شوف تشوف

شوف تشوف

الأمور إلى غير أهلها

معضلتنا في هذا البلد السعيد أننا لا نضع دائما الأشخاص المناسبين في الأماكن المناسبة، وحتى إذا صادف وفعلنا ذلك، فلا أحد منهم يقوم بالمهام الموكولة إليه، ولا يكتفي بممارسة تلك المهام في حدود الاختصاصات التي يخولها له القانون، فيتطاول على مهام غيره ويفتي بما ليس له به علم، ويتدخل في ما لا يعنيه، حتى أننا نجد أنفسنا أمام الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم «إذا أسندت الأمور إلى غير أهلها فانتظر الساعة»، وقد تكون الساعة بمفهومها الشرعي الخاص الذي يقصد به يوم القيامة، وقد تكون بمعناها العام الذي يشمل أي ساعة عصيبة أخرى قد تجتازها أمة معينة، كالأزمة الاقتصادية أو الاضطراب الاجتماعي وغيرها من النتائج المباشرة لعدم كفاءة الأطر العاملة في الدولة.
فهناك مثلا بعض القضاة، من الذين بدل أن ينشغلوا بالحكم في القضايا المعروضة عليهم طبقا للقانون، وأن يحكموا فيها بالعدل، تجدهم يمارسون الصحافة الهاوية، أو يتقمصون دور المحامي، ويستقبلون «الزبائن» بمكاتبهم، وربما تجدهم يجلبون لهم الشاي والقهوة و«كعب غزال»، ويناقشون معهم تفاصيل قضيتهم بدون أدنى تحفظ، ثم يتسلمون منهم وثائق وأظرفة قد يحتوي بعضها على أوراق نقدية سواء بعلمهم أو بدون علم، مما يجر عليهم المتاعب والويلات مثلما حدث مع القاضي مشقاقة الذي يوجد اليوم رهن الاعتقال الاحتياطي بسجن عكاشة بسبب ضبطه متلبسا بتلقي مبالغ مالية من أحد المتقاضين في مكتبه، في إطار تنسيق مسبق مع مصالح وزارة العدل، أو كما حدث قبله مع ماء العينين قاضي محكمة النقض، الذي بدل أن «يتبايع ويتشارى» مع بعض المواطنين في عقار في ملكية ابنته كما يدعي، عن طريق موثق أو عدل ويبتعد عن الشبهات، راح يستقبل المشترين بمنزله ويتسلم منهم مبالغ طائلة نقدا كتسبيق عن البيع كما يقول هو، وكرشوة كما يقول صك الاتهام.
بعض المحامين من جانبهم بدل أن ينشغلوا بالدفاع عن موكليهم بما يرضي الله وضميرهم ويستندوا إلى فصول القانون وأعراف مهنتهم النبيلة، تجدهم تحولوا إلى سماسرة يتوسطون في القضايا المشبوهة بين القضاة الفاسدين والمتقاضين منعدمي الضمير، فلا تكاد تجد فوق طاولة مكتبهم مرجعا واحدا أو مسطرة قانونية أو حتى مجرد جريدة، لأنهم تعودوا على ما يتم تداوله تحت الطاولة وليس فوقها.
أما بعض رجال الشرطة والدرك فبدل أن يعملوا على إنفاذ القوانين بجدية وتجرد تجدهم يجتهدون في تعنيف المقبوض عليهم، مقابل أجر ممنون، ويتفننون في انتزاع الاعترافات منهم بكل الوسائل غير المشروعة، وفرض وجهة نظرهم في توصيف مسار القضية من خلال محاضرهم، و«تغراق الشقف» لهم بما ينسجم ومنطق الإدانة أو البراءة حسب مصلحة الجهة «المانحة»، حتى ولو كانت الوقائع المدونة في المحضر مخالفة للحقيقة.
أما بعض أشباه رجال ونساء التعليم فقد تحولوا من زمان إلى تجار ساعات إضافية، أو مسربي أسئلة امتحانات، أو إلى تجار نقط مقابل المال أو مقابل الجنس أو مقابل أية منفعة أخرى، ونجد الشيء نفسه بالنسبة لبعض أشباه الصحافيين الذين بدل أن يقوموا بأداء رسالتهم في تنوير الرأي العام ومراقبة الساهرين على الشأن العام، يتحولون إلى مخبرين موسميين، أو أبواق دعاية لهاته الجهة أو تلك، أو صيرفيين يتملقون أصحاب القرار من أجل الحصول على إعلانات إشهارية أو أية امتيازات أخرى، والشيء نفسه يمكن أن نقوله عن أشباه المقاولين وأشباه التجار وأشباه الأطباء وأشباه المهندسين وغيرهم.
المشكل أن كل هؤلاء يشكلون بنية فساد متكاملة، ويعارضون أية محاسبة ويعرقلون ما تمكن عرقلته من الإصلاح خوفا من انكشاف فسادهم أو عدم كفاءتهم أو هما معا، ويتمسكون بالكراسي والمسؤوليات ولو أدى ذلك إلى عرقلة تنمية الوطن بكامله.
آخر صرخة في موضة التطاول على اختصاصات الآخرين، هي ما أصبحنا نشاهده اليوم عند بعض وزرائنا الذين من فرط جهلهم بالأدوار الموكولة إليهم في مجالات معينة، أصبحوا يفتون في أمور لا تخصهم، ومن ذلك ما صرح به «دلاي لاما» العدالة والتنمية الحسين الداودي للصحافة حيث صرح، دون أن يرف له جفن، بأن المواطنين إذا أرادوا التخفيض من سعر السمك عليهم أن يقاطعوه ليومين، ليجد الباعة أنفسهم في مأزق، الشيء الذي سيجبرهم على التخفيض من ثمن السمك، لأن البائع سيعي بأنه هو الخاسر في نهاية المطاف، بحسب فهم الوزير.
فهل السيد الوزير واع بما يقول، وهل يجوز له أن يتصرف بعقلية الإنسان الأمي، ويسعى في خراب بيوت باعة السمك، والذين لن يتضرر منهم على كل حال إلا أولئك المساكين من بائعي السمك بالتقسيط من أمثال المرحوم محسن فكري، أما أصحاب مراكب الصيد في أعالي البحار وتجار السمك بالجملة فلن تضرهم مقاطعة المواطنين لهم يوما أو يومين أو حتى سنة، لأن منهم من يربح الملايير في اليوم الواحد، ومنهم من لا يحتاج أصلا إلى بيع السمك داخل السوق الوطني ويهرب بضاعته لتحط على موائد الأوربيين وبأثمان مناسبة عما هو عليه الأمر عندنا، فيما تحط أثمانها في حساباته بالعملة الصعبة لدى بنوكهم.
ونتساءل مع السيد الوزير العبقري ماذا لو أن المواطنين استجابوا لتحريضه وراحوا بدل مقاطعة السمك وحده يقاطعون محطات البنزين من أجل خفض ثمنه والبنوك لخفض أسعار الفائدة وشبكة الطرق السيارة من أجل خفض تعرفتها وغيرها من المؤسسات الاقتصادية والمالية، فهل يمكن لسيادته أن يخبرنا «فين غادي نوصلو» ؟
أما السيد المصطفى الرميد، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، فقد عاد بنا إلى زمن وزير الدولة المرحوم مولاي أحمد العلوي الذي كان يلقبه المغاربة تنذرا بوزير «عدة أشياء» ministre des tas كترجمة ساخرة لعبارة «وزير دولة»، حين رد على تساؤلات أعضاء لجنة العدل والتشريع بمجلس المستشارين حول الاختصاصات المسندة له في حكومة العثماني بالقول «أنا وزير كل شيء»، ولما رأى أنه «عور ليها العين» أردف موضحا بأنه عندما يقول وزير كل شيء، فهذا يعني أنه لديه الحق في التدخل ولو معنويا، في قطاعات حكومية أخرى، نظير الصحة والتشغيل والسكن، وكل ما يرتبط بحقوق الإنسان.
فأن تزعم بأنك «وزير كل شيء» معناه أنك «وزير لا شيء»، فلا نعتقد أن معالي وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان سيحشر أنفه في أشغال وزراء آخرين كالداخلية والخارجية والأوقاف والعدل أو أنه سيتدخل معنويا عند أي زميل له في الحكومة لكي يردد على مسامعه أسطوانته المشروخة عن الخصوصية المغربية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وما تقول به في مجال اختصاصه، كما لو أن بقية الوزراء أميون في مجال ثقافة حقوق الإنسان، ولا ينتظرون إلا الأستاذ المصطفى لكي يدرسها لهم، ويحثهم على إدماجها في سياساتهم القطاعية.
فالوزير الذي يحترم القانون ينضبط للاختصاصات التي يحددها المرسوم المنظم لوزارته، ولا يسمح لغيره أن يتطفل عليها، ويكفي أن نعود إلى المرسوم المتعلق باختصاصات وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان المنشور مؤخرا بالجريدة الرسمية لنلاحظ أنه اكتفى في الحقيقة بتحويل المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان إلى مستوى وزارة من أجل إسنادها إلى الرميد، دون إيجاد حل تشريعي لوضعية المحجوب الهيبة كمندوب وزاري معين بظهير ضمن تشكيلة الوزارة الجديدة، كما اكتفى المرسوم بإسناد مهام الكتابة الدائمة للجنة الوطنية للقانون الدولي الإنساني للوزارة الجديدة بعد سحبها من وزير العدل أوجار، حتى يجد لسيادة الوزير مهمة حقيقية ينشغل بها.
غير أنه بدل أن يمارس السيد وزير العدل السابق مهامه كوزير دولة مكلف بحقوق الإنسان عبر بلاغات وقرارات رسمية، وبدل أن يطلعنا على مجريات الأمور بمنطقة الريف، ويصاحب الوفد الوزاري إلى هناك، ويحاور المحتجين بلغة الحق والقانون، راح يقصف المديرية العامة للأمن الوطني من خلال مواقع الفيسبوك، كأي مناضل حزبي، وينتقد تدخل رجال الأمن لفض اجتماع شباط غير المرخص به، والمحكوم بمنعه بمقتضى حكم استعجالي صادر باسم الملك وطبقا للقانون، ويشكك في الظروف التي صدر فيها الحكم عن رئيس المحكمة الابتدائية بسلا، ويلبس جبة المحامي دفاعا عن حليفه شباط الذي اختفى عن الأنظار هذه الأيام خوفا من أن يتم إلحاقه بالزفزافي ورفاقه، بعدما اتهم أجهزة الدولة بمحاولة اغتياله هو وأبناؤه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى