصابة عنيفة على مستوى الرأس ألزمته الفراش لأسابيع، بعد أن نجا من موت محقق. تلقى ضربة بأداة حديدية على مستوى الرأس تسببت له في ارتجاج قوي أفقده الوعي، وكاد الأمر أن يتحول إلى نزيف داخلي على مستوى الدماغ لولا أن الطبيب تدخل في الوقت المناسب لإنقاذه.
وسُجل تعاطف كبير مع التلميذ من خلال منشورات نُسبت إلى المقاومة، وكتابات على سور المدرسة التي كان يشتغل بها الأستاذ المصاب. منشورات تدعو إلى ضرورة رحيل فرنسا نهائيا عن المغرب.
ومع بداية شهر شتنبر، كان مخططا أن تتم محاكمتهم بتهمة الإعداد لعملية «إرهابية» خطيرة. كل هذا وهم يؤكدون موقفهم العدائي من الوجود الفرنسي في المغرب، ويعيدون في المحضر جملة «محاربة فرنسا» حتى الرمق الأخير.
لم يتم تسليط الضوء كثيرا على محاكمة هذه المجموعة في شهر شتنبر. وللأسف، لم تتوفر لنا بقية المحاضر المرتبطة بهذا الموضوع. لكن الأرجح أن البت في القضية انتهى بإصدار الأحكام. وقد يكون هؤلاء الشبان قد حُوكموا بمدة سجن طويلة انتهت بمجرد الإعلان عن استقلال المغرب، شأنهم شأن مئات المواطنين المغاربة الذين أطلق سراحهم فور الاستقلال بعد أن كانوا يعتقدون أنهم سوف يشيخون في السجن العسكري بمدينة القنيطرة، حيث كان جل الذين لم يتم تنفيذ الإعدام في حقهم، ينتظرون أن يتحقق حلم «استقلال» المغرب ليستعيدوا حريتهم.
تهديد فرنسا للمغاربة ليُدخلوا أبناءهم مدارس فرنسية
عرى تقرير بريطاني يعود إلى سنة 1952 واقع التعليم المغربي في تلك السنة. كانت الإدارة الفرنسية تشرف على قطاع التعليم وإنشاء المدارس العصرية، وتعتبر أن المدارس الحرة التي أحدثها الوطنيون المغاربة، ما هي إلا محاولة لممارسة معارضة تجاه كل ما هو فرنسي.. في حين أن مثقفي فرنسا كانوا يعتبرون أن التعليم العصري، وفق النهج الفرنسي، هو السبيل الأوحد لخلق مغرب على قياس سياسة الإقامة العامة.
الباحث البريطاني برنارد نيومان كان وراء إعداد هذا التقرير في إطار مذكراته عن الرحلة الميدانية والاستكشافية التي أنجزها في المغرب، ووثق فيها للمغرب العصري في ظل الحماية الفرنسية، وأجرى مقابلات مع المسؤولين الفرنسيين، مكنوه خلالها من عشرات الوثائق والأرقام. وقد حكى عن قصة تفقده للمدارس الفرنسية الموجهة لأبناء المغاربة، وذكر أن فرنسا صادفت مشكلا عويصا يتمثل في ملء المقاعد الدراسية التي أنفقت ملايين الفرنكات على إحداثها في المغرب منذ الأربعينيات من القرن الماضي. وقد اعترف المسؤولون الفرنسيون في هذا التقرير بأنهم فشلوا في استقطاب أبناء المغاربة بالشكل الكافي للالتحاق بالمدارس الفرنسية.. وهو اعتراف بجدوى المدارس الحرة المغربية، وحضورها في المشهد العام الذي أرادت له الإقامة العامة أن يكون فرنسيا. ومن جملة ما جاء في توثيق هذا الباحث والرحالة البريطاني:
«وجدتُ مدارس لم تُملأ فيها الأماكن المتاحة لسنوات. جرّب المعلمون طُرق الإقناع، والمسؤولون المحليون لجأوا إلى ما يشبه التهديد في محاولة منهم لحث الآباء على إرسال أطفالهم إلى المدارس. لكن أغلب المغاربة فضلوا توجيه أبنائهم إلى العمل بمجرد ما أن يصلوا إلى سن النضج. لنقل تسع أو عشر سنوات. بينما بالنسبة للبنات، فإن موضوع ذهابهن إلى المدرسة لا يتم التفكير فيه نهائيا. (من المهم جدا معرفة أن 75 بالمئة من الأطفال اليهود في المغرب يذهبون إلى المدرسة، حيث لا توجد أي فرص رسمية لإنشاء مدارس خاصة بهم، بل يخلقها اليهود بأنفسهم).
من الجيد تسجيل أن النظرة الاستشرافية المغربية تغيرت الآن إلى حد كبير.
خلال الحرب العالمية الثانية، كان لعشرات آلاف المغاربة اتصالات جديدة مع أشخاص من دول أخرى.
كان التفوق التقني لجيوش الحلفاء في المغرب، لوحده أمرا مُلهما. منذ نهاية الحرب، يتفق الجميع على أن الإقبال على التعليم يستمر في الارتفاع.
الفرنسيون الذين كانوا ينظرون إلى الوضع من زاوية فترة سنوات الثلاثينيات، تفاجؤوا. أعداد التلاميذ المغاربة في المدارس الحكومية كانت أقل من 10000 تلميذ سنة 1920. وانفجر العدد بقوة إلى 35000 بحلول سنة 1945. ثم قفز إلى 115000 في سنة 1950. ولا يزال الرقم في ارتفاع سريع إلى الآن.
الهدف الذي أعلنته إدارة التعليم، والذي تم تحقيقه، بناء قسم دراسي يوميا. وصحيح أن عدد التلاميذ الذين يجري تعليمهم حاليا، يزداد بمقدار أربعين تلميذا يوميا.
وبالتالي، بينما كان اللوم على الظروف غير المُرضية، على الأقل مقسما بين الأطراف في الماضي، فإن المُنتقدين الأكثر فظاظة فقط، قد يتذمرون بخصوص التقدم المُحرز حاليا.
الشكوى الرئيسية للوطنيين مصدرها زاوية أخرى: كيف ما كان ما يقدّمه التعليم، فإنه غير مغربي.
صحيح أن الفرنسيين اضطروا إلى الاعتماد بشكل كبير على مُعلمين تابعين لهم، وصحيح أيضا أن مدارسهم تتوفر على عدد من المواد الدراسية العصرية التي تدخل في إطار الطابوهات، أو يتم تجاهلها في المدارس القرآنية.
صحيح أيضا أن النظام التعليمي تم تكييفه لتلبية متطلبات المناطق الناطقة باللغة الأمازيغية.
بالنسبة للوطنيين، فإن هذا الأمر تقسيم متعمد للمغرب، إلى فصيلين. ولا آبه هنا السقوط في التعميم، لأقول إنّ كل المسؤولين الفرنسيين في الماضي، يمكنهم ادعاء براءتهم من تُهمة مماثلة.
ثم لو أنني أمازيغي، لأحسست أنه يتعين عليّ تفضيل لغتي الأم عن أي لغة أخرى. وإن كانت هناك ضرورة لأي لغة ثانية، كنت لأختار الفرنسية، التي يتوفر لتدريسها مُعلمون عصريون، بدل اللغة العربية التي لا يتوفر مُدرسوها».





