شوف تشوف

الرئيسيةخاص

أمجد ناصر.. رائد قصيدة النثر وراعي الكتاب الشباب

رثى نفسه حيا واستمر في البحث عن «العلامة» حتى الموت

إعداد: هشام فتحي

مقالات ذات صلة

في ثاني عدد مخصص بالكامل لأحد الشعراء، بعد العدد الخاص بالشاعر الراحل محمود درويش، خصص «بيت الشعر بالمغرب» العدد الـ35 من مجلته «البيت»، الصادر مطلع الأسبوع الماضي، للشاعر والروائي الأردني الراحل أمجد ناصر الذي وافته المنية في أحد أيام أكتوبر 2019.
وقال رئيس «بيت الشعر بالمغرب»، مراد القادري، إن تخصيص عدد صيف 2020 من مجلة «البيت» للشاعر أمجد ناصر، يأتي كـ«إشارة نبيلة وبعد تقديري» من جانب البيت «لهذا الشاعر المتفرد الذي أغنى المتن الشعري العربي».
وأضاف القادري أن اختيار الراحل أمجد ناصر يأتي أيضا لكونه «كان كريما في كتابته وفي سلوكه وعلاقته بالمغرب والشعراء المغاربة وبعموم الكتاب والمبدعين المغاربة لكونه كان مسؤولا عن العديد من الملاحق الثقافية، وكان يجعل منها فضاء لاستضافة الإبداع والكتابة المغربية بنبل وأريحية وكرم كبير».
وأشار في هذا الصدد إلى أن الراحل «كان أحد الأصدقاء الكبار لبيت الشعر بالمغرب، وحضر في أكثر من مناسبة للقاءاتنا، سواء في المهرجان العالمي للشعر أو في مناسبات أخرى بالدار البيضاء والرباط، وغيرهما من المدن».
ويتضمن العدد الجديد من المجلة «الديوان الصغير» الذي ضم منتخبات من معظم مجاميع أمجد ناصر الشعرية، ومقالات متنوعة توقفت عند عدد من جوانب تجربته الشعرية والروائية، وقدمت شهادات عن الراحل، «وهواجس إبداع الشكل» عنده، و«إشارات الطريق إلى أرض القصيدة» لديه، و«قلق الأماكن في شعره»، و«كتابة الجسد» في قصيدته «سُرّ من رآك»، و«قراءة في تجربته الشعرية» بوصفه «الرجل الذي يخفي قصيدة في صمته».
ولخصوص الكتابة الروائية عند أمجد ناصر نجد في العدد عدة مقالات، منها «شعرية السرد وأفق الوعي في رواية «هنا الوردة»، و«غدر الزمن في رواية «حيث لا تسقط الأمطار» وغيرها من المقالات والشهادات.

الرجل الذي يُخفي قصيدةً في صمتهِ

كتب محمود خير الله عن لقائه بالراحل أمجد ناصر: أعتبرُ نَفْسي مَحظوظًا، لأنّ المرَّة الوَحيدةَ التي التقيتُ فيها الشاعر الكبير أمجد ناصر، وجهًا لوَجْه، مطلع القرن الحالي، كانت واحدةً مِنْ أجْمَل الصُّدَف السعيدة التي مرَّت عليَّ في حياتي، ورُبّما كان هذا اللقاءُ شبه العابر، سبَبًا مُباشرًا في إيماني بما أكتبُ حتى اليَوم من شِعْر ومن قراءات تَدورُ حَوله، كنتُ مَحظوظًا لأنّني التقيتُ في ذلك الصباح الشتويّ الفاخر، شاعرًا كبيرًا مثل أمجد ناصر، لدرجة أنّني اعتقدتُ ـ الآن ـ أنّ هذا اللقاء بعَفويّته المُفرطة، هو واحد من تلك الصُّدَف السعيدة التي تُحدِّدُ للمَرْء طريقَه.
كُنّا في إحدَى دورات مَعرض القاهرة الدوليّ للكتاب، حين صادفتُ الشاعر، الذي يكبرُني بستّة عشر عامًا، كنتُ أقرأ مَقالاته في صحيفة القدس العربي، وأعرفُ أنّهُ مِنْ أصحاب الأساليب الخلّاقة، المَعدُودين في الصُّحُف العربيّة، كما كنتُ أعرفُ شِعرَه، بَعدما قرأتُ مُختارات «أثر العابر» الصادرة في القاهرة مُنتصَف التسعينيّات من القرن الماضي، كنتُ أعرفُهُ جيّداً، لكن في هذه المرّة، كان عليّ أنْ أدركَ جانبًا آخَر مِنْ جوانب شخصيّة أمجد ناصر، الرجُل الذي يُخفي دائمًا قصيدةً في صَمْته.
كان أمجد يَجلسُ وَحيدًا، ولم يَكُن مُحاطاً بأيٍّ مِنْ «سماسرة الثقافة»، تلك المليشيات التي تنبتُ بجوار الأدباء العَرب، بمُجرّد ظُهورهم في شوارع القاهرة. كان أمجد يجلسُ مُتّكئًا على أحَد مَقاعد «مقهى شعبيّ» لرواد «المقهى الثقافيّ»، مُخصّص لتناوُل المَشروبات الساخنة والشيشة، وبجواره صَفٌّ طويلٌ من الكتُب، بَدا أمجد مُنكفئًا عليه، كان الصباحُ شتاءً باردًا في شهر يناير، لذا كانَ يَرتدي ملابس شتويّة داكنة، يُغطّيها بشَعرهِ الذي كان لا يزالُ عميقَ السواد، لكن حين رفع ابتسامتَهُ عاليًا، بدَت ابتسامةَ رجُلٍ صَبور، مدَدْتُ يدي إليه، وعرَّفتهُ بنفسي سريعًا وجلست.
ينتمي الشاعر الكبير أمجد ناصر إلى زَمَنٍ يتحوّلُ فيه الشاعر العربيّ إلى مُجرِّب عظيم، حتّى لو كان مِنْ مواليد العام 1955، ونشأ وتربّى على الذائقة العربيّة القريبَة مِنَ الأصول البدَويّة، أمجد هو الشاعر المُجرّب، الذي لم يكن يُعيقهُ كلّ ما سبق عن ارتكاب التجريب، وبتعبير أنسي الحاج، أعتقد أن أمجد ناصر كتبَ قصيدتَهُ الشعريّة وأعماله الإبداعيّة كلّها بنية واحدة فقط، هي أنها لا تزيد عن أن تكون «وثبة هائلة إلى المجهول»، لكنّها وثبة الشاعر المُغامر، الذي يبحثُ عن الأرض التي لم يَطأها غيرُه، ذلك البحث الدؤوب عن الهاجس الجَماليّ الخاص، وبدا لي أنّ أمجد مِنْ هؤلاء الشعراء الذين كلّما استهْلَكَتْ قريحتُهم الشعريّة شكلاً، عَملوا على هدْمِهِ بحثًا عن أفُقٍ جديد.
كان أمجد من الذين لفَتوا إلى أنّ قصيدة النثر وُلِدَت على الورقة، أي كتابيًّا، على عكس «القصيدة الحُرّة»، وأن قصيدة النثر ليس لها أصلٌ شفَويّ، كما هو حال الشعر الموزون أو «الحُرّ»، وأنّ قصيدة النثر «تخلو من وظيفة الوَصف بغرضيّة منطقيّة، فبفَضْل عُنصر «اللاغرضيّة» يتخلّصُ السّرد الذي هو سِمَة رئيسَة في قصيدة النثر، من منطقيّته النثريّة، فهو ليس مُخطّطًا روائيًّا يُريد أنْ يصِلَ إلى نتيجة ما، وإنما غرضه غرض فنّيّ جَماليّ محْض».
محمود خير الله

غدر الزمن في رواية «حيث لا تسقط الأمطار»

عن الكتابة الروائية عند أمجد ناصر يقول عبد المجيد حسيب: «جاء أمجد ناصر إلى الرواية عن طريق الشعر، لأنّه يُعَدُّ واحدًا من شعراء الحداثة، الذين انحازوا، في العالم العربيّ، إلى قصيدة النثر بوجْه خاص. يمكن اعتبار نصّ «حيث لا تسقط الأمطار» رواية عن الاستبداد، والنضال، والمنفى، والحبّ، والانتهازيّة، والشعر، والصداقة وغيرها. غيْر أنّ مَوضوعة «غدر الزّمن» تبقى واحدةً من أهمِّ الموضوعات التي حاولتْ، هذه الرواية، مُقاربَتها. تبتدئُ الرواية بعَودة السارد من المَنفى بَعد عشرين سنة من الغياب ليَبدأ مرحلةً جديدة في اكتشاف ما افتقدَهُ من أصدقاء وأماكنَ وأهْل وذكريات. غير أنّه سيكتشفُ أنّ أمورًا عديدة تغيّرَت وزَعزعَت ما كان يعتقدُ أنه ثابتٌ لا يريم. فكيف تفاعلَ الساردُ مع وَطأة الزمن في هذه الرواية؟ وكيف وجدَ الأماكنَ والناسَ والأشياءَ التي ترَكَها خلْفه منذ عشرين سنة؟ وهل توَفّق في رَتق ما كان يُحسّه في أناه من تمزّق وانفصام؟».
تتحدّث رواية «حيث لا تسقط الأمطار» عن عَودةِ بَطلها وساردِ أحداثها إلى بلده «الحامية»، بعد عشرين سنة من المَنفى. نتعرّفُ، من خلال عملية السّرد، القائم على الاسترجاع والتذكّر، على أهمّ الأحداث والشخوص والأماكن التي حفلَ بها هذا النصّ. تجري الأحداث في فضاءات وجغرافيات مُتباينة ومتعدّدة، آثرَ السارد أنْ يُسمّيها تسمياتٍ رمزيّةً غيرَ حقيقيّة مثل: «الحامية»، «المدينة الرماديّة والحمراء»، «جزيرة الشمس»، «بلاد السندباد»…. وغيرها من الأماكن التي احتضنَت رحلة السارد وبعضَ رفاقه لِمَا يَربو عن عشرين سنة.
انطلقَت الأحداث من بلاد «الحامية» التي تُشبهُ في نظامها السياسيّ أغلبَ البلدان العربيّة المحكومة من قِبَل أنظمةٍ ثيوقراطية مُستبِدَّة تُمارسُ الرقابة المُطلقة على كلِّ مَن يُسائلُ سياستَها. اختارَ السارد، في هذه الرواية، أن يتحدّثَ عن نفسه بصيغة المُثنى: يونس وأدهم. الأوّل ذاقَ مرارةَ المَنفى والابتعاد عن الأهل والوطن، والثاني لم يُهاجر إلى الخارج. بين أدهم ويونس توجدُ الكثير من التشابُهات إلى درجة يصعبُ التمييز بينهُما أحيانًا. لعبة القرين هي واحدة من أهم الخصائص الفنّيّة التي اعتمدَ عليها الكاتب في تشكيل الهُويّة المُلتبسة والمُتشظية لبَطل روايته. ينتمي يونس الخطّاط إلى أسرة قريبة من الأسرة الحاكمة، إذ كان والدُه من المُقرَّبين من دائرة الحُكم. أحبّ يونس، منذ يفاعته، الشعرَ والأدب وقضايا السياسة، وسحرَته الأفكار اليساريّة الثوريّة. فانخرط في حزب سرّيّ قصْد النضال من أجل الحرّيّة والعدالة. وبَعد مُحاولة فاشلة للتخلّص من «الحفيد»، حاكِم البلاد، تمّ تهريبهُ بمعية مُناضلين آخَرين خارج البلاد. غير أن فشلَ محاولة اغتيال «الحفيد» عرّضَت التنظيم لمحنة غير مسبوقة.
رواية «حيث لا تسقط الأمطار» ليْسَت مجرّد رواية عن الصراع الضاري والعنيف الذي عرفهُ العالم العربيّ بين المُثقّفين والسلطة، وليست مُجرّد رواية عن المَنفى وأوجاعه… بل هي، أيضًا، رواية عن الزمن ومَكره ومُفاجآته التي تُباغتُ الإنسان من حيث لا يَدري. وقد تمّ تشخيصُ هذا المكر، الذي ينطوي عليه الزَّمن، بسَرد ذاتيٍّ ينبلجُ من أعماق الذات ويَرِدُ إمّا بصيغةِ المخاطب أو بصيغة المتكلّم، ويرشحُ بالكثير من الشّجَن والأسى بوجهٍ خاصّ، لأنّه كان يُحاولُ إعادةَ تركيب أجزاء الماضي ليس بدوافع الحنين والنوستالجيا، بل بالرّغبة في إعادةِ قراءة الأشياء وفهْمها بطريقة أخرى.
لمْ يُؤثّر الزّمنُ على الأشياء التي لها علاقة بالسارد فحسب، بل أثّر، أيضًا، على شخصيته التي أضْحَتْ مُمَزَّقةً بين اثنيْن، ويعملُ جاهدًا على ترميم هُويّته المُمزّقة والمُتشظية، يقول: «صِرْتُ أسألُ عن سرِّ تواجُدي، في الوَقت نَفسه، في مكانَيْن مُتباعديْن أو مع امرأتيْن مُختلفتيْن، مع أنّني لستُ من أصحاب الخوارق.» (الرواية، ص.224). كما أنّ تركيزَه على ضمير المُخاطَب أكثر مِنْ ضمير المُتكلِّم يُرَجِّحُ هذا التناقُضَ الذي كانَت تعيشُهُ أناه التي صارَتْ تُدركُ، من حين لآخَر، أنّ أحلامَه، في هذه الحياة، قد انتَهَت، وأنّ جميعَ الأبواب التي كان يأمُلُ عبورَها قد أوصِدَت في وَجْهه إلى الأبد، لذلك نجدُهُ يتماهَى مع شخصية النبيّ يونس الذي ابتلعَهُ الحوت: «اسمي الأوّل… لنبيّ. لكنّهُ نبيّ هامشيّ. لا أعرفُ ما هي رسالته. يُقال إنّه كان في «نينوى» يُحاولُ هدايةَ قوْمه الى الصراط المُستقيم فلمْ يفلح. تركهُم. هامَ على وَجْهه. ذهبَ إلى البَحر ثم ابتلعَهُ الحُوت. (الرواية، ص.226).
عبد المجيد حسيب

أمجد ناصر في أرض الحب

مِنَ الشِّعر يأتي أمجد ناصر. مِنْ أماكنهِ البَعيدة ومِنْ نُدْرَته. هكذا قال عيسى مخلوف عن الراحل. ويشدد «تُؤكّدُ على ذلك مَسيرَتُهُ الشعريّة مُنذ ديوانه الأوّل مديح لمقهى آخر حتّى ديوانه الأخير مُرتقى الأنفاس، مُروراً بدواوينه: منذ جلعاد كان يصعد إلى الجبل ورعاة العزلة ووصول الغرباء وسُرّ من رآك. مِنْ هذه التجربة يأتي الشاعرُ شاهرًا رَحيله، رافعًا صَرْخَتَه كالسارية».
مِنْ رُعاة العزلة، وهو كتاب الخُروج إلى المَنفى، إلى مُرتقى الأنفاس وفيه سيرة المَطرود مِنْ أماكنه عبْر شخصيّة أبي عبد الله الصغير، آخِر مُلوك غرناطة، واصلاً «إلى آخر نفَس»، يَرتسمُ ملمحٌ أساسٌ في هذا الشعر: الإحساس بالخَسارة. ويتمّ التعبير عن هذا الإحساس بِلُغةٍ حديثة، مُبتكَرة وخاطفة. لغةٌ تعلو فيها نَبْرَةُ النشيد الذي تَضيقُ به القصيدة والذي يَسطعُ في الكلمات وما وراء الكلمات. ففي قصيدة أمجد ناصر لا تنتهي القصيدةُ عند نهايتها، وكيف لها أنْ تنتهيَ والذي يُعطي «الغُرباء كلمة ليَفْتحوا قلبَ الليل» هو نفسُهُ الغريب؟
ويضيف عيسى مخلوف، «في هذه الجغرافيا الشّعريّة الفَسيحة والتي تحتاجُ إلى دراسات مُعمّقة، أتوَقّفُ في هذه الشهادة السريعة عند لافتٍ واحد من كتاب واحد هو سُرّ من رآك، الذي يُمثّل، بالنسبة إليّ، محطّة مُهمّة تكشفُ عن ثراء هذا النتاج وزَهوه وطاقته على الدّهشة. في هذا الكتاب، يَحشدُ الشاعرُ تقنيّاتِه وأدواتِه وتعابيرَه الأقرب إلى الإشارة لينشدَ في الجَسد نشيدًا قلّما طالعنا بمثل هذا البَهاء في اللغة العربيّة».
مُفتتح المَجموعة: «الرائحة تُذكّر». بالرائحة يَتذكّرُ الشاعرُ، وبالرائحة يَرَى. إنّها عَودةُ الفَم إلى يَنبوعه الأوّل وله «هذه الرائحة: قطع الأعشاب في الصباح». وفي معراجها: «الحقوان وما يَطويان قبل المياه/ فَوح». الرائحة حواسّ النوازع الدّفينة تشرّعُ اللحظة الحسّيّة على الاحتمالات كلّها. «الرائحة تَبقى/ على اليَد بَعد المياه»، «يا أبيض غلاّبًا/ حمّالَ روائح وارتجاجات»…
غير أنّ أكثرَ ما يُطالعنا في المجموعة هو الافتتان. الجسدُ هُنا غيرُ عابئ بالخَطيئة والنّدَم والأوجاع، كما عند الكثير من الشعراء وفي مُقدّمهم شاعر الحداثة شارل بودلير. الجَسدُ، هُنا، في سلام لحظته البدائيّة، خارج ما تُمْليه التقاليدُ والأفكارُ والأديان. يبثّ رائحتَهُ ولا يُبالي. يُغوي ويَغتوي ويَفوحُ منهُ بعضُ عزاء. يُقال إنّ الله أعطى آدمَ حفنةً مِنَ البخور ليُعزّيه على طَرْده مِنَ الجنّة.
«سُرّ من رآك» مديحٌ لبَهاء الجَسَد الأنثويّ الذي حين يفوحُ يُذكّرُ «بأعطيات لمْ يُرْسِلْها أحَد»، «بأكباش يُهيجها البول». هكذا يَستوي الإنسانُ والحيوانُ على منصّة واحدة، ضمْن ذاكرةٍ مُشتركة. ويستعينُ الشاعر بأدوات البَداوة البعيدة في علاقتها الأقرب بالحَيوان. تتماهَى رائحةُ الأنثى مع الحيوان، والرجل هو أيضاً يتماهى مَعه. في هذا السياق، نقرأ العبارات الآتية: «وتهبّ رائحةُ الحيوان/ بهذيْن الحقلَيْن المحروثَيْن/ بقرنَي ثور سأضمَن القطاف»، «عشب الوحش اللطيف الهائج في السّفح»، «ذو الغرّة يتضوَّع برائحةِ أسَد نائم»، «يعبران سياجَ الوحش/ فيُضيئان ظلمةَ قلبه»…
الجَسَدُ، هُنا، في غوايَته ودَلاله، في احتكاكه برائحةِ الآخَر، وهي مَزيجٌ مِنْ بول وياسمين، من عرَق ونُحاس مجروح. ليس مِنْ ألم في هذه اللحظة حتّى حين يُطالبُها الشاعرُ بدُخول «مدخل ضيّق لنصعد بالألم». حتّى حين يقولُ لها: «ألمسكِ مِنَ الطَّرَف الموجِع»، أو حين يقولُ في مَوْضع آخَر: «ليْسَت العبرةُ في القطعة الأجْمل بين ثيابكِ/ مرفوعة على رُؤوس الأشهاد/ بل/ في/ الحربَة/ عميقًا/ تغرس/ نواة/ الألم»…
مِنَ الشعر يأتي أمجد ناصر. نزِقًا وناصعًا ومتمرّدًا. من هذا النّوع من الشعر الذي يدفَعُنا إلى التساؤل عن إمكانِ وُجودِ الإبداع في زَمَن يَتَعَوْلمُ فيه الرُّعبُ ويطرد الإنسان خارجَ ذاتِهِ ورُوحه، وخارج لحظةِ التأمّل المُشرقة التي تُولد فيها القصيدة. لكنّ القصيدة هُنا حاضرةٌ بكلّ سُطُوعها وجَماليّتها، وبقُدرتها على الاقتراب مِنَ الأشياء الضّائعة مُنذ بدايةِ العالم.
يقول ريلكه: «بَحثتُ عنكَ أيّها الكَنْز، حَفرتُ في الليالي العميقة». أليس هذا بالتّحديد ما فعلَهُ أمجد ناصر في مجموعته سُرَّ من رآك، بل في مجموعاته الشّعريَّة كلِّها؟
عيسى مخلوف

أمجد ناصر.. البقاء حيّاً حتى المَوت

نشأ «يحيى النميري النعيمات» (1955-2019) في مدينة الزرقاء الأردنيّة، مُتأثّرًا بالمناخ الثوريّ في مُعسكر النازحين الفلسطينيّين ومُناضلي الجَبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، حيث سيلتحقُ بصُفوفها مُباشرةً بعد دراسته الثانويّة. وفي الزرقاء، وقعَت بيَد يحيى أعدادٌ من مجلّة شعر اللبنانيّة. كان يَسمعُ من أحَد الشعراء التقليديّين: إنّ هذه المجلّة تنشُرُ نثرًا تُسمّيه شعرًا. وكان يحيى آنذاك في التاسعة عشرة من عُمره، ولم يكُن مُصطلح «قصيدة النثر» مُتداوَلاً في مُحيطه. في عام 1977، اضطُرّ للالتحاق بقواعد الجَبهة في لبنان، وهناك اختبرَ تجربة المَوت الأولى إبّان الاجتياح الاسرائيليّ، وعملَ مُحرِّرًا ومُذيعًا ضمْن خليّة الإعلام الفلسطينيّ المُوَحّد، ثم في مجلّة الهدف التي أسّسَها غسّان كنفاني لتكونَ لسانَ الجبهة.
دخلَ باسْم يحيى وخرجَ باسْم أمجد، قصّة يَسردُها أمجد ناصر كولادة ثانية. اسْمٌ جديدٌ بقناعات جديدة؛ فلمّا انتقلَ إلى بيروت (مُختبر الحداثة العربيّة)، «بشَعر طويل وسحْنَة تفضحُ رهبَة البَدويّ المقذوف»، كان يكتبُ شعرًا مَوزونًا، ولم تكُن القصيدة، بالنّسبة إليه، موجودةً خارج الوَزن! وقد منحَتْهُ بيروت، اسمًا وقّع شهادةَ ميلاده على الصّحيفة وعلى غلاف ديوانه الأوّل مديح لمقهى آخر (1979).
ما كان شعرًا خاطئًا في نظره، سيُصبحُ من بيروت، ليس فقط إطارًا بدَهيًّا للحداثة النثريّة والفكريّة جعلَ ناصر يتراجعُ عن إعادة إنتاج القصيدة التقليديّة، ولكن أيضاً، وهُنا التمرّد الكبير، استعداده الفطريّ للانفلات مِنَ المَتن؛ وقد كان سليلَ الهوامش والتُّخوم الأردنيّة باسْمه الجديد، أمام «بوصلة مُتوَتّرة» ستقودُه إلى اتّجاهات وأمكنة غير مُتوقّعة لم يتردّد في الإعلان عنها: «كان الشاعرُ فيّ يُمارسُ تمرّدًا سريًّا تحت المسوح القاسي للأيديولوجيا. فالشعارُ المطروح، آنذاك، كان يطلبُ تطابقًا بين «البيان الشيوعيّ» والقصيدة. وكان الأمرُ عسيرًا علينا نحنُ الذين نرغَبُ في تثوير الشعر مثلما نعملُ على تثوير الحياة». كان الأمرُ يتجاوَزُ قضيّة شكل القصيدة إلى صياغة معنى جديد للحياة العربيّة، كما سيكتبُ ناصر لاحقًا في قراءة «يوتوبيا المدينة المثقّفة» لخالدة سعيد.
حين سُئل: إلى أيّ غاية تذهَبُ قصيدتُه؟ أجابَ بأنّهُ، بين حين وآخَر، يطرَح السؤالَ ذاتَهُ على نَفسه ولا يجدُ لهُ جَواباً. لكنّ تتبُّع كتاباته النقديّة، يُمْكن أن يؤشّرَ على هذا الجواب أو ذاك. كانت الكلماتُ التي استخدَمَها في قراءته لأربعة اتّجاهات على الأقلّ، دالّة، بشَكل غير مُباشر، على ما يَنطوي عليه مَذهبُه الشعريّ المُختزل من قِبَل بَعض الدارسين، ضمْن مَجرى القصيدة العراقيّة بتأثير من سعدي يوسف تحديداً. في الاتّجاه الأوّل؛ اعترفَ ناصر بأنّ قصيدة «ماذا صنَعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» لأنسي الحاج من النصوص التي خَلْخَلَت مفهومَهُ للشعر. كما يعترفُ أيضاً بأنّه: لم يعرف شاعراً «يُطهِّر» قصيدتَهُ ممّا ليس شعراً مثل أنسي.. لكن قصيدتَهُ هشّة، قابلة للانتكاس بسبَب ضعف «مناعتها»، ويقصدُ قوّة اللغة بالمَعنى البلاغيّ السائد. وفي الاتّجاه الثاني؛ نظرَ بعَين الإعجاب، إلى شعر سليم بركات مُنذ اكتشاف نُصوص له في «مكتبة» القاعدة العسكريّة بجنوب لبنان. لقد كان سليم في تقدير ناصر: يَخضّ هواء العربيّة ويُبعثرُ مجازاتها ويَنسجُ، بنوْل رعويٍّ مُحكمٍ، جهة أخرى للكتابة الشعريّة. باسترسال أقرب إلى التصادي الذي سيحدُث لاحقًا ربّما، لاحظَ بأنّ مَنْ يَقرأ سليم يختلطُ عليه الشاعر بالناثر، لذلك «تضيقُ به بنية القصيدة التي مَهما اتّسعَت ورحُبت، كما هي الحال عنده، تظلّ محكومةً بحُدودها». أمّا الاتّجاه الثالث؛ فيُمَثّله عباس بيضون، المُترسّخ في ذهنه بوَصفه ناقدًا «اختمَرَت قصيدتُهُ في استراحةِ المُحارب الباريسيّة وبالتنظير لشعر عربيّ جديد يَخرجُ من الشقوق، والهوامش والضّعف والانقطاعات وعالم الإنسان الصغير، لا من لحظة التماسُك، والبلاغة والوحدة». في الاتجاه الرابع، تركَ ناصر فِقرةً تُلخِّص رُؤيتَهُ إلى ما سمّاه: بـ«اللحظة النضاليّة في تاريخ الشعريّة العربيّة»، والتي وَضَعَت الشعرَ والمقالة الصحفيّة في خدمة الراهن الفلسطينيّ والعربيّ. يتعلّقُ الأمْرُ في هذا الاتّجاه بمحمود درويش الذي كان بإمكانه: «أن يركنَ، بشُهرته الكاسحة، إلى اطمئنان شعريٍّ وجَماليّ، غير أنّهُ كان دائمَ القلق على هذا الصعيد، وهذا ما تَعكسهُ أعمالهُ التي لم تعُد جماهيريّة مُنذ ديوانه «لماذا تركت الحصان وحيداً» فصاعداً».
بصُورَةٍ جُزئيّة، تُركَتْ له خُصوصيّتُه، تقاطعَ ناصر، مادام الكاتبُ مرآةَ قراءاته، مع هذه الاتّجاهات. فعلى الرغم من نِسبة قصيدته إلى المدرسة العراقيّة الأصيلة لغةً وإيقاعًا، فإنّ قصيدتهُ تسري فيها «الأصالة» و«القطيعة» معًا، تخرجُ على «الأهل» كيما تعودُ إليهم، على حدّ قوله. وهكذا سارَ الشاعرُ والناثرُ في أمجد ناصر، وكأنّنا أمام صُورة سليم بركات التي تخيّلها سابقًا، «كتوأميْن سيامييْن لا تنفعُ معهُما أيّ عمليّة جراحيّة». وفي آخِر المَطاف كان النثرُ يلوح له، «لمُلاقاةِ الشعر أو ربّما عدم مُلاقاته».
وَصفَ ناصر مُغادرةَ بيروت بالخُروج من الفردوس المَفقود. كان وُجودُه فيها جُزءًا من حالةٍ انطوَى عالمُها: «بناسه وأعلامه وشاراته وأسلحَتِه وكُتُبه وتجاوُزاته ومُعجمه وأحلامه. عالمٌ اندثرَ دون أنْ يَترُك أطلالاً. وكنّا نحنُ أطلالَه». بَعْد بيروت، وفارًّا من نُبوءة والدته: «يا يحيى لنْ تعرفَ نفسك الراحة»، يَنتهي به المُقام في عاصمة الضّباب، منها سيستأنفُ عملَهُ الصحفيّ والإبداعيّ، فكانت لندن نُقطة ذهابه وإيّابه واغترابه. في كتابه تحت أكثر من سماء، وبَعْدما قادَهُ القدَرُ من بلاد إلى أخرى، تساءَلَ: أيّ قِسمة عجيبة للزمن؟ وأيّ عدالة لهذا الغياب الذي ساكنني حياتي؟ ما الذي يَخشاه مَنْ كان فوزه الوحيد هو المَنفى، مَنْ كانت الخيباتُ مُكافأته على الأحلام متروكة الحبْل على الغارب؟
اغترابٌ آخَر، شغلَ بالَ أمجد ناصر، ويشغلُ بالنا جميعًا؛ المكان العربيّ بتُخُومه التي يَصعبُ عُبورُها يجعلُ «السَّفر بجواز عربيّ في المكان العربيّ كالسَّفر بين عوالمَ مُنفصلةٍ ومُتباعدة ترمُق بعضَها البعض شزرًا، هذا إنْ لمْ يَصِل التنافرُ بينها إلى حدّ العداء السافر». يَصعُبُ عبورُ المكان العربيّ، هي جُملة، بمثابة قُطب الرّحى في رحلات تحت أكثر من سماء. وكان على الشاعر قبْل أنْ يُدَوِّن أسفارَه، وبَعد ذلك بواقع الحال، أن يُقرَّ بنبرة يائسة أنّ: الزمن العربيَّ سالَ بفداحة وأنّ الحنين يُطوّرُ أمكنة لا وُجودَ لها..! كما كان على الشاعر، فوق ذلك، أنْ يُعلن: «ليس وَعيي بالمكان كافياً لأوجَد، وليس وُجودي كافياً لأكون».
كان الماضي المُتّصل هو الذي يُغري شَهوةَ الكتابة عند ناصر. ورغم مَعرفته به، فإنّ هذا الماضي بالنسبة لشاعر يُقرُّ بأنّه ليس «راعي الذكرى ولا مُدبِّر شؤون الحنين»، لا يقلُّ غُموضًا والتباسًا عن الحاضر. لقد كان الفنُّ عنده «يتصدّى في المَوضوعة التاريخيّة لِمَا هو غير تاريخيّ بالمرّة». ولمْ يكُن هذا المفهومُ ليُعرّفَ جَوهرَ الكتابة، فحسب، وإنّما ليَجْعَلها، بشَكل خاصّ، لحظةً مفقودة يَسعى الكاتب إلى اكتشافها، وهي لحظة استثنائيّة لا يَمنحُها المُؤرِّخُ عنايَته. إنّها، بتعبيره: طبقة تحتيّة بعض الشيء حيث يَثوي الفُقدانُ وتتبدّدُ الأحلام ويتخثّرُ الحنين.
بالعَودة إلى تحت أكثر من سماء، نعثرُ على فِقرة تُلخِّص ما قبْل اغترابه اللندنيّ وما بَعْده: «كانت لنا أحلام. فماذا تبقّى مِنْ كلِّ ذلك؟ وَقَعْنا من أعلى جيادنا فتلقّفنا الوعر. مُكتهّلون ولمّا نبلُغ الكهولة بَعْد. الضّوءُ الذي لمَحْناهُ في صخَب فُتُوَّتنا طلعَ خُلّباً. نَمشي إلى الأمام مَدفوعين بقُوّة العَصْف ورُؤوسنا إلى الوراء. أيّ صُورة مِنْ صُوَر بلادنا تُمَثّلنا الآن. عن ماذا تُعَبِّرُ كتاباتُنا وأيّ قرّاء لها، كيف نفهمُ ما يكتبُهُ اللاحقون علينا الذين لم يَروا إلاّ حُطامَ المُدُن والأحلام والأفكار الكبيرة»…
لا أصدقاء للمَنفى! الفراغُ أكثرُ قسوةً منه!. في «بيروت صغيرة بحَجم راحة اليد..»، نقرأ: «الفراغ أصْل/ المَوجودات طارئة/ لا مكان كهذا يَصولُ فيه الفراغ ويجول». وكانت خفّة الشاعر الهشّة تستلزمُ ذلك الهُرُوبَ الاضطراريّ من: «لغط هائل يدوّم فوق المُدن الكبرى، ثرثرة لا نهائيّة تطفو فوق رُؤوس أناس لا يَزيدهم الكلامُ إلّا وحدة وضَجَراً وعُزلة». كان المَشيُ وحيداً، وربّما إلى حيث لا أحد، رغبة يُحرِّكها النفورُ من حُشود تركض ولا أحد يَصل!. في يوم من أكتوبر 2019 قرّرَ المَشيَ وحيداً كعادته، وهذه المرّة «حيث لا أحد»، لم تكُن وجْهَة ما، كانت صَوتًا داخليًّا أخيرًا؛ راية بيضاء رَفَعَها من داخل مُستشفى تشرينغ كروس بلندن، بَعدما أظهَرَتْ صُوَرُ الرّنين المغناطيسي تقدّماً للوَرم..
في غشت 2008، كتبَ ناصر مقالة عن «رحيل إدوارد سعيد إثر معركة بُطوليّة مع السرطان استمرّت ثلاث عشرة سنة»، أبْدى فيها افتتانَهُ بقصيدة محمود درويش «كان ما سَوف يكون» مُنذ قراءته لها سنة 1977. كما استعادَ فيها مرثيات درويش الذي كان قد «طالبَ أصدقاءَه أنْ يتوَقَّفوا عن المَوت، أن يَعقدوا هُدنةً مَعه، أن يَمْنَحُوه، على الأقلّ، سنة بلا مَوت. سنة بلا رثاء». كثيرةٌ هي مراثي محمود درويش، يقولُ ناصر، وفي الرثاء: تختلطُ الذاتُ بالآخَر، فلا تعرفُ، في بَعضها، هل يَرثي الشاعرُ صديقَهُ أو يَرثي نفْسَه. فمَوت الصّديق هو، أيضًا، نوعٌ من مَوْت ذاتيٍّ. سُقوط شيء ثمين، يَصعب تقديرُهُ، في طريق الرحلة». في ماي 2018، أي قبْل أن يُباغتَهُ المَرض، كتبَ مقالة، ستكون المرّة الأخيرة، التي تحدّثَ فيها عن: صائد الغفلات اللّعين… العَدُوّ الشخصيّ القاتم، الذي أخذ منهُ والدَتَهُ وحبيبَتَهُ الأولى. وقد وردَ في المقالة: «الإنسان يَموتُ كما يَموتُ أهله».
سيقذفُ الخبرُ الألمَ والخَوفَ والدُّموعَ في النفوس! في غشت 2018، كان قناع صائد الغفلات هذه المرّة «وردة مُتوَحّشة»: بدون تأخّر تهيّأ الدكتور خان لرمي قنبلةٍ: «ها هي الصّورة، وردة مُتوَحِّشة. شكل هندسيّ نابض.. إنّها كُتلة، وسنبدأ فوريًّا علاجًا بالسترويد لتخفيف ضَغْط الكتلة». بَعْد ذلك بثلاثة أشهر، نشرَ ناصر على الفيسبوك صُورة «سيلفي» وكتبَ أسْفَلَها: «هذا أنا بَعْدَ العلاج الكيماويّ والإشعاعيّ.. يبدو أنّي على ما يُرام يا شباب!!! سلامات للجَميع». ومُنذ هذه اللحظة فصاعدًا، نشرَ نُصوصًا لا تتوقّف عن قياس ما بداخلهِ من رغبةٍ في الحياة. بين أكتوبر وديسمبر 2018، سيكتبُ عن العائلة، والذاكرة، والمَوت.. ثمّ سيُخاطبُ حُكم المَرض: «لا تستمد دينك من الذين يمرّون في هذه الدنيا/ كما تمرُّ أنفاس الرعاة في قصب الناي… يُسمّونك السرطان/ وباسمٍ مُخيفٍ كهذا لا تَحتاج سيفاً أو قناعَ نمرٍ/ أمّي وأصدقائي الذين غدَرْتَ بهم يُسمّونني يَحيى/ وهذا إنْ كنتَ لا تعلمُ اسم نبيٍّ صحراويٍّ عمَّدَ بالماء مَنْ يُشفي الأعْمى والأبْرص وقام من تحت تُراب الموت في اليوم الثالث/ تعالَ إذن إلى حلبة الآلهَةِ المطوَّقة بالمَلاحم والأنساب».
برحيلٍ طارئ سيتوَقّفُ فقيدُ الصِّحافة الثقافيّة العربيّة عن إتمام العمَل على أكثر مِنْ كتاب. وإذا كان النقد يتركُ «مسافة فارغة» تُجاه العديد من التجارب الشعريّة المُعاصرة، فإنّ الراحل لمْ يَعِش سُمْعة شعريّة كافية بسبَب هذه «المسافة». لكن، وخاصّة في أيامنا، إذا كان من السّهل أن تكون كاتبًا معروفًا، فإنّهُ من الصّعب أنْ تكون استثنائيّاً. فليس فراغُنا فراغَ النصّ ونَقده فقط، بل تحوَّلَ الفراغُ إلى مؤسّسة نصّيّة!، لكن القصيدة المُمتلئة بالكلمات مُستثناة أو مُستبعدة، ويكفي ليَلِجَ الشاعرُ بقصيدته الزمنَ الإنسانيّ الآتي، ويُصبح «علامة»، أنْ تكون البقية المَفقودة مِنْ مَوهبته المُستقبليّة، عُنوان هذا العُبور غير المُكتمل…
محسن العتيقي

حديثٌ عاديٌّ عن السرطان

كلما تذكَّرْنا صَديقًا راحِلاً لاحَظْنَا أنّهُ أُصيبَ به.
أتَرَى؟ لا أحدٌ يَمُوتُ في مُحيطنا هذه الأيام بغَيرِ السّرطانِ، صائدِ الغَفلاتِ اللّعين. قلتُ هذا للصّديق الذي أخْبَرَني عَنْ صديقٍ آخرَ تسلّلَ إليه السرطانُ وهو يُفكّرُ في منظورٍ أهليٍّ للصحراء. قال إنّ صديقنَا المُشتركَ شعرَ فجأةً بصُداعٍ غيرِ عاديٍّ فأخَذوه إلى المُستشفى فوَجَدوا الوَرمَ الخبيثَ مُتمَكِّنًا مِنْ الدماغِ فاستأصْلُوه، ثم أخْضَعُوه للعِلاج الكيماويِّ الذي حَتَّ شَعْرَ رَأسِه ورُمُوشَه وحاجبَيْه حتّى صارَ لهُ وَجْهُ طفلٍ رَضيعٍ مُعتلٍّ، ثمّ ماتَ صامتًا، مُحَدِّقاً بمَن حَوْلَهُ بذهولٍ غير مُصدّقٍ أنّ الأمرَ كلَّهُ بدأ بصُداعٍ زائدٍ عن الحدّ قليلاً،
صَمَتَ ثمّ قال: أتدْري أنّ أخي الأكبرَ ماتَ بالسرطان في الأربعين مِنَ العُمر؟
فأخْبَرتُه أنّ أمّي أيْضًا، باغتَها السرطانُ مرّتيْن، الأولى في حُدودِ الخمسينِ فأمْهَلَهَا عشرَ سنينَ ثمّ صارَعَتْه في الثانية سبعةَ أشْهُرٍ مِنْ دُونِ أمَلٍ يُذكرُ، والمُشكلةُ أنّني قرأتُ لا أدْري أيْن أنّ الإنسانَ يَموتُ كما يَموتُ أهلهُ.
تهيّأ لي أنّهُ تَحَسَّسَ رأسَهُ فقلتُ لهُ بما أنّك تجاوَزْتَ الأربعينَ فمِن الجائزِ أنْ لا تَنطبقَ عليكَ القاعدةُ، أمّا أنا فالاحتمالُ لا يَزال يُدوْزنُ أخْفَتَ أوْتارِه أمامي.
سألَني كيف أُحبُّ أنْ أموتَ. فقلتُ له: بالقلب، وأنا نائمٌ على سَريري وفي الصّباح يَجدونني ميتاً.
فوافَقني الرأيَ قائلاً إنّ السكتةَ القلبيّةَ هي، على ما يَبْدو، الطريقُ الأقصرُ والأقلُّ مهانةً للمَوت، فليْسَت لديَّ شجاعةُ أخي الذي رَفضَ العلاجَ الكيماويَّ وظلَّ بكامل شَعره يُدخّنُ ويَشربُ إلى أنْ لفظَ أنفاسَه الأخيرة.
صَمَتَ فترةً أطولَ ثمّ قال: هل أنت متأكّدٌ أنَّ الإنسانَ يموتُ كما يَموتُ أهلُهُ؟
فقلتُ: لا أدري.
لستُ مُتأكِّدًا أنّ الشّعراء قادرون على التنبّؤ بمَوتِهم رغم أنّ «سيزار فاليخو» ماتَ في باريسَ وفي يوم ماطر، تمامًا، كما تنبّأ بقصيدته «حَجَرٌ أبيضُ على حَجَر أسْوَد»، وأنا أتوَقّعُ في هذه القصيدة التي أكتُبُها الآن أنْ أموتَ بلندن في يَوم ماطر (يوم ماطر في لندن؟ يا لها مِنْ نُبوءة) مُوصيًا، مُنذ اللحظة أنْ أدْفَنَ بالمفرق قُربَ أمّي التي ماتتْ وهي مُقتنعة أنّهُ لن يضُمَّنا حَيِّزٌ ذات يَوم.
فالجميعُ يَعلمُ أنّها ستذهبُ إلى الجنّة!
إذا كانت المَوجوداتُ مثل مرايا مُتقابلة توجدُ جَميعها في كلِّ واحدَةٍ مِنْها، فأنا أنتَ وأنتَ أنا وكلُّ ما أردتُ وما لمْ أُرد.
الأمسُ واليومُ يمشطان شَعرَهُما الطويلَ ويتملّيان صورةً لا تملُّ من التكرار.

الليل.. لا نوم

بقيت وحدي. عدت من رحلة الممرّ العبثيّة إلى السرير. الليل لا يزال «شابًّا» على حدّ التعبير الإنكليزيّ.
شظايا القنبلة تتحرّك.
كتلة..
ورم..
لو لم أقع على الأرض ما عرفتُ بالتشكّل السرّيّ لهذه الكتلة، هذا الورم..
لقد كنت قبل ساعات فقط من «الأصحاء»، وها أنا في قسم خاصّ بالأورام الدماغية في مستشفى كنت أرافقُ إليه زوجتي، المريضة بالفشل الكلويّ، من أجْل «غسل» الكلى ثلاث مرّات في الأسبوع، ولم أتخيّل نفسي مريضًا في أحد أقسامه، بل لعلّه أكثرها إثارة للخواطر السيّئة.
لم يطلع النهار بسُهولة. يبدو أن الليل كان في أوّله. مُنتصَفه. لا أدري. أنا الآن في وَضْعٍ غير الذي كنتُ فيه (ولم أكن أعرفه) قبْل ساعات. قبْل يوم. قبْل أيام. شعرتُ برغبة شديدة بالتدخين. معي علبة سجائر. رغم أني توقّفت عن التدخين ستّ سنين. طلبت من الممرّضة المسؤولة عن الجناح أن تسمحَ لي بالنزول إلى الطابق الأرضي لتدخين سيجارة. رفضَت. ألحَحْتُ. فوافقَت. أرسلَتْ معي مُمرّضة وكرسيًّا مُتحرِّكًا. كان هناك مَرضى غيري يُدخّنون. لا تزال هُناك حركةٌ في شارع فولهم بلاس الذي تقع على جانبه المستشفى، أقفُ بالقرب من كتلة هنري مور. من تمثالَي المتكئَيْن إلى بعضهما بعضاً في مدخل المستشفى.

كوميديا الاسم

في هذا المستشفى البابليّ ينطقون اسمي حسب ألسنتهم، وربّما حسب أسنانهم. مرّة يُنادونني يايا، مرّة يهياي، وثالثة يهي. في الخارج لي أسماء أخرى تنتظرُني لتٌوَاصلَ عملها الآلي على ما يبدو. مَن أنا؟ لا أعرف. سوى هذا الجسَد المُتعثّر بأسمائه.
يدبُّ الاسمُ وَحْدَهُ على الطريق ويكرج.
الذين سَموني ماتوا. ترَكوا لي هذا الاسمَ يتضخَّم في الدوائر والمعامَلات، ويتكفّل بمَصيره.
ماذا في الاسم؟ سؤالٌ قديم.
ما الاسْم؟
لثغٌ مرحٌ،
إيقاع يتجدّد على كلّ شفة؟
أم رَمل، مِلح ثقيلٌ يُطهّرون به كلَّ ما يُفسدُه اللسان؟
لا اسم فارغًا. ارْمِهِ سَيَرِنُّ كحبّة جوز صُلبة.
لا اسم ملآن.
اكسِر حبّة الجوز هذه: فارغة.
ارْم الاسم في أيّ أرض يُصبح شجرة.
في أي رحم يُصبح سلالة. لكنه يظلُّ وحيدًا مع ذلك.
من يحمل عبء الآخر: الاسم أم الجسد؟ هذه المرة عرفت أن الاسم سيد التخلي. ماذا يبقى من الاسم؟ جرح الولادة، ندبة الموت، لا شيء. تحت الاسم اسم. اكشطه سترى الترسبات الألفية للجفاف الذي استمر طويلاً هنا. أسئلتي كانت أسهل عندما كان اسمي يمشي جانبي كرفيق غير مرغوب فيه. من منا المصاب بالورم، ويرزح تحت الكتلة؟ جسدي أم اسمي؟
أمجد ناصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى