الرأي

الأسباب الحديثة لفكرة التفوق

عبد الإله بلقزيز

خرجت أوروبا من تجربتها في النهضة والإصلاح الديني أشد قوة من ذي قبل، لتخطو نحو مغامرتها الحضارية الكبرى التي ستتوجها، منذ القرن السابع عشر، القوة الأولى في العالم والنموذج الآخذ في الصيرورة، شيئاً فشيئاً، الأكثر جاذبيةً والأَغْرى بالاقتداء.
ما من شك في أنها دفعت ثمناً باهظاً في هذه المسيرة الطويلة للخروج من العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة؛ وليست الحروب الدينية ومآسيها (1522- 1648)، وملايين قتلاها الذين سقطوا في النزاع الدموي الكاثوليكي- البروتستانتي إلا واحدة من أظْهر تلك الأثمان الباهظة التي دفعَتْها، قبل أن تضع الحروب أوزارها – بموجب معاهدة ويستفاليا (1648) – فتتفرع أوروبا لبناء نفسها من جديد.
في الأثناء، كانت وجوهٌ من الحيوية قد دبت في أوصال أوروبا وشرعت في إطلاق نتائجها منذ ذلك الحين من القرن السابع عشر. كانت الثورة العلمية قد انطلقت في مجالات الفلك والميكانيكا والفيزياء والهندسة، في القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر؛ وشرعتِ العلاقاتُ الرأسمالية للإنتاج في التكون والفُشُو التدريجي في أنحائها كافة؛ ووقَع التوسع في استخدام البارود – الذي دخل إلى أوروبا في القرن الثالث عشر- وتصنيع السلاح الناري؛ وأحرز الصراع من أجل توزيعٍ جديد للسلطة نجاحاتٍ ملحوظَةً كان من تبدياتها تزايُد دور المجالس التمثيلية والحياة البرلمانية في النظام السياسي، والتقييد المطرد للحكم الملكي المطلق؛ وتوسع انتشار الأفكار الإنسانوية والتيارات العقلانية وتيارات النزعة التجريبية (في القرن السابع عشر). وبكلمة؛ كانت أوروبا قد شرعت، في ذلك الإبان، في بناء ذاتها من جديد: علومها، وإنتاجها، ودولها الوطنية الحديثة، وجيوشها…
مكنها البناء الذاتي هذا من تحصين أمنها في وجه الأخطار التي تهددته، طويلا، وهزته بعنف منذ سقطتِ القسطنطينية في أيدي العثمانيين، منتصف القرن الخامس عشر، بل منذ حَصَلَ توسعٌ في رقعة نفوذ الإمبراطورية المغولية إلى وسط أوروبا وشرقها. هكذا أمكنها، مثلاً، أن تُوقِف الزحف العثماني على أبواب فيينا، وأن تُجبر الإمبراطورية على الانكفاء العسكري، بدءا من القرن السابع عشر، وصولا إلى إلحاق هزائم متكررة بها أفقدتْها سيطرتها على الأقاليم الأوروبية منها (آخرها البلقان)، قبل فرض انكفائها إلى داخلها القومي التركي بعد الحرب العالمية الأولى. وما من شك في أن كسر أوروبا شوكة الإمبراطورية العثمانية، بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فتح أمام التطور الأوروبي آفاقاً هائلة، ورفع عنه الكابح العسكري الذي ظل يكبحه طويلاً.
تَدين أوروبا في صعود نجم مدنيتها – قبل بداية جنونها الجماعي في الحربيْن العالميتين – إلى آثار عامليْن رئيسيْن:
أولهما؛ فتوحاتُها الكبرى التي انطلقت موجتُها منذ مطالع القرن السادس عشر، والتي تمظهرت في سلسلة ممتدة من المكتسبات التي أنجزتها: النهضة، الإصلاح الديني، الثورة العلمية، الثورة الصناعية، عصر الأنوار، الثورات السياسية، عمليات التوحيد القومي، الدولة الوطنية الحديثة، النظام الديمقراطي ثم العلمنة. ولا مِرْية في أنه أمكن أوروبا، بهذه الفتوحات الهائلة، أن تصنع مدنيةً جديدة قوية لا تُضارَع أهميةً وقدرةً على التأثير في المحيط الكوني.
وثانيهما؛ زحفُها إلى خارجها وتمدد سلطانها على العالم من طريق عملية الاستعمار، ومعه زحفُ نموذجها الحضاري إلى أصقاع شتى من المسكونة. والاستعمار، بما هو ثمرةُ انعطافٍ في النظام الرأسمالي وثمرةُ ثورةٍ في منظومة الحرب والسلاح، لم يكن محض تَغَلغُلٍ في المستعمرات وإخضاعٍ لها بالسلاح (فرضتْهُ المصالح الاقتصادية)، بل كان – إلى جانب ذلك – تَغَلْغُلاً ثقافياً واجتماعيا عميقا مكن أوروبا من نَقْل بعض معطيات منوالها الاجتماعي إلى البلدان الموطوءة وشعوبها. ومن هنا لم تعد مدنيتُها نموذجاً تعيشه وحدها، داخل أسوار قارتها، بل صارت ذاتَ تأثيرٍ في مجتمعات أخرى خارجها تستعير منها بعضَ تلك المعطيات.
وعلى ذلك، تتغذى فكرةُ التفوق، في الوعي الأوروبي المعاصر، تجاه الأمم والثقافات والمجتمعات الأخرى، من تلك الفتوحات التي أنجزتها هي في القرون الأربعة الأخيرة، ومن تجربة السيطرة على العالم التي خاضتها في حقبتها الكولونيالية. من تجربة مكتسباتها تولدت لديها عقيدة التفوق الحضاري أو، قل، ترسخت أكثر (إن أخذنا في الاعتبار جذورها الدينية القديمة في الوعي الجمعي)؛ ومن تجربة السيطرة الكولونيالية رسخ لديها معتقد القوة المطلقة الذي أشعرها بأنها سيدة العالم، المالكة حقا حصريا في حكمه وقيادته وفرض المعايير والقوانين عـليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى